سؤال تنقصه اللياقة:
هل يشعل النفط الإيراني والروسي حرب أسعار جديدة
تراجعت أسعار النفط بحدود 25 في المئة منذ بداية العام. ولا يبدو انها ستتحسن في ظل الخروقات الإيرانية والروسية الكبيرة لاتفاقيات حصص الإنتاج، ولمبادرة التخفيض الطوعي الأخيرة. فهل يقود ذلك إلى جولة جديدة من حرب الأسعار بين الدول المنتجة، أم يتم تداركها تهيباً من نتائجها المدمرة. ليس على الإيرادات المالية وحسب، بل ربما على العلاقات السياسية والتفاهمات بين السعودية ودول الخليج من جهة وإيران وروسيا من جهة أخرى.
لنترك جانباً حتى محاولة الإجابة، فهي محكومة بمتغيرات شديدة التعقيد والتشابك لا أحد يمكنه ادعاء معرفتها. ولنكتفي بقراءة بضعة أسطر في صحيفة الوقائع والتطورات:
السطر الأول: لا ركود ولا مؤامرات
تراجع الأسعار ليس بسبب نقص الطلب، كنتيجة للتخوف من تباطؤ النمو وأسعار الفائدة والتضخم إلى آخر المعزوفة، التي تروج لها أميركا بوسائل إعلامها ومراكز دراساتها. كما أنه ليس بسبب مؤامرات أميركا وقدراتها «الأسطورية» على التحكم بالأسواق والأسعار، إلى آخر المعزوفة التي يروج لها أعداء أميركا وخصومها. فقد أعلنت وكالة الطاقة الدولية عن توقع ارتفاع الطلب العالمي خلال العام 2023 بحوالي 400 ألف برميل يومياً، ليبلغ رقماً قياسياً قدره 102 مليون برميل. ويعود الارتفاع إلى نمو الاقتصاد الصيني بمعدلات أعلى من المتوقع. وكذلك نمو اقتصادات الهند وبقية الدول النامية الكبرى. إضافة إلى تراجع حالة التشاؤم بشأن نمو الاقتصادات الغربية.
السطر الثاني: خروقات ايرانية ـ روسية
السبب الحقيقي للتراجع هو ضخامة المعروض نتيجة اندفاع روسيا وإيران وإلى حد ما فنزويلا إلى الضخ بأقصى طاقاتهم الإنتاجية ضاربين عرض الحائط باتفاقيات تخفيض الانتاج وتقاسمه في إطار أوبك و «أوبك بلس». وبإصرار مستغرب على اعتماد المعادلة القاتلة، أي الإنتاج بأقصى المعدلات، والبيع بأقل الأسعار. فقد سجل الإنتاج الإيراني في شهر أبريل الماضي أعلى مستوى له خلال 4 سنوات مرتفعاً بنسبة 50 في المئة عن العام 2020 .
أما إنتاج النفط الروسي، الذي كان متوقعاً أن ينخفض إلى حوالي 8.7 مليون ب/ي، بسبب العقوبات والصعوبات الإنتاجية، فقد ارتفع إلى حوالي 11 مليون ب/ي في شهر أبريل. ويتوقع أن يبلغ المتوسط السنوي 10.73 مليون برميل تبعاً لوكالة الطاقة الدولية. وتوقعت الوكالة في آخر تقاريرها، أن يبلغ المتوسط اليومي لإنتاج كل من روسيا، وإيران، وفنزويلا في 2023 حوالي 14.3 مليون ب/ي بارتفاع قدره 1.3 مليون برميل.
