غسيل النفط الروسي:
«مصابغ» صينية و«سفن أشباح» إيرانية (1 من 2)
تعيش أسواق الطاقة أوسع عملية في التاريخ لغسيل النفط الروسي، بهدف الالتفاف على العقوبات الأميركية والأوروبية والسقف السعري. والمضحك المبكي، أن هذه العملية تتم بمعرفة أميركا ومشاركة أوروبا ودول أخرى في الفلكين الصيني والأميركي. ما يطرح إشكالية سياسية، قانونية، مالية، وأخلاقية تتمثل في جانبين:
- الأول: تشجيع وتسهيل وتجاهل قيام روسيا برسم خريطة موازية لتجارة النفط وطرق الإمداد والموردين عبر عملية معقدة لنقل الخام بناقلات غير قانونية تعرف “بأسطول الأشباح”، إلى “مغاسل” في ماليزيا والهند والصين وغيرها من دول في آسيا والشرق الأوسط وحتى أميركا الجنوبية، لتنظيفه وإصدار شهادات منشاً جديدة أو تكريره وإعادة تصديره كـ “نفط أبيض” و”مشتقات نظيفة” إلى الدول الغربية وتحديداً إلى أوروبا.
- الثاني: تميز العقوبات على روسيا بقدر كبير من الضبابية في التصميم والتساهل في التطبيق بعكس العقوبات المفروضة على إيران وفنزويلا، ما يفضح الهدف الحقيقي وهو استمرار تدفق النفط الروسي بأقل الاسعار، ما يضمن إشباع الأسواق من جهة وحرمان موسكو من نصف العائدات المالية تقريباً. وهو ما تهدد أميركا باستخدامه ضد السعودية ودول “أوبك” بتحريك مشروع القانون المعروف بإسم “نوبك” NOPEC الذي يسمح لوزارة العدل الأميركية بمقاضاة هذه الدول بتهم الاحتكار والتلاعب بسوق الطاقة.
أوسع عملية بالتاريخ لغسيل النفط الروسي والالتفاف على العقوبات، بمعرفة أميركا ومشاركة أوروبا !!
بدأت الحكاية عندما أعلنت أميركا الحظر على واردات النفط والمنتجات النفطية الروسية كرد على غزو أوكرانيا. وتبعها الاتحاد الأوروبي بفرض حظر مماثل على النفط الخام المنقول بحراً مع فرض سقف سعري في 5 ديسمبر 2022. ومن ثم حظر تصدير المنتجات النفطية في 5 فبراير الماضي. حيث سادت حالة من الحذر والتخوف من نقص كبير في الإمدادات وارتفاع أكبر بالأسعار. ولكن لا الإمدادات تراجعت ولا الأسعار ارتفعت، ولتتضح فصول حكاية تهريب وغسيل النفط الروسي.
كيف يتم غسيل النفط
لنلاحظ أولاً، ان الحظر و السقف السعري، كانا مصممين بشكل واضح لخنق تصدير المشتقات النفطية أكثر من النفط الخام. وثانيا؛ إعلان روسيا على لسان المتحدث بإسم الكرملين دميتري بيسكوف “أنها لن تبيع النفط للدول التي تفرض سقفاً للسعر”. الأمر الذي خلق الشروط اللازمة لنشوء آلية تهريب وغسيل النفط ونموها المتسارع، باعتبارها عملية “رابح ـ رابح”. فالدول الغربية تحقق هدفها بتشديد الخناق على روسيا، ولكنها تضمن حصولها على النفط والمشتقات بتكلفة مقاربة لما كانت قبل الحظر. والهند والصين وماليزيا وغيرها كثير من الدول، تشغل مصافيها وتحقق الأرباح. وروسيا تضمن تصدير نفطها حتى لو بأسعار أقل.
أما كيف تتم العملية فيمكن اختصارها بطريقتين:
- مهربون تحت جنح الظلام
الطريقة الأولى تعتمد وسائل تقليدية طورتها بشكل أساسي إيران وفنزويلا، وتقوم على شحن النفط على متن ناقلات غير شرعية. وتقوم هذه السفن بإطفاء أجهزة التتبع ومن ثم تغيير اسمائها والأعلام التي ترفعها عدة مرات خلال الرحلة الواحدة. ليتم بعد ذلك تفريغ الحمولة في موانئ الدولة المستوردة بعد تغيير شهادة المنشأ. كما تقوم هذه السفن في حالات أخرى بنقل النفط إلى عرض البحر حيث يتم تفريغه في ناقلات شرعية مع شهادة منشأ جديدة. وهناك طريقة أكثر تعقيداً يتم خلالها مزج النفط المهرب بنفوط دول أخرى مع شهادة منشأ جديدة.
