أزمة البحر الأحمر وتأثيراتها على التجارة العالمية وأمن الطاقة
أدت التوترات والصراعات في البحر الأحمر إلى تفاقم المخاوف بشأن أمن إمدادات الطاقة العالمية وإلى التأثير المباشر على أسواق النفط والغاز. وتتزايد هذه المخاوف في ظل استهداف الحوثيون للسفن والناقلات. وكذلك الردود من قبل التحالف الدولي التي تتزعمه الولايات المتحدة الأميركية.
تأثر إمدادات الطاقة
يمر ما يقرب من 13 في المئة من التجارة البحرية العالمية عبر البحر الأحمر، وفقاً لشركة Vortexa. من بينها حوالي 8.2 مليون برميل يومياً من النفط الخام والمنتجات البترولية وذلك خلال الفترة من يناير إلى نوفمبر 2023. وتشير التقديرات إلى مرور حوالي 16.2 مليون طن متري من الغاز الطبيعي المسال خلال نفس الفترة. وبالتالي، فإن المواجهة الدائرة الآن سيكون لها تداعيات كبيرة على سوق الغاز المسال والنفط. ويبدو أن هذه الاضطرابات والمواجهات العسكرية تؤثّر بشكل خاص على دول أوروبا وآسيا، نظرا لاعتمادها على واردات الطاقة عبر هذه الطريق البحرية.
في العام 2023، شحنت قطر أكثر من 20 مليار متر مكعب من الغاز المسال عبر البحر الأحمر وقناة السويس إلى أوروبا. وهذا يمثل حوالي 16 في المئة من إجمالي واردات الغاز الأوروبية. وبالتالي فإن تعطيل النقل البحري سيترك تأثيراً كبيراً في أوروبا. خاصة بعد أن أوقفت استيراد الغاز الروسي بعد الحرب في أوكرانيا. وهذا يؤثر حتى على البلدان التي لديها امكانية لإنتاج الطاقة النووية.
تأثير كبير على الهند
تعتبر الهند وغير ها من الدول الآسيوية، الأكثر تأثراً بأزمة البحر الأحمر . فحوالي 80 في المئة من تجارة الهند مع أوروبا تمر عبر البحر الأحمر وقناة السويس. ولكن من المهم الملاحظة أنه بالرغم من الإنعكاسات السلبية على الهند، إلا أن ارتفاع التبادلات الاقتصادية وخاصة في مجال النفط والغاز مع روسيا، يساهم في تقليل هذه الانعكاسات. إذ تحولت الهند إلى مركز جديد للغاز في المحيط الهادئ. حيث قامت بشراء كميات كبيرة من الغاز والنفط الروسي بتكلفة مخفّضة للغاية. ومن ثم إعادة بيعها كما فعلت الصين. وبالتالي، فالهند لا تزال فائزة على الرغم من الوضع في البحر الأحمر ، إضافة إلى أن الصراع في أوكرانيا، أدى إلى ظهور اتفاقيات اقتصادية جديدة مع آسيا.
مصر الأكثر تضرراً
أثرت الأزمة تأثيرا كبيراً على مصر، بسبب انخفاض حركة المرور في قناة السويس. فقد انخفضت إيرادات القناة بنسبة 40 في المئة. وانخفض عدد السفن من 777 سفينة في
بداية عام 2023 إلى 544 سفينة في نفس الفترة من عام 2024. ما يمثل خسارة كبيرة للاقتصاد المصري الذي يعتمد بشكل كبير على إيرادات القناة. واضطرت مصر إلى زيادة رسوم العبور عبر القناة بنسبة 15 في المئة للتخفيف من هذه الخسائر.
أميركا وإيران
مع أن الولايات المتحدة، لم تتأثر بشكل مباشر من التوتر في البحر الأحمر كونها تقع بين محيطين، ما يمكّنها من إرسال مواردها من الغاز والنفط إلى جانبي الأرض. إلا أنها تعتبر نفسها مسؤولة مباشرة بحكم موقعها كدولة كبرى معنية بأمن إمدادات الطاقة وأمن طرق التجارة الدولية.
إن تصاعد الأحداث منذ مطلع العام الحالي ودخول إيران على الخط عبر إرسال مدمّرة الى البحر الأحمر، أدّى إلى زيادة ملحوظة في أسعار النفط. كما أدى إلى تقلبات كبيرة في أسعار الغاز. كما يتضح من القفزة بنسبة 12 في المئة تقريبا في مؤشر روتردام TTF. ويعكس هذا التقلب عدم استقرار أسعار الهيدروكربون عند حدوث أزمات جيوسياسية.