المعادلة القاتلة هي الإنتاج بأقصى المعدلات والبيع بأقل الأسعار
السطر الثالث: الانتصار على الشركاء
قد يكون مفهوماً، اعتماد الدول الخاضعة للعقوبات لتلك “المعادلة القاتلة”، للحصول على مزيد من الإيرادات المالية. ولكنه ليس مفهوماً ولا مبرراً تصوير الأمر وكأنه كسر للعقوبات وانتصار على أميركا. لأنه في الحقيقة انتصار على بقية الشركاء في «أوبك بلس»، وهزيمة أمام أميركا. فالمطلوب أميركياً إغراق الأسواق بالنفط الرخيص. وهو ما يفسر ان العقوبات الغربية لم تحظر تصدير النفط الروسي، بل وضعت سقفاً لأسعار تصديره وذلك ما تفعله روسيا بالظبط. وهو ما يفسر أيضاً الارتفاع الصاروخي لصادرات النفط الإيراني بأسعار متدنية تحت نظر أساطيل أميركا وأقمارها الاصطناعية. يضاف إلى ذلك غض نظر أميركا والدول الأوروبية عن النمو الهائل في أعداد وانشطة أسطول الظل أو سفن الأشباح، خلال العام الماضي، والمخصصة لتهريب النفط الروسي والإيراني. فقد قفز عدد تلك الناقلات من حوالي 16 ناقلة عرفت تاريخياً بتهريب النفط الإيراني إلى أكثر من 500 ناقلة في شهر مارس الماضي. من بينها حوالي 240 ناقلة دخلت الخدمة خلال الأشهر الستة الماضية.
السطر الرابع: الخروقات تحقق مصالح أميركا
خلاصة ما جاء في هذا السطر، أن معادلة وفرة الإنتاج بأسعار متدنية، تحقق هدفاً عزيزاً على قلب الرئيس بايدن. يتمثل في ترميم شعبيته المتداعية، بتخفيض أسعار الوقود للمستهلكين. لأن تراجع سعر البرميل بمقدار 10 دولارات يعني انخفاض سعر غالون الوقود بحوالي 25 في المئة. كما تسمح هذه المعادلة لأميركا وبقية الدول الغربية، بإعادة بناء مخزونها الإستراتيجي من النفط “على رخيص”. وتم استنزاف المخزون خلال الفترة الأشهر الماضية في حرب تكسير الأسعار. يضاف إلى ذلك ان هذه المعادلة تساهم في تحقيق النمو الاقتصادي المنشود ومكافحة التضخم في آن واحد.
وفرة الإنتاج بأسعار متدنية هي المعادلة التي تحقق مصالح أميركا
ومع أن إدارة بايدن قد تواجه غضب لوبي النفط بسبب انخفاض السعر، لكن المكاسب أكبر بكثير. فأميركا التي تعتبر من أكبر الدول المنتجة، هي أيضاً أكبر دولة مستهلكة للنفط. فهي تستهلك 2 من كل 10 براميل يتم ضخها في العالم. ورغم التراجع النسبي لاستهلاكها ونمو الاستهلاك الصيني والهندي، فإن كمية النفط التي «ستحرقها» خلال العام الحالي تعادل تقريباً استهلاك الصين والهند مجتمعتين. (20.3 مقابل 21.4 مليون/ب/ي). أما نظم قصائد المديح للطاقة المتجددة والهجاء للطاقة الاحفورية، فذلك من «عدة الشغل» والصراع مع الصين.
السطر الخامس: الصين الرابح الأكبر
مكتوب باللغة الصينية، ونقرأ فيه ان الصين هي الرابح الأكبر من هذه «المعمعة». بعد ان تحولت إلى المستورد الرئيسي للنفط الروسي والإيراني، وبأسعار تقل بنسبة 50 في المئة أحياناً عن سعر السوق. وهو ما سمح لها بتشغيل مصافي التكرير بأقصى طاقتها وتصدير المنتجات إلى أوروبا وعدة دول آسيوية بأسعار السوق. وطبعاً فإن هذا النفط الرخيص يسهم في تعزيز نموها الاقتصادي. كما يسهم في تقوية قدرتها على المنافسة وعلى الصمود بوجه المساعي الأميركية لمحاصرتها وتقليص سيطرتها على الإنتاج الصناعي وسلاسل الإمداد.