الهدف الحقيقي للعقوبات، هو ضمان تدفق النفط الروسي مع حرمان موسكو من نصف العائدات المالية
2… ودول في وضح النهار
الطريقة الأولى هي “غسيل هواة” تقوم به بعض الشركات والمهربين، أما الطريقة الثانية فهي “غسيل محترفين” تتولاه دول وحكومات ويتم بإحدى الطرق التالية:
- بيع روسيا النفط الخام إلى دولة ثالثة في شرق آسيا وشمال أفريقيا أو حتى في أميركا الجنوبية، تكون مستثناة من الحظر أو لا ينطبق عليها شرط السقف السعري. حيث تقوم هذه الدول بإعادة بيعه إلى إلى أوروبا، إما كنفط خام كما تفعل ماليزيا باعتبارها دولة نفطية، وإما كمنتجات مكررة ووقود كما تفعل الهند والصين وغيرهما. وهذه العملية لا تخرق العقوبات ولكنها تؤدي إلى زيادة تكاليف الشحن والتأمين مع مخاطر عالية، ما يعني اضطرار روسيا لتخفيض كبير في أسعار الخام لضمان إيجاد مشترين.
- سماح بعض الدول مثل الصين والهند تحديداً للشركات الخاصة والمصافي بزيادة وارداتها من النفط الروسي حتى لو تم ذلك بواسطة “أسطول الأشباح”. حيث يتم تكريره وإعادة تصديره وليسجل في وثائق الجمارك كمنتجات هندية أو صينية.
- استيراد الدول النفطية المنتجات الروسية المكررة بأسعار رخيصة لاستهلاكها في أسواقها المحلية، ولتقوم بتصدير نفطها الخام المخصص أصلاً للتكرير.
أسطول أشباح وناقلات رمادية وسوداء
كل هذه الطرق وغيرها كثير، تعتمد في نجاحها، على وجود أسطول من الناقلات “الخارجة على القانون” لنقل النفط. ومع أن هذا النوع من الناقلات كان موجوداً منذ زمن طويل واستخدم في نقل شحنات مرتبطة بفساد المسؤولين الحكوميين خاصة في بعض الدول الأفريقية، إلا أن الفضل في “مأسسته” وتطويره يعود إلى إيران وفنزويلا في سياق سعيهما لخرق العقوبات الأميركية والغربية عليهما. ويعرف هذا الأسطول الغامض بأسطول “الظل”، او “سفن الأشباح” لأنه لا يعرف على وجه التحديد من يمتلكه ويديره.
«أسطول الأشباح» طورته إيران وفنزويلا، ولا يعرف من يمتلكه ويديره
وبات الأسطول العالمي لناقلات النفط مقسم حالياً إلى ثلاثة أنواع هي:
- الناقلات البيضاء: التي تعتمد كافة معايير وشروط القانون والتأمين والسلامة وتلتزم بمندرجات العقوبات. ولا تتعامل مطلقاً بالنفط الروسي أو الإيراني.
- الناقلات السوداء: التي لا تتعامل إلا بالنفط الروسي والإيراني، وهي إما من “قدامى المحاربين” في حروب إيران وفنزويلا لخرق العقوبات الغربية، وإما ناقلات تم استدعاؤها من محطات الخردة أو تم شراؤها مؤخراً من شركات تريد التخلص منها.
- الناقلات الرمادية: وهي ناقلات شرعية ولكن يتم استخدامها في رحلات محدودة لشحن النفط الروسي إما إلى عرض البحر لنقله إلى “سفن الاشباح” وإما إلى دول مثل الهند وماليزيا حيث يتم تغيير شهادة المنشأ أو تكريره وإعادة شحنه بطريقة قانونية.
نمو هائل في أسطول الأشباح
مع أن حجم هذا الأسطول غير معروف على وجه الدقة، لكنه شهد نمواً كبيراً خلال الأشهر الستة الأخيرة وخاصة منذ ديسمبر الماضي بعد سريان الحظر على النفط الروسي. وتشير تقديرات متطابقة إلى انه بات يضم حالياً بين 350 و 600 ناقلة. ونظراً لعدم وجود عرض كاف من الناقلات، فقد تم اللجوء إلى إعادة تشغيل ناقلات قديمة كانت خارج الخدمة وتستخدم كخزانات عائمة. وكذلك قيام عدد من الشركات المسجلة في دول شرق أوسطية وهونغ كونغ بشراء ناقلات أوروبية كانت مخصصة لنقل النفط الروسي. ويقول سيرجي فاكولينكو الباحث في مؤسسة كارنيغي والمدير السابق في إحدى شركات النفط الروسية: “أن جزءا كبيراً من الشركات “الوهمية” التي تأسست مؤخراً والتي قامت بشراء الناقلات، ترتبط بعلاقات مع الدولة الروسية أو مع بعض اللاعبين المرتبطين بها سياسيًا”.
