قطع الغاز الإسرائيلي عن مصر: فرض «الترانسفير» ومصادرة غاز غزة
يطرح قطع صادرات الغاز الإسرائيلي لمصر بعد أول رشقة صواريخ. الكثير من علامات الاستفهام والتعجب. فقد تم إغلاق حقل تمار بعد يومين من بدء الحرب، وتلاه مباشرة إغلاق خط الأنابيب. لتنخفض الصادرات من 800 مليون قدم مكعب يومياً إلى الصفر كما قال بيان لمجلس الوزراء المصري.
ودرءاً لشبهة تحميل الأمور أكثر مما تحتمل باعتبار أن الدول منشغلة حالياً بالحرب والسياسة وليس بالغاز. نشير إلى أن الغاز هو في صلب الحرب والسياسة. وان التسويات والصفقات الكبرى تبرم في زمن الحروب وعندما “تكون الجثث في الشوارع”. بل أحياناً تندلع الحروب لإبرامها.
ضغوط لقبول “الترانسفير”
نختصر علامات الاستفهام والتعجب بتساؤلين:
التساؤل الأول: هل سبب الإغلاق تقني ـ عسكري، كما ادعت إسرائيل. وهو يتعلق بالتخوف من قصف منصة معالجة الغاز القريبة من أشدود. أم يتعلق بزيادة الضغوط على مصر للرضوخ “للترانسفير” واستقبال النازحين من غزة في سيناء. إضافة إلى هدف لا يقل أهمية وهو ضرب دور مصر كمركز إقليمي لتصدير الغاز لصالح تعزيز دور إسرائيل؟
إذا كان الأمر تقني ـ عسكري، لماذا لا يتم توجيه جزء من إنتاج حقول الشمال وبخاصة ليفياثان إلى مصر. ما يسمح بتوفير جزء من حاجة السوق المصرية وتفادي انقطاع الكهرباء أولاً. وثانياً للوفاء ببعض عقود التصدير. وثالثاً، للالتزام ببنود الاتفاقية الموقعة مع مصر. والتي تم توسيعها في شهر يونيو الماضي بتوقيع اتفاقية ثلاثية بين إسرائيل ومصر والاتحاد الأوروبي قضت بزيادة الصادرات.
ويكتسب السؤال مشروعيته من استمرار تدفق الغاز إلى الأردن. ومن استمرار الانتاج في كافة الحقول الإسرائيلية بل زيادته. أما التلطي وراء التخوف من تخريب خط أنابيب عسقلان ـ العريش (خط شرق المتوسط EMG )، فهو أقرب إلى التضليل. لأنه يصعب بظل الإمكانيات المتواضعة لكتائب القسام والفصائل الفلسطينية تخريب خط أنابيب بحري. ويذكر هنا ان مصر واصلت التزامها باتفاقية تصدير الغاز إلى إسرائيل الموقعة في العام 2005، رغم تفجير خط الأنابيب أكثر من 15 مرة على مدى عام ونصف.
إسرائيل تتجه للاستغناء عن مصر في تصدير الغاز بإنشاء محطة عائمة لتسييل الغاز، كبديل لمحطات التسييل المصرية
وتكتمل الصورة بالإشارة إلى خطط إسرائيل للاستغناء عن دور مصر في تصدير الغاز الإسرائيلي عبر محطتي التسييل في إدكو ودمياط. وتقضي هذه الخطط بإنشاء محطة عائمة للتسييل مواجهة لحقلي ليفياثان وتمار. حيث كشفت شركة نيوميد NewMed الإسرائيلية الشريكة في حقل ليفياثان، عن تخصيص 100 مليون دولار كدفعة أولى للبدء بإنشاء المحطة. وفي فبراير الماضي أعلن الرئيس التنفيذي للشركة أن “كل الشركاء في الحقل وكذلك الجهات المستوردة للغاز يترقبون إنجاز المحطة التي ستبلغ طاقتها الإنتاجية 21 مليار متر مكعب سنوياً.
إقرأ أيضاً: «هندسات» مصرية لتحرير غاز غزة
وطبعاً لن يكون نقض الاتفاقية الموقعة مع مصر سهلاً. لأن ذلك يترتب عليه دعاوى أمام المحاكم الدولية ودفع تعويضات ضخمة. وهو ما حدث حين توقفت مصر عن تصدير الغاز إلى إسرائيل في العام 2012. وتم تغريم مصر تعويضات تجاوزت 1.7 مليار دولار. ولكن جرى تسوية الأمر بدفع تعويض قدره 500 مليون دولار، بالتزامن مع إبرام اتفاقية تصدير الغاز الإسرائيلي عبر مصر.
