ناغورنو كاراباخ: مجرد معركة في حرب «الممرات والأحزمة»

ممر زنغزور وقناة التنمية العراقية يطلقان الخط التركي كمنافس للممر الهندي ـ الخليجي

تحول إقليم ناغورنو كاراباخ (قره باغ) بين ليلة وضحاها، إلى محطة مهمة على «سكة» إعادة رسم الخرائط  وترتيب التحالفات. وبات ممر زنغزور، معركة مفصلية في حرب «الممرات والأحزمة» في إطار الصراع الأميركي الصيني.

الانتصار العسكري الصاعق الذي حققته أذربيجان وتركيا ضد أرمينيا وإيران، هو الجزء الظاهر من جبل الجليد. وقد يكون الجانب الأقل أهمية. فالجانب الأهم فيه أنه سيقود إلى الإسراع بتنفيذ ممر زنغزور الذي يصل إقليم ناخيتشيفان الأذربيجاني بالوطن الأم. ما يعني وصل تركيا بآسيا الوسطى. الأمر الذي يسمح بالتالي بإقامة الممر الاقتصادي التركي الذي يربط أوروبا بالصين وبدول الخليج أيضاً. وليصبح هذا الممر المنافس الجدي للممرين الشمالي والجنوبي من مبادرة الحزام والطريق. كما يصبح منافساً مهماً لممر شرق ـ غرب (الهندي ـ الخليجي). ومقابل المعارضة الشرسة من قبل إيران للممر التركي، فهناك قائمة طويلة من الدول التي تلتقي مصالحها مع هذا الخط. ومنها بعض الدول العربية المستبعدة من الخطوط القائمة وخاصة الخط الهندي ـ الخليجي. وتضم القائمة على سبيل المثال مصر وعُمان والعراق وقطر والكويت.

«قناة التنمية» العراقية

ولتكتمل صورة الربط بين الممر التركي ودول الخليج، تجدر ملاحظة تصاعد الاهتمام المفاجئ بمشروع «قناة التنمية» بين العراق وتركيا. التي تربط العراق وتركيا بشبكة من الطرق السريعة والسكة الحديد. وتبدأ من ميناء الفاو العراقي لتصل إلى الحدود التركية. ويحظى المشروع كما أعلن مؤخراً مستشار رئيس الوزراء العراقي لشؤون النقل ناصر الأسدي، بدعم كامل من تركيا. وأكد أن النقل عبر هذا الممر يوفر الوقت والتكاليف مقارنة بممر الهند ـ الخليج ـ أوروبا . وتنظر تركيا إلى الممر التركي والوصلة الجنوبية منه كإحياء لخط سكة حديد برلين- بغداد وسكة حديد الحجاز الذي أنشأته الدولة العثمانية بعد فقدانها السيطرة على مصر وقناة السويس عقب احتلالها من قبل بريطانيا.

مشروع القناة العراقية

أميركا وغيمة هارون الرشيد

ولوضع التطورات في سياقها السياسي والاقتصادي، نشير إلى أن منطقة جنوب القوقاز  تكتسب أهمية استراتيجية كبيرة. فهي تمثل آخر المعاقل الروسية الباقية بعد الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي وأميركا. علماً إن تلك المعاقل تهاوت الواحدة بعد الأخرى بفعل الثورات الوردية في جورجيا و البرتقالية في أوكرانيا. ويبدو أنه جاء الآن دور أرمينيا وثورتها المخملية. وزادت الأهمية الجيوسياسية للمنطقة باعتبارها نقطة تقاطع للممرات الاقتصادية والتجارية التي تربط آسيا بأوروبا من خلال الطرق السريعة والسكك الحديدية والموانئ.

ولكي لا تضيع البوصلة، فهذه الممرات على تنوعها وتشابكها، لا تنطلق من معطيات اقتصادية ولا تستند إلى جدوى تجارية كما يقال في سياق الترويج لها. بل تعكس في حقيقة الأمر “مخاض ولادة” خريطة جديدة للتحالفات الدولية والإقليمية وربما خرائط جديدة للدول. ويمكن القول أن الثابت الوحيد في هذا المخاض هو الصراع بين القطبين الأميركي والصيني وسعي كل منهما إلى حشد الحلفاء .

أما تحالفات واصطفافات القوى الإقليمية الكبرى فمتشابكة ومتغيرة. والثابت الوحيد فيها، هو أن إيران وروسيا فقدتا مبكراً حرية الحركة والمناورة، وأصبحتا في الفلك الصيني بالكامل حتى الآن. في حين عززت دول مثل الهند والسعودية وتركيا قدراتها على نسج علاقات جيدة مع القطبين عل قاعدة مصالحها مجتمعة. وأحياناً على قاعدة مصالح كل دولة على حدة. وذلك ما يفسر التنافس وربما الخلاف بين تركيا والسعودية بالنسبة لممر الهند ـ الخليج ـ أوروبا. ولكن مع ميل مؤكد في كل الحالات إلى المحور الأميركي ـ الغربي. وهو ما يعني أن الولايات المتحدة لا تعارض عملياً أي من الخطوط المطروحة، فهي تنظر إليها كما نظر «هارون الرشيد إلى تلك الغيمة».

وبالنسبة للدول الصغيرة والمتوسطة فلا عزاء لها إذا منيت بهزيمة عسكرية ساحقة كما حصل مع أرمينيا، ما قد يسهل ويسرع إعادة تموضعها.

أرمينيا خارج العباءة الروسية

ليس مبالغة، القول ان القيادة السياسية في أرمينيا  قد لا تكون منزعجة من الهزيمة العسكرية التي منيت بها. فهي قررت بعد انتصار ثورتها المخملية،  “نقل البارودة” من الكتف  الروسي ـ الإيراني، إلى الكتف التركي ـ الغربي. وذلك ما عبر عنه بوضوح رئيس الوزراء نيكول باشينيان في حديث مع صحيفة لا ريبوبليكا الإيطالية، بقوله أن اعتماد أرمينيا التاريخي على روسيا في مجال الأمن والاقتصاد والسياسية هو «خطأ استراتيجي كبير». وقال البنية العسكرية مرتبطة بروسيا بنسبة 99.9 في المئة. في حين أن روسيا نفسها بحاجة إلى أسلحة وذخيرة. ووجه تحية ودية للغرب بإجراء مناورات عسكرية مشتركة مع أميركا. أعقبها بقيام زوجته بزيارة إلى العاصمة الأوكرانية. ليرد الغرب التحية بأحسن منها، إذ دعا غيرد غونتر فيلينغر، رئيس اللجنة الأوروبية لحلف شمال الأطلسي، أرمينيا إلى التفكير جدياً بالانضمام لعضوية الناتو. الأمر الذي استدعى رداً قاسياً من نائب وزير الخارجية الروسي ألكسندر غروشكو بوصفه هذه الدعوة بأنها “أوهام كبرى”.

ما هي تداعيات انتقال أرمينيا من المحور الإيراني ـ الروسي إلى المحور التركي ـ الغربي؟

وبمعزل عن “الأوهام” والحقائق، فإن التطورات الحاصلة توحي بأن روسيا كانت موافقة ضمناً على هزيمة أرمينيا في الحرب الأخيرة. إذ اعتبر الرئيس بوتين أن إقليم ناغورنو كاراباخ، قضية مغلقة. لأن أرمينيا سبق واعترفت رسمياً بأنه يتبع للسيادة الأذربيجانية. وربما يفسر موقف الرئيس الروسي بأنه عملية “شراء ود” تركيا وأذربيجان على حساب “زعل” إيران.

ممر زنغزور: إيران المتضرر الأول

وتبقى إيران هي المتضرر الرئيسي من الانتصار العسكري الأذربيجاني ـ التركي، وتداعياته المتعلقة بإنجاز ممر زنغزور . وهو ما دفعها إلى إرسال تعزيزات عسكرية إلى الحدود الأذربيجانية.  ومسارعة وزير الدفاع الإيراني محمد رضا آشتياني إلى تأكيد عدم «استعداد إيران لقبول أي تغيير جيوسياسي في المنطقة». والقلق الإيراني يستند إلى أن بناء خط سكة حديدية بطول ممر زنغزور وصولاً إلى ناخيتشيفان قد يعزل أرمينيا عن إيران. وكذلك يشعر المسؤولون الإيرانيون بالقلق من النزعة الانفصالية داخل مناطقهم التي تهيمن عليها أغلبية عرقية آذرية تحمل اسم «أذربيجان الإيرانية». وبهذا المعنى فإن ممر زنغزور قد يُعزز نفوذ باكو بين الإيرانيين الأذربيجانيين.

النصر العسكري الأذربيجاني في إقليم ناغورنو كاراباخ وفتح ممر زنغزور، مجرد معركة في حرب الممرات. ولكنه محطة رئيسية على «سكة» الممرات والتحالفات. ومن المبكر جداً لأي طرف خاصة أميركا والصين، الاحتفال بالنصر.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. أعتقد أن الصفقة تمت بين روسيا وتركيا بداية دفع قسط من فاتورة الموقف التركي في الحرب الروسية الإمكانية وهو العضو قي حلف الناتو …. أيضا وقوف تركيا بالضد من توسيع الحلف كما لا يخفى على احد تقهقر روسيا في حبها على أوكرانيا.. وربما دنو انهيار إيران وعلم روسيا بما يتم طبخه لإيران….
    مجرد رأي .

زر الذهاب إلى الأعلى