تنافس بين إيران وروسيا بسبب ميل ملاك سفن الأشباح للتعامل بالنفط الروسي
تنافس وصراع روسي إيراني
هذه الحقيقة تقود إلى تطور لافت، وهو اشتعال التنافس والذي قد يتحول إلى صراع بين روسيا وإيران التي تعاني صعوبات كبيرة في إيجاد الناقلات لتصدير نفطها، وباتت تشعر بالمرارة من إدارة روسيا الظهر لمصالحها بعد ان لعبت معها دور “بيت الخبرة” ووضعت بتصرفها بعض الناقلات.
وتشرح سفيتلانا لوباشيوفا من شركة EA Gibson الوضع بقولها: أن العقوبات الغربية على إيران أكثر تشدداً وقسوة من العقوبات المفروضة على روسيا. الأمر الذي جعل شحنات النفط الروسية أكثر جدوى بكثير من نواحي السعر وسرعة التحميل والتفريغ والتساهل في المعاملات، من الشحنات الإيرانية التي غالباَ ما تحتاج إلى وقت أطول في البحار. كما تحتاج إلى نقلها إلى أكثر من سفينة لإخفاء مصدرها. كما باتت المصافي في الصين تحديداً تعطي الأولوية للنفط الروسي في التفريغ. حيث تنتظر بعض الناقلات الإيرانية دورها لأكثر من شهرين. علماً ان عدد الناقلات التي تستخدمها إيران لخرق العقوبات لا يتجاوز 16 ناقلة وفقًا لأبحاث صحيفة فاينانشيال تايمز. في حين تحتاج روسيا، كما يقول فيكتور كوريلوف من شركة ريستاد انيرجي إلى “أكثر من 240 ناقلة للحفاظ على مستوى صادراتها الحالية. وتقول لوباشيوفا “لقد رأينا عدداً من الناقلات المعروفة تاريخياً بنقل النفط الإيراني محملة بالنفط الروسي.
نمو هائل في أعداد «أسطول الأشباح» خلال الأشهر الماضية وحاجة روسيا لوحدها 240 ناقلة
ومعروف ان روسيا تعتمد في تصدير النفط على الشحن البحري لأن خطوط الأنابيب الرئيسية الموجود لديها؛ هي خط يربط سيبيريا بوسط أوروبا بسعة 1.4 مليون برميل يومياً. وخط يربط شرق سيبيريا بالصين بسعة 1 مليون ب/ي. أما الخطوط الأخرى فتصل إلى البحر كالخط الذي يمر بكازاخستان إلى ميناء نوفوروسيسك على البحر الأسود. ما يعني وجود حوالي 5 ملايين برميل يومياً تحتاج إلى وسيلة لتصديرها بحراً. علماً ان المرافق القريبة من الصين والهند وصلت إلى حدود طاقتها القصوى للتصدير حيث تضطر روسيا إلى شحن النفط إلى هاتين الدولتين من المرافق الموجودة على بحري البلطيق والأسود.
وذلك يعني ان روسيا ستقاتل بكل قوتها لوضع يدها على أي ناقلة متوافرة سواء كانت سوداء او بيضاء أو رمادية لتتمكن من تصدير النفط ولتجنب تخفيضات كبيرة في الانتاج. خاصة وأنها تعاني نقصاً شديداً في مرافق التخزين الإستراتيجية. وبغير ذلك ستكون ستكون مضطرة لتخفيض إنتاجها ما بين 700 ألف و 1.5 مليون برميل يومياً. وكانت روسيا كانت قد أعلنت أنها ستخفض الإنتاج بمقدار 500 ألف برميل يومياً في مارس الحالي، وهو أمر غير مؤكد وربما جاء في سياق الضغط لرفع الأسعار او تخفيف العقوبات.
إقرأ في الجزء الثاني
زيادة الصادرات وزيف العقوبات
- العقوبات التي وصفتها أميركا وأوروبا بغير مسبوقة، واعتبرها الرئيس بوتين “إعلاناً لحرب اقتصادية”، يبدو أنها عقوبات نظرية وحرب بذخيرة خلبية، فالصادرات الروسية لم تنخفض، بل ربما ارتفعت باعتماد آلية التصدير عبر “سفن الأشباح”. كما ان واردات الدول الأوروبية من النفط الروسي لم تتأثر بل باتت تأتي عبر أطراف ثالثة. ولتكن الحقيقة كما لخصتها وزيرة الخزانة الأميركية بقولها: العقوبات تحقق أهدافها بجعل النفط الروسي متاحاً في السوق مع الحد من إيرادات روسيا المالية”.