تسعى إسرائيل لتكون بديلاً لمصر كمركز إقليمي للغاز، وقد تتعاون مع تركيا بإنشاء خط لأنابيب الغاز إلى ميناء شيحان
ولذلك فالمرجح أن تستغل إسرائيل ظروف العدوان على غزة للخروج من الاتفاقية. أو تقليص الصادرات إلى مصر إلى الحد الأدنى. ويأتي ذلك تماشياً مع مخطط تقليص دور مصر في مجال الغاز وسعيها لتكون مركز إقليمي للغاز. ولا يستبعد في هذا السياق أن تعزز إسرائيل تعاونها مع تركيا لتلعب هذا الدور بدلاً من مصر. وقد يأخذ هذا التعاون شكل الموافقة على طلبات شركات تركية لشراء حصص في حقول الغاز الإسرائيلية. أو الموافقة على تحقيق “الحلم” التركي بمد خط أنابيب من الحقول الإسرائيلية إلى ميناء شيحان.
إخراج مصر من غاز غزة
السؤال الثاني: هل يأتي وقف التصدير بهدف زيادة الضغوط على مصر لإخراجها من حقول غاز غزة. وإبطال اتفاقية استغلال حقل “غزة مارين” من قبل شركة “إيجاس” الحكومية المصرية. ليحل محلها شركات أميركية وعربية مع حصة “ترضية” لشركات تركية ربما.
ولتوضيح هذه المسألة، نذكر بأن مصر حققت في شهر فبراير 2021 إنجازاً كبيراً أقرب ما يكون إلى “تحرير غاز غزة”. تمثل بعملية سياسية ـ نفطية ـ قانونية متشابكة. أخذت شكل مقايضة بين حاجة إسرائيل لتصدير فائض الغاز إلى محطات التسييل المصرية. مقابل موافقتها على دخول شركة “إيجاس” كشريك في حقل غزة مارين إلى جانب الجهتين المالكتين للامتياز. وهما صندوق الاستثمار الفلسطيني وشركة اتحاد المقاولين CCC . ونصت الاتفاقية على أن تتولى “إيجاس” عملية التطوير بالتعاون مع شركات نفط دولية. كما نصت على تزويد «دولة فلسطين بحاجتها من الغاز، وتصدير الكمية الفائضة وتحويل العوائد المالية مباشرة إلى الفلسطينيين» بدون أي دور لإسرائيل. وتم تثبيت هذه الاتفاقية باتفاق إطار تم توقيعه في أكتوبر 2022. كما شهد النصف الأول من العام الحالي سلسلة من الاجتماعات بين المسؤولين الفلسطينيين والإسرائيليين برعاية مصرية، في العقبة و شرم الشيخ. وتناولت المباحثات تفاصيل بدء عمليات تطوير الحقل التي كانت حماس الغائب الحاضر فيها.
حققت مصر انجازاً أشبه ما يكون «بتحرير غاز غزة» بمقايضة تصدير الغاز الإسرائيلي، بتولي شركة «إيجاس» المصرية استغلال حقل غزة مارين
وتوجت تلك الجهود بالبيان الشهير الصادر عن مكتب نتنياهو في شهر يونيو الماضي. وأعلن فيه على مضض، موافقة الحكومة الإسرائيلية على بدء تطوير الحقل. ونقول على مضض لأن مستشار الأمن القومي تساحي هنغبي كشف حقيقة الموقف الإسرائيلي بربط الموافقة على استغلال الغاز بوقف الأعمال العسكرية نهائياً وبتحقيق الأمن. كما ربطها بتسليم حماس الأسرى وجثامين القتلى الإسرائيليين. وقال حينذاك «عليهم أن يفهموا، أننا لن نسمح باستخراج الغاز قبل عودة الأولاد».
تلك كانت حسابات حقل إسرائيل بقيادة اليمين المتطرف، أما حسابات بيدر مصر فيبدو أنها ستتحدد تبعاً للحل الذي سيتم اعتماده بعد انتهاء الحرب. فيكبر الدور المصري إذا تم اعتماد حل الدولتين وإدخال قوات عربية ودولية لتولي المرحلة الانتقالية. ويتضاءل هذا الدور إلى حد الخطر الداهم على “المحروسة”، إذا تم اعتماد حل “الترانسفير”. وذلك ما يفسر الرفض القاطع من قبل مصر إلى حد حشد أربع فرق عسكرية على حدود غزة. والكلام عالي النبرة لرئيس الوزراء الذي اعتبر أن الأخطار الكبرى على مصر منذ فجر التاريخ، جاءت من سيناء.