السطر السادس: السعودية لم تعد «أم الصبي»
مارست السعودية طوال العقود الماضية دور«أم الصبي» في منظمة أوبك . واعتمدت لتحقيق ذلك ما عرف بدور “المنتج المرن” مستفيدة من ضخامة قدرتها الانتاجية. حيث تقوم مثلاً بتخفيض إنتاجها في حالات الفائض بأكثر مما تنص عليه اتفاقيات تقاسم الانتاج لحماية هذه الإتفاقيات ولتغطية عدم إلتزام الدول الأخرى بها. وكانت تتحمل في سبيل ذلك خسائر مالية ضخمة.
ولكن هذا الدور انتهى إلى غير رجعة قبل عشر سنوات، مع اندلاع حرب الأسعار في العام 2014، بعد رفض كل الدول تخفيض انتاجها لموازنة السوق بسبب الزيادة الكبيرة في الإنتاج أميركا (النفط الصخري) والمنتجين الآخرين من خارج أوبك وتجاوز دول أوبك لحصص الإنتاج. وأدت تلك الحرب إلى انهيار السعر من حوالي 114 دولار إلى 27 دولارا بحلول العام 2016. فتداعى الجميع لتدارك الكارثة وفي مقدمتهم روسيا. وتم في حينه إنشاء «أوبك بلس»، والاتفاق على تخفيض الانتاج. فتضاعفت الأسعار لتستقر عند حدود 70 – 80 دولاراً لأكثر من عامين.
في حرب أسعار 2020، أصبح سعر النفط سلبياً أي حامل العقد الآجل يدفع لمن يقبل الشراء، بسبب امتلاء كل مرافق التخزين
وتكرر الأمر بحذافيره في العام 2020، حين اختل ميزان العرض والطلب بسبب جائحة كورونا. واندلعت شرارة الحرب الثانية في 2 مارس 2020، فور رفض روسيا لاقتراح السعودية تخفيض الإنتاج بمقدار 1.5 مليون برميل يومياً لإعادة توازن السوق. إذ سارعت السعودية إلى الإعلان عن تخفيض أسعار نفطها والإيعاز إلى شركة أرامكو بزيادة انتاجها إلى 12 مليون برميل يومياً. ولتشهد السوق أكبر انهيار في الأسعار. إذ أصبح السعر في ربيع ذلك العام سلبياً. أي أضطر حاملو عقود النفط الآجلة لدفع مبالغ معينة للتخلص من أي عقد يقترب أجل استحقاقه لأنه لم يعد هناك أماكن للتخزين. ولخص رئيس شركة تانك تايغر الوضع في حينه بقوله: ” امتلأت كل الخزانات والناقلات وحتى عربات السكة الحديد.. ولم يبق لدينا سوى الطناجر والقدور”.
السطر الأخير: الخاتمة
مع ان هذه المعطيات أشبه بتجمع غيوم سوداء تسبق العاصفة، لكن وقوع حرب أسعار ثالثة، يبقى خاضعاً لمعطيات وعوامل قد تكون أكبر وأهم من أسعار النفط. ومنها التفاهم السعودي الإيراني برعاية الصين وأجواء التسويات في المنطقة. وكذلك التحسن المطرد في العلاقات الروسية مع السعودية وبقية دول الخليج. ولكن تجدر مراقبة ومتابعة المدى الذي ستذهب إليه روسيا والصين في خرق حصص الإنتاج. وكذلك مراقبة إقدام دول أخرى في أوبك أو أوبك بلس على خرق تلك الحصص، ومدى تأثير ذلك على الأسعار وعلى المصالح السعودية والخليجية. ما يدفعها إلى ترك الأسعار تتهاوى بفعل عامل العرض والطلب. فيتداعى الجميع لتدارك العواقب، وتتحقق أهداف حرب الأسعار بدون إعلانها أو حتى وقوعها.