تغيير مسارات النقل البحري
في مواجهة مخاطر هذا الصراع، قامت بعض شركات الشحن البحري بتعديل مساراتها أو تعليق عملياتها في المنطقة. ووفقاً ليورونيوز، فإن الالتفاف حول أفريقيا لتجنب المرور في البحر الأحمر يزيد فترة الشحن ويرفع بالتالي تكاليف النقل وأقساط التأمين.
تترجم هذه الزيادة في تكاليف النقل بارتفاع أسعار التجزئة. بالإضافة إلى زيادة التضخم. وتتوقع شركة Allianz Trade أن تؤدي الاضطرابات الحالية إلى ارتفاع التضخم بنسبة 0.7 في المئة في أوروبا. إضافة إلى ذلك، فإن انخفاض عدد السفن والناقلات التي تعبر قناة السويس بنحو 50 في المئة وفقاً لبلومبرغ، وتضاعف التجارة عبر رأس الرجاء الصالح، سيؤدي إلى ارتفاع أسعار الشحن البحري، ما يؤثر على التكلفة الإجمالية لنقل الهيدروكربونات.
توسع الحرب وإغلاق مضيق هرمز
في الوقت الحالي، تبقى الاضطرابات محصورة في منطقة مضيق باب المندب. ولكن في حال توسعت الحرب، فقد يؤدي ذلك إلى تعطيل أو إغلاق قناة السويس ومضيق هرمز . عندها، سوف يرتفع مستوى الصراع إلى درجة أكثر خطورة، ويتسبب بارتفاع كبير بأسعار الهيدروكربونات. مع احتمال أن يتجاوز سعر برميل النفط حاجز الـ 100 دولار. وهذا السيناريو من شأنه أن يخلّف تأثيراً عميقاً على الاقتصاد العالمي. مع ما يترتب على ذلك من آثار قصيرة ومتوسطة الأجل، بما في ذلك احتمال حدوث ركود اقتصادي كبير. وفي حال حدوث مثل هذا السيناريو، فسيتم تزايد الاعتماد على خطوط الأنابيب التي تنقل النفط الخليجي إلى البحر الأحمر. وكذلك التفكير في إقامة خطوط جديدة نحو البحر الأبيض المتوسط أو إعادة تأهيل الخطوط الموجودة.
الصين وطريق القطب الشمالي
تشير بعض المصادر إلى أن تصاعد الأعمال العسكرية وتوسع رقعتها، بشكل يهدد لمدى طويل طرق إمدادات النفط والتجارة الدولية في الخليج والبحر الأحمر، قد يؤدي إلى جعل طريق القطب الشمالي خيارا أكثر جاذبية لغالبية البلدان.
ويلاحظ أن الأزمة في البحر الأحمر تؤثر بشكل كبير على اقتصاد الصين وتجارتها بالرغم من إعلان الحوثيين أن السفن الصينية والروسية يمكنها التحرك بحّرية عبر مضيق باب المندب. وربطت بعض المصادر بين هذه الأزمة وبين ارتفاع معدل التضخم بنحو 0.3 في المئة في الصين. وكذلك احتمال انخفاض نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي بمقدار 0.4 في المئة، ما يحد من النمو العالمي إلى حوالي 2 في المئة في عام 2024.
واعتبرت بعض المصادر أن زيادة التوتر في المنطقة يحقق مصلحة أميركا في صراعها مع الصين من خلال التأثير سلباً على مصالح الصين الاقتصادية. ويعكس موقف الصين وانتقادها لسياسة الولايات المتحدة سعي بكين بكين لتحقيق التوازن بين مصالحها وعلاقاتها في الشرق الأوسط، وبناء علاقات استراتيجية مع اللاعبين الرئيسيين مثل المملكة العربية السعودية وإيران.
تجنب تفاقم الأزمة
قد يكون لهذه الأزمة انعكاسات جيوسياسية كبيرة على العلاقات الدولية واستراتيجيات الطاقة للدول المعنية وحلفائها. إذ يمكن أن تؤثر على سوق الطاقة العالمية على المديين القصير والمتوسط في حال تفاقمها. ما يؤدي إلى تعديلات وتغييرات في سياسات الطاقة.
إن هذا التصعيد يؤكد الأهمية الحاسمة لهذه المنطقة بالنسبة للتجارة العالمية وهشاشة طرق التجارة البحرية وأهمية التعاون الدولي في الحفاظ على الاستقرار الإقليمي. الأمر الذي يستدعي استجابة دولية منسقة لحل الصراعات والحفاظ على الأمن البحري. فاستقرار هذه المنطقة الاستراتيجية ضروري ليس لبلدان المنطقة وحسب، بل أيضا للاقتصاد العالمي.
* دكتور في العلاقات الدولية والدبلوماسية، أستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية