«أركتيك2» الروسي «يسيّل» غاز القطب الشمالي والعقوبات الأميركية «تجمّده»

في 20 يوليو الماضي، وخلال حفل منقول على الهواء مباشرة لتدشين مشروع «أركتيك 2» لتسييل غاز القطب الشمالي. يقول أحد المسؤولين عن المشروع بحركة مسرحية ـ سياسية متقنة: «أطلب الإذن ببدء عمليات النقل». ويرد الرئيس فلاديمير بوتين الذي كان حاضراً: «الإذن ممنوح». وليشكل ذلك عملياً «منح الإذن» بشن هجوم استباقي ضد المساعي الأميركية لعرقلة المشروع.

رد أميركا لم يتأخر، فبادرت في نوفمبر الماضي إلى فرض عقوبات قاسية على المشروع . ما اضطر شركة «نوفاتيك» إلى إعلان حالة «القوة القاهرة» لتأجيل التنفيذ. ولكن عادت روسيا في نهاية ديسمبر للإعلان عن تشغيل جزئي لأحد أجزاء المشروع،.في خطوة اعتبرها المرقبون لـ «حفظ ماء الوجه»، وإظهار العزم السياسي على تنفيذ المشروع. فهل  تنجح روسيا بإنقاذ «أركتيك 2» من المصير المحزن لمشروع «نورد ستريم 2»، أم تنجح أميركا بـ «وأده».

مشروع بـ 21 مليار دولار

يتميز المشروع بفرادته من الناحية التقنية. فهو عبارة عن ثلاثة مصانع عائمة لتسييل الغاز وتخزينه. كما يتميز بضخامته إذ تقدر تكاليفه بحوالي 21 مليار دولار. وتبلغ طاقته الإنتاجية الإجمالية  حوالي 19.8 مليون طن سنوياً إضافة إلى 1.6 م/ط/س من مكثفات الغاز. وللمقارنة فقط، تبلغ الطاقة الإنتاجية لمحطة دمياط المصرية وهي من أكبر محطات التسييل في المنطقة، حوالي 5 ملايين طن سنوياً.

بوتين: المشروع جزء من استراتيجية الطاقة الجديدة، ويسهم باستعادة روسيا لموقعها في سوق الغاز

وتمتلك شركة «نوفاتيك» الروسية حصة مسيطرة في المشروع قدرها 60 في المئة، وتتوزع النسبة الباقية بين كونسورتيوم صيني يضم شركتي «كنوك» و«سي إن بي سي» الحكوميتين، وشركة «توتال إنيرجيز» الفرنسية و«كونسورتيوم» ياباني يضم شركتي «ميتسوي آند كو» وشركة «جوغميك».

الغاز المسال بدل الأنابيب

«أركتيك 2» وقبله مشروع «يامال»، ليس مجرد مشروع عملاق للغاز الطبيعي وحسب، بل يأتي في سياق التحول الحاصل في الجغرافيا السياسية للطاقة. فالوقود الأحفوري يشكل أحد مقومات القوة السياسية والمالية لروسيا. وهو ما عبر عنه بوضوح الرئيس بوتين بقوله: أن مشاريع الغاز المسال تؤثر على اقتصاد البلاد بأكمله، وتمكن روسيا من استعادة حصتها في السوق العالمية خلال خمس سنوات. معتبراً أن ذلك جزءاً من الإستراتيجية الروسية الجديدة في مجال الطاقة.

مصانع التسييل العائمة

ويكتسب المشروع أهميته من العوامل التالية:

  • خروج أوروبا من الاعتماد على الغاز الروسي، هو خروج شبه نهائي وليس مجرد رد فعل على غزو أوكرانيا. وقد حل محله الغاز الأميركي المسال ولاحقاً القطري. وعقود الغاز كما هو معروف هي عقود طويلة الأجل تكون بحدود 20 عاماً.
  • تراجع جاذبية خطوط أنابيب الغاز بسبب كلفتها المرتفعة أولاً. وثانياً بسبب مشاكل ارتهان الدول المصدرة والمستوردة لبعضهما البعض في حال توتر العلاقات السياسية أو الأمنية كما حدث بين روسيا وأوروبا.

رهان روسيا على الغاز المسال

  • يشكل الغاز المسال الوسيلة الوحيدة المتاحة لكي تزيد روسيا صادرات الغاز إلى الأسواق البديلة لأوروبا، مثل الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية وغيرها. خاصة وان الطلب على الغاز المسال يرتفع بوتيرة سريعة. وبالفعل فقد ارتفعت حصة الهند والصين فقط إلى حوالي نصف صادرات روسيا من النفط والغاز في العام 2023 كما أعلن نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك. مشيراً إلى ارتفاع حصة الهند إلى 40 في المئة، مقابل تراجع حصة أوروبا من 45 في المئة تقريباً إلى 5 في المئة.
  • تمتلك روسيا إمكانيات ضخمة لزيادة إنتاج الغاز المسال في منطقة القطب الشمالي. ويقدر أنها تستطيع زيادة إنتاجها من 30 مليون طن سنوياً حالياً إلى حوالي 137 مليون طن. وللدلالة على أهمية هذا الرقم، نشير إلى أن قطر التي تتنافس على المرتبة الأولى مع أميركا في سوق الغاز المسال، يبلغ إنتاجها حوالي 77 مليون طن. وقد ساهم ذوبان الجليد في فتح طريق الممر الشمالي أمام ناقلات التي تنقل غاز القطب الشمالي، سواء لجهة الشرق باتجاه آسيا أم لجهة الغرب باتجاه أوروبا.

العقوبات: تجميد التمويل وإلغاء العقود

هذه العوامل ذاتها، تفسر موقف أميركا المعادي للمشروع. والذي عبرت عنه بفرض عقوبات شاملة عليه. ما أدى إلى مسارعة الجهات المشاركة في المشروع إلى تجميد أو إلغاء مشاركاتها. وخاصة المشاركات المتعلقة بالتمويل والتكنولوجيا، وبالعقود طويلة الأجل. ما جعل إمكانية الاستمرار في تنفيذ المشروع موضع شك كبير.

الشركات الصينية واليابانية والكورية ترضخ للعقوبات وتجمد مشاركتها في المشروع

وجاءت أكثر المواقف دلالة من الصين التي اتخذت موقفاً رمادياً. تمثل بإعلان الكونسورتيوم المشارك “حالة القوة القاهرة” أسوة بموقف شركة «نوفاتيك». بانتظار جلاء الصورة. وتم ذلك عقب رفض السلطات الأميركية طلب الكونسورتيوم إعفائه من العقوبات. ولا يقلل من خطورة هذا الموقف على المشروع، مسارعة الحكومة الصينية إلى الإعلان على لسان الناطقة بإسم وزارة الخارجية  ماو نينغ “أن مشاركة الصين في مشروع “أركتيك 2” يجب ألا تكون هدفاً لأي تدخل أو قيود من قبل طرف ثالث.

وجاء الموقف الياباني مشابهاً للموقف الصيني، فقد قررت شركة «ميتسوي آند كو» اليابانية سحب موظفيها من المشروع الروسي. ولكنها أعلنت الإبقاء على مساهمتها المشتركة مع شركة «جوغميك» اليابانية في المشروع.

غاز القطب الشمالي والشركات الأجنبية

أما شركة «سامسونغ» للصناعات الثقيلة، فقد أعلنت أنها أوقفت تنفيذ العقد المتعلق بتصنيع ناقلات الغاز المسال للمشروع، ولكن دون الإعلان عن فسخ العقد. وكانت الشركة قد قامت بتسليم الكتل والمعدات الخاصة بخمس ناقلات من اصل 15 ناقلة إلى حوض بناء السفن الروسي «زفيزدا»  الذي يتولى تجميع الناقلات.

الأعمال الإنشائية لإحدى المنصات العائمة

أما شركة «توتال إنيرجيز» التي كانت قد جمدت نشاطها في المشروع في العام 2022 بعد الهجوم الروسي على أوكرانيا، فأعلنت أنها تقيّم تأثير العقوبات. وهو ما فهم منه إمكانية انسحابها من المشروع نهائياً. وسيكون لمثل هذا الانسحاب دلالات خطيرة. لأن الشركة تمتلك حوالي 22 في المئة من المشروع. من بينها حصة مباشرة قدرها 10 في المئة، وتمثل النسبة الباقية قيمة مساهمتها في شركة «نوفاتيك». كما لدى توتال استثمارات مهمة في روسيا من بينها حصة في مشروع الغاز الطبيعي المسال «يامال».

الخلاصة

كانت نتيجة الجولة الأولى من حرب الغاز المسال الروسي، خسارة مزدوجة لمشروع «أركتيك 2» وجهها الأول، فرص التمويل الأجنبي والتكنولوجيا الغربية. ما يعني الاضطرار لاستخدام التكنولوجيا الروسية وربما الصينية بشكل مستتر. كما يعني الاضطرار للاعتماد على التمويل المحلي من قبل البنوك الروسية. أما الوجه الثاني فهو هو خسارة العقود طويلة الأجل لتصدير الغاز . ما يعني اقتصار التسويق على السوق الفورية. بكل ما يحمله ذلك من صعوبات وعدم يقين. ولا شك أن الآثار السلبية ستتضاعف في حال استجابة دول الاتحاد الأوروبي واليابان وغيرها للضغوط الأميركية وقاموا بفرض قيود على صادرات الغاز الروسي المسال.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى