هل ترتكب أميركا «معصية» استخدام النفط كسلاح

تتصاعد الأصوات في الكونغرس الأميركي وجماعات الضغط مطالبة بإعادة تشديد العقوبات النفطية على إيران ربطاً بالحرب على غزة. فهل تقرر إدارة بايدن الإستجابة. ولتخاطر بذلك بارتكاب «معصية» استخدام النفط كسلاح لأغراض سياسية. لأنها هي من سمح لإيران بزيادة صادراتها لأغراض سياسية أيضاً؟ وإذا قررت فهل يمكنها التنفيذ بدون التفاهم مع الصين التي تستأثر بنحو 90 في المئة من تلك الصادرات. ولتصبح قمة بايدن ـ جينبينغ غداً، منعطفاً مهماً في ملفي النفط والحرب؟

هناك ثلاثة عوامل تحكم تشديد العقوبات النفطية على إيران بدون التفاهم مع الصين، وهي: أولاُ المخاطرة بتخريب العلاقة مع الصين. ثانياً؛ المخاطرة باهتزاز أمن إمدادات النفط واختلال العرض والطلب في السوق النفطية. ثالثاً؛ صعوبة التنفيذ.

ويمكن القول أن قمة الرئيسين بايدن ـ جين بينغ في 15 نوفمبر الجاري، تشكل منعطفاً مهماً في تحديد تطور هذه العوامل. لأنه يصعب، بل يستحيل، أتخاذ قرار بتشديد العقوبات على النفط الإيراني، وتنفيذه، بدون التفاهم مع الصين.

يصعب إعادة تخفيض الصادرات النفطية الإيرانية بدون التفاهم مع الصين التي تستأثر بـ 90% منها

وللتوضيح نشير بداية إلى أنه، بعد سنوات من الكتمان الشديد، أعلنت إيران في أغسطس الماضي وعلى لسان وزير النفط أن إنتاجها النفطي بلغ 3.5 مليون برميل يومياً. أما الصادرات فبلغت حوالي 1.5 م/ب/ي، مقابل أقل من 300 ألف ب/ي عقب إلغاء الاتفاق النووي. ولم يكن تحقيق ذلك “الإنجاز” ممكناً بدون “قبة باط”، لكي لا نقول تشجيع، من قبل أميركا. وجاء ذلك في سياق السياسة الأميركية لإغراق السوق النفطية بهدف تخفيض الأسعار. وكذلك في سياق سياسة “شراء الود” وتبادل الخدمات مع إيران ومن ورائها الصين. والتي شملت على سبيل المثال الإفراج عن الرهائن الأميركيين وتخفيض منسوب الغارات على القواعد الأميركية. مقابل الإفراج عن الأموال الإيرانية المجمدة. والأهم، التغاضي عن زيادة صادرات النفط.

ولذلك فإن تشديد العقوبات يشكل “ضربة قاصمة” لإيران بحرمانها من عائدات مالية كبيرة وعزيزة. إذ تقدر العوائد النفطية حالياً بحوالي 50 مليار دولار سنوياً مقابل أقل من 10 مليارات دولار سابقاً. كما يشكل “ضربة مزعجة” للصين بحرمانها من مصدر رخيص للنفط. وهي مزعجة فقط لأنه يمكن للصين تحملها بتعويض الواردات من روسيا والسعودية وبقية دول أوبك. ولكن بعد “قبض الثمن” من أميركا بالتفاهم على بعض الملفات السياسية والاقتصادية العالقة.

الرسم من موقع إقتصاد الشرق مع بلومبرغ

ونشرح باختصار العوامل الثلاثة:

  1. صيانة العلاقات الأميركية الصينية

تتخوف أميركا من انعكاسات تخفيض صادرات النفط الإيراني على علاقتها مع الصين، التي تستأثر بنحو 90 في المئة من تلك الصادرات كما أشرنا. ويبدو واضحاً أن الإدارة الأميركية تحرص حالياً على استرضاء الصين أو عدم إغضابها. والأسباب عديدة تبدأ بتخفيف التوترات التجارية والاقتصادية بين البلدين. ولا تنتهي بالحفاظ على موقف الصين “الرمادي” من حربي أوكرانيا وغزة. وهو ما عبرت عنه بوضوح وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين بالتأكيد على “العمل لإعادة تأسيس علاقات سليمة بين الولايات المتحدة والصين”. وشرحه الناطق بإسم البيت بقوله إن اللقاء بين الرئيسين جو بايدن و شي جينبينغ يهدف إلى “إدارة التنافس بين واشنطن وبكين بشكل مسؤول”. وقد تضطر وزيرة الخزانة الأميركية إلى التراجع عن تصريحها السابق مع بداية الحرب على فلسطين الذي أعلنت فيه عن “اتخاذ تدابير جديدة ضد إيران”.

هناك مخاطر بارتفاع كبير لأسعار النفط إذا عادت إيران لاستهداف الناقلات

  1. أمن إمدادات النفط

يؤدي إعادة تشديد العقوبات إلى تراجع كبير في صادرات النفط الإيراني، تقدره بعض المصادر بحوالي النصف. ومع أن دول أوبك قادرة على تعويض هذه الخسارة بسهولة. لكن هناك تخوف من عودة إيران لسياسة التعرض لناقلات النفط والتهديد بإغلاق مضيقي هرمز وباب المندب. ما يؤدي حكماً إلى ارتفاع كبير في الأسعار. الأمر الذي يقوض السياسة الأميركية الهادفة إلى إبقاء أسعار النفط بحدود 80 – 85 دولار. من خلال الحفاظ على عرض أكبر من الطلب. وهو ما تقوم به من خلال الضخ بأقصى طاقة ممكنة طوال العام الحالي. حيث بلغت صادرات النفط الأميركية رقماً قياسياً في شهر أكتوبر الماضي قدره 4.1 مليون برميل يومياً، مقابل متوسط قدره 3.5 م/ب/ي خلال العام 2022.

  1. رسوخ منظومة خرق العقوبات

ساهم النمو الكبير للصادرات النفطية إلى الصين في خلق وترسيخ آليات قانونية ومالية ولوجستية متشابكة تستهدف الالتفاف على العقوبات. كما ساهم في بناء شبكة واسعة من الوسطاء والكيانات الصغيرة التي تصعب مراقبتها ومعاقبتها. وذكر تقرير لشركة “كبلر” أن العديد من هؤلاء الوسطاء قاموا بإغلاق شركاتهم شبه الوهمية وتأسيس شركات جديدة عندما استشعروا خطر ملاحقتهم. كما تم توسيع أسطول “سفن الأشباح” او الأسطول المظلم الذي يصعب تتبعه والذي يستخدم لنقل النفط إلى المصافي الصينية. ويقدر عدد السفن العاملة حالياً بأكثر من 600 ناقلة.

طورت الصين آليات قانونية ومالية ولوجستية متشابكة للالتفاف على العقوبات يصعب تعطيلها

وقامت الصين أيضاً باعتماد مؤسسات مالية صغيرة يمكن التضحية بها وإعلان إفلاسها لإتمام التعاملات التجارية والمالية مع إيران. ومثال ذلك “بنك كونلون” وهو بنك صغير تم تحويله إلى ممر أساسي لهذه التعاملات. كما تقوم الصين باستخدام منصة مشابهة لنظام السويفت هي CIPS التي أطلقها البنك المركزي لتسوية المدفوعات الدولية. وأشار تقرير لمعهد أكسفورد لدراسات الطاقة، إلى أن الصين تستخدم أدوات مثل اليوان الرقمي ونظام  CIPS و”الأسطول المظلم” باعتبارها “شريان الحياة” للتعاملات النفطية والتجارية مع إيران.

الخلاصة: أثبتت التجارب وآخرها الحظر على النفط الروسي والإيراني، أن النفط هو مجرد سلعة استراتيجية تستخدم لتحقيق النمو الاقتصادي والرفاه الاجتماعي. ولا يجوز، والأهم لا يمكن، أن تستخدم كسلاح لتحقيق مكاسب سياسية من قبل المنتجين والمستهلكين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى