حرب معادن الأعماق: هل يكون صدع كليبرتون، إقليم دونباس نرويجي
التنافس على معادن قاع البحار يهدد بإشعال صراعات سياسية وربما عسكرية
أشرنا في الجزء الأول إلى أن شهر يوليو يشكل منعطفاً في مسيرة التعدين البحري. لأنه بتاريخ 9 يوليو تنتهي مهلة السنتين التي التزمت بها الهيئة الدولية لقاع البحار للانتهاء من وضع قانون التعدين ولوائحه التنظيمية، تمهيداً لإصدار تراخيص التعدين التجاري.
تصر الهيئة الدولية لقاع البحار بدعم من أميركا و12 دولة غربية، على تأجيل إعطاء التراخيص لبدء مرحلة الاستخراج التجاري لمعادن قاع البحار. ويرجع ذلك إلى أسباب معلنة تتعلق بالبيئة. وإلى أسباب غير معلنة تتعلق بعدم وضوح معايير اقتطاع جزء من الأرباح لوضعها في صندوق خاص. ليتم توزيعها على كافة دول العالم باعتبار ثروة قاع البحار ” ملكية البشرية جمعاء”. كما نص قرار صادر عن الأمم المتحدة. كما قد ترجع إلى أسباب خفية تتعلق بالصراع الجيوسياسي وخاصة مع الصين.
19 عقداً لاستكشاف معادن قاع البحار
لكن الهيئة أصدرت حتى الآن 31 ترخيصاً لبدء أعمال التعدين الاستكشافية. وتبلغ مدة العقد 15 سنة. تتوزع هذه العقود حسب أنواع المعادن بواقع 19 عقداً لاستكشاف العقيدات (الكرات) المتعددة الفلزات في منطقة كلاريون ـ كليبرتون Clarion-Clipperton وحوض المحيط الهندي الأوسط وغرب المحيط الهادئ. و 7 عقود
تحتوي منطقة كلاريون كليبرتون وحدها على 21 مليار طن من المعادن النادرة . فهل ستسلمها أميركا للصين وروسيا «على طبق من منغنيز»
لاستكشاف الكبريتيدات المتعددة الفلزات في جنوب غرب ووسط المحيط الهندي، ووسط المحيط الأطلسي. إضافة إلى 5 عقود لاستكشاف القشور الغنية بالكوبالت في غرب المحيط الهادئ.
التعدين التجاري بدأ فعلاً
ومع أن الترخيص لا يجيز الاستخراج التجاري، إلا أن العديد من الشركات استغلت هذه التراخيص وبدأت فعلاً باستخراج كميات كبيرة. ومثال ذلك شركة (ذا ميتالز تي إم سي) الكندية metals.co التي أعلنت أنها استخرجت العام الماضي حوالي 5 آلاف طن من المعادن النادرة.
وفازت بهذه العقود شركات ترعاها كل من الصين وفرنسا وألمانيا والهند واليابان وكورية الجنوبية، وروسيا ومنظمة إنترأوشنميتال المشتركة “lnteroceanmetal Joint Organization” (وهي تحالف يضم بلغاريا، كوبا، تشيكيا، بولندا، روسيا، وسلوفاكيا). إضافة إلى دول جزرية صغيرة مثل كوك، وكيريباتي، وناورو، وسنغافورة، وتونغا.
ماذا يوجد في قاع البحار
تدل أعمال الاستكشافات على وجود المعادن النادرة في مختلف المحيطات والبحار، ومن بينها البحر الأحمر. ولكن أثبتت المسوحات أن المنطقة الأغنى هي كلاريون كليبرتون. ويطلق عليها إسم «حزام المنغنيز». وهي تقع في المحيط الهادئ بين المكسيك وهاواي. ويتراوح عمق المياه فيها بين 4000 إلى 6000 متر.
وتتوافر المعادن في قاع البحار بثلاثة أشكال هي:
- رواسب الكبريتيد حول الفتحات الحرارية المائية في قاع المحيط. وتحتوى ترسبات عالية من النحاس والذهب والفضة والزنك والكوبالت الخ…
- القشرة الصخرية التي تغطي الجبال البحرية وتكون عادة بسماكة تتراوح بين 5 و 25 سم. وهي غنية بالحديد والمنغنيز والكوبالت وغيره.
- العقيدات المتعددة الفلزات وهي الأكثر وفرة والأسهل في الاستخراج. وهي كرات صافية من المعادن النادرة يتراوح قطرها بين 3 إلى 8 سنتيمتر. وتحتوي عادة نسبة كبيرة من المنغنيز تصل إلى 25%. مع نسب متفاوتة من الكوبالت والنحاس والنيكل وكميات أقل من الليثيوم والتيتانيوم والنيوبيوم الخ…
طرق التعدين: جرافات ومكانس
طورت الشركات المعنية عدة طرق ومعدات للتعدين. وهي تختلف باختلاف نوعية المعادن الثلاثة المشار إليها. ولكنها تشترك في مبدأ واحد وهو بناء سفن متخصصة ومعدات لشفط المكونات من أعماق المحيط عبر خراطيم مرنة. حيث يتم استخلاص المعادن في السفينة وإعادة المياه والأتربة إلى البحر.
بالنسبة للمعدات الخاصة بالكبريتيدات وقشور الكوبالت، فهي عبارة عن جرافات وحفارات لإزالة الترسبات ومن ثم شفطها. وفي حالة عقيدات المنغنيز، يتم استخدام جرافة تعمل بطريقة المكنسة الكهربائية لالتقاط العقيدات (الكرات) المتناثرة فوق سطح القاع.
الطلب على معادن قاع البحار
يرى الفريق المؤيد ضرورة البدء الفوري بالتعدين البحري لأن الموارد البرية غير كافية لتلبية الطلب المتسارع على المعادن النادرة التي تدخل في صناعة البطاريات وألواح الطاقة الشمسية وتوربينات الرياح وغيرها من المكونات المستعملة في صناعة الطاقة المتجددة بفروعها المختلفة. إذ تتوقع وكالة الطاقة الدولية ارتفاع الطلب العالمي على هذه المعادن بمعدل 4 أضعاف على الأقل بحلول العام 2040. أما البنك الدولي فيتوقع أن يقفز الطب العالمي في نفس السنة على الكوبالت بنسبة 450 في المئة. وعلى النحاس بنسبة 100 في المئة، وعلى النيكل بنسبة 50 في المئة.
رفض أميركي مثير للريبة
ما يثير الريبة والتساؤلات، هو الرفض الأميركي القاطع لبدء مرحلة التعدين التجاري لمعادن قاع البحار. رغم الحاجة الأميركية الماسة لإيجاد مصادر بديلة للمعادن النادرة التي تتحكم الصين في إنتاجها وتصنيعها وسلاسل إمدادها. ويأتي هذا الرفض رغم إعلان هيئة المسح الجيولوجي الأميركية أن التعدين البحري سيسهم في تلبية الطلب العالمي بنسبة تتراوح بين 35 و 45 في المئة في العام 2050. ما يعني ضرورة النظر بروية إلى “ما وراء الأكمة”.
ووصلت المعارضة الأميركية، إلى حد قيام شركة لوكهيد مارتن lockheed martin بالخروج من صناعة التعدين البحري. حيث فاجأت الجميع في شهر مارس 2023، ببيع شركتها البريطانية UK Seabed Resources (UKSR) . وتمتلك UKSR ترخيصين للتعدين في منطقة كلاريون كليبرتون بمساحة 4.5 مليون كيلومتر مربع.
… اندفاعة نرويجية أكثر إثارة
أما الأكثر إثارة للريبة، فهو أن شركة لوك مارين مينيرالز النرويجية Loke Marine Minerals كانت هي الجهة الشارية. ومعروف ان النرويج تكثف بقوة نشاطها في المناطق التي قد يؤدي التعدين البحري فيها إلى مفاقمة التوترات الجيوسياسية. مثال صدع كلاريون كليبرتون. أو منطقة أرخبيل سفالبارد في القطب الشمالي. والذي يشهد توتراً متزايداً على حقوق التعدين مع روسيا. وتشترك في حقوق هذا الأرخبيل كل من الدنمارك وفرنسا وأيرلندا وإيطاليا وهولندا والسويد وروسيا وبريطانيا وأميركا. يضاف إلى ذلك التوتر المتصاعد في بحر الصين الجنوبي بين الصين وفيتنام والفلبين وغيرهما على حقوق التعدين.
لماذا تخلت لوكهيد مارتن الأميركية عن مساحة 4.5 مليون كلم2 لشركة تعدين نرويجية
تجدر الإشارة إلى منطقة كلاريون كليبرتون وحدها تحتوي على حوالي 21 مليار طن من عقيدات المنغنيز. فهل تعني معارضة أميركا للتعدين التجاري، أنها ستسلمها إلى الصين وروسيا «على طبق من منغنيز». أم يعني تحضير ميدان المعركة. ولتكون اندفاعة النرويج وروسيا نحو منطقة كلاريون كليبرتون وأرخبيل سفالبارد، أشبه باندفاعة روسيا وأوكرانيا نحو إقليم دونباس؟…