الصين ـ أميركا: من زواج المصلحة إلى المساكنة بالإكراه (1 من 3)
- لماذا انتهت حالة «المساكنة الهانئة» بين الصين الاشتراكية وأميركا الرأسمالية؟ ولماذا تحوّل الموقف الأميركي من دعم الصين إلى محاربتها، ومطالبته بالاختيار: إمّا اعتماد النظام الرأسمالي فعلاً لا مواربة فتكون مكوّناً طبيعياً في النظام العالمي يمكن منافسته. وإمّا اعتماد النظام الشيوعي بالكامل والانكفاء إلى ما وراء سورها العظيم فتشكّل محوراً شيوعياً، كما الاتحاد السوفييتي، يجب محاربته؟
- ما هي العلاقة بين إنتهاء مرحلة المساكنة بين الصين وأميركا. وانتهاء مرحلة المساكنة داخلياً مع الإصلاحيين. وإعلان الرئيس شي جينغ بينغ صراحة في المؤتمر الـ 20 للحزب الشيوعي، التمسك بالماركسية اللينينية «المصيننة»؟ وهل تنجح الصين الشيوعية بحماية معجزة النمو المحققة. أم تنفجر الصراعات داخل الحزب الشيوعي، وبين الحزب والشعب، وبين الدولة والأقلّيات المطالبة بالانفصال؟
- هل يرسو النظام العالمي على نموذج ثنائي قطباه أميركا رأسمالية وصين شيوعية، مع صراع وحرب باردة تصبح فاترة في بعض المجالات، وتنافس وتكامل في مجالات أخرى؟
«المساكنة القسرية» بين الإصلاحيين والماويّين
تقتضي الحصافة وسلامة التحليل التروّي في إطلاق الاستنتاجات والأحكام، نظراً إلى تشابك العوامل المتحكّمة بالتطوّرات، وسرعة تغيّرها وغموض العوامل المتعلّقة بالنظام الصيني. والاعتماد بدلاً من ذلك على رصد وتحليل الوقائع والمعطيات لاستقراء التطوّرات.
يُلاحَظ بداية أنّ النظام المعتمَد في الصين منذ نصف قرن تقريباً، يقوم على “نموذج فريد” يجمع نظامين متناقضين: الأول رأسمالي ـ ليبرالي في الاقتصاد والعلاقات الخارجية، مع دور مركزي في إدارته لفئة التكنوقراط من خرّيجي الجامعات الأميركية والغربية. والثاني شموليّ اشتراكي في السياسة والقضايا الداخلية يديره الحزب الشيوعي والجيش.
إرث دينغ شياو
هذا النموذج أرسى دعائمه الزعيم التاريخي دينغ شياو بينغ في العام 1978. بعد صراع مرير وأحياناً دمويّ بين الإصلاحيين والمتشدّدين الماويّين داخل الحزب الشيوعي. وتعرّض خلاله دينغ شياو نفسه للإقصاء والسجن وأُجبِر على العمل مع زوجته في مصنع للجرّارات.
اعتمدت الصين بعد انهيار الاتحاد السوفييتي سياسة «الفرصة الاستراتيجية» بقيادة دينغ شياو بينغ، بعد صفقة تسوية بين الماويين والإصلاحيين
ولفهم الواقع الحالي، تجدر الملاحظة أنّ الصراع لم ينتهِ حينذاك بانتصار حاسم لطرف على آخر. بل انتهى بتسوية أو بمساكنة قسريّة بين الإصلاحيين والمتشدّدين الماويين. تمّ بموجبها إبعاد «عصابة الأربعة» وإطلاق يد دينغ شياو لتنفيذ خطتين متفق عليهما هما: «الإصلاح والانفتاح» و «السلام والتنمية». وتقضيان بإعطاء الأولوية للتنمية الاقتصادية والانخراط المدروس في النظام الرأسمالي العالمي. مع الإبقاء على سيطرة مطلقة للحزب الشيوعي في القضايا السياسية الداخلية والخارجية. وتجدر الملاحظة أيضاً أنّه لم يوضع أو الأصحّ لم يُعلَن «ترسيم حدود» تدخُّل وسيطرة الحزب على الاقتصاد. وحتى على الشركات الكبرى التي تعمل وتنافس في أسواق الدول الرأسمالية. وهذه الضبابية مستمرّة حتى اليوم، والاتّهامات الأميركية ـ الغربية لشركة هواوي بأنّها مملوكة للجيش الصيني، أحد الدلائل.
و«المساكنة الهانئة» بين الصين وأميركا
اعتمدت الصين توسيع وتعميق التوجّه الإصلاحي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي بتبنّي ما أُطلق عليه سياسة «الفرصة الاستراتيجية». وذلك بهدف الاستفادة من اندفاع أميركا إلى تكريس موقعها قطباً وحيداً في العالم من خلال تبنّي وفرض سياسات العولمة وتحرير التجارة والاستثمار وفتح الأسواق تحت «بنديرة» إجماع واشنطن الشهير. وقد دعمت أميركا بكلّ قوّتها النموذج الصيني الفريد وسياسة الانفتاح تحقيقاً لمصالحها. إذ جعل هذا النموذج من الصين المكان المناسب لنقل الصناعات الملوِّثة وذات الاستخدام الكثيف للطاقة والعمالة. وجعلها أيضاً موطناً لفرص استثمارية هائلة في شتّى القطاعات من الموضة والأزياء إلى صناعة الفضاء وتقنيّات الجيل الخامس. وفي المقابل وجدت الصين في العولمة والدعم الأميركي “الفرصة الاستراتيجية” لجذب الاستثمارات ونقل التكنولوجيا وتحقيق النموّ. بل لتحقيق معجزة تنموية وإخراج أكثر من 850 مليون صيني من دائرة الفقر، كما يذكر تقرير للبنك الدولي.
قامت “المساكنة الهانئة” مع أميركا على تبادل المصالح. وتستمر المساكنة القسرية بسبب استحالة الانفصال
قامت المساكنة بين الصين وأميركا وبقية الدول الرأسمالية ـ الليبرالية على تهاون أميركا مع الصين في قضايا السياسة الداخلية والأيديولوجية، وقمع الحرّيات وظلم الأقلّيات. مع غضّ الطرف عن غموض وضبابيّة الحرّية الاقتصادية فيها. وذلك مقابل تهاون بل تنازل الصين في مسائل السياسة الخارجية، وخاصة قضية تايوان. والأهم من ذلك مقابل توظيف عائدات النموّ في الأسواق الأميركية والغربية عموماً. ووضع الجزء الأكبر من الاحتياطيات المالية الصينية في سندات الخزينة الأميركية والدولار. إضافة بالطبع إلى إعطاء دور أكبر للقطاع الخاص والتكنوقراط في إدارة الاقتصاد الصيني، بما يسهّل عمل الشركات الغربية.
لماذا انتهت مرحلة المساكنة بين الصين وأميركا؟
فيما كانت الولايات المتحدة الأميركية مستكينة إلى المساكنة مع الصين. و«تنام على حرير» تفرّدها بقيادة العالم في ظلّ العولمة. كانت الصين «تنسج حرير تفوّقها» وتعبّد «طرق حريرها». ولتتحول في غضون سنوات إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم، والأوّل في بعض القطاعات. ولتصبح المنافس الخطر لأميركا في مختلف المجالات. من الصناعة والتجارة وسلاسل الإمداد إلى تكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعي.
حين كانت أميركا «تنام على حرير» تفوقها، كانت الصين «تنسج حرير» طرقها. وتحاكي التجربة الأميركية بـ «الدولار اللص»
تجاوزت الصين الخطوط الحمراء في منافستها لأميركا. ودخلت «المناطق الحرام» التي تُعتبر عصب قوّة أميركا. ومن بينها الميدان المالي وقوة الدولار، وكذلك الثورة الصناعية الرابعة.
أولا: «هز عرش الدولار»:
بما هو عملة مهيمنة في الاحتياطيات والمبادلات الدولية. والسعي لفرض اليوان كعملة منافسة. ومن أخطر المبادرات في هذا المجال نذكر:
- تثبيت اليوان عملةً ثالثةً بعد الدولار واليورو في سلّة عملات حقوق السحب الخاصّة لدى صندوق النقد الدولي.
- إطلاق بنك الشعب الصيني (البنك المركزي) نظاماً لتسديد قيمة الصفقات الآجلة لواردات الصين من النفط، باليوان المقوّم بالذهب. أي أنّ المصدّر له حرّية تقاضي قيمة الصفقة بالذهب أو باليوان. وهي الآليّة ذاتها التي اعتمدتها أميركا بموجب اتفاقية “بريتون وودز” من خلال تثبيت سعر أونصة الذهب بـ 35 دولاراً. قبل أن يقدم الرئيس ريتشارد نيكسون في العام 1971 على تحرير سعر الدولار. ولتبدأ المرحلة التي أطلق عليها الاقتصاديون «الدولار اللصّ». تعبيراً عن حقيقة أنّ أميركا تطبع العملة الخضراء بتكلفة 2 سنت وتبيعها للعالم بـ 100 دولار. وتقدر دورية فورين أفيرز أن ظهور « اليوان اللص» يحتاج إلى حوالي عقدين من الزمن.
- السعي إلى استخدام اليوان والعملات المحلّية في المبادلات التجارية مع دول منظّمة شنغهاي و”آسيان +3″ وغيرها. وتطويرها نظاماً بديلاً لـ “السويفت” إلخ…
تجاوزت الصين الخطوط الحمراء ونقلت المنافسة إلى المناطق الحرام. ومن بينها هز عرش الدولار، والثورة الصناعية الرابعة، وإنهاء معادلة «أميركا تبتكر والصين تصنّع»
ثانياً: الثورة الصناعية الرابعة:
أهمّ التحدّيات التي تواجهها أميركا هو مقارعتها في ميدان التكنولوجيا وتقنية المعلومات، وهما العصب الثاني لقوّة أميركا بعد الدولار. ومن أطرف الدلائل، وأكثرها أهمية في آن. هي تمكُّن الصين في العام 2019 من إزاحة أميركا عن عرش براءات الاختراع الذي تربّعت عليه طوال أربعة عقود منذ إنشاء المنظمة العالمية للملكية الفكرية. وجاء ذلك بعد أن تمكّنت خلال عقدين فقط من زيادة طلبات تسجيل البراءات بحوالي 200 ضعف. وهو الأمر الذي أغضب أميركا، ليس بسبب خسارة المركز الأوّل فقط. بل لأنّ الجزء الأكبر من البراءات المسجّلة تتعلّق بقطاع التكنولوجيا المتقدّمة، وليس بتصنيع إطارات السيارات وألعاب الأطفال. وكانت هواوي الشركة المسجّلة لأكبر عدد من البراءات للعام الثالث على التوالي. وهو ما يعني انتهاء معادلة «أميركا تفكّر وتبتكر، والصين تنفّذ وتصنع».
«خطيئة» المعايير الفنية
أما الشرارة التي أشعلت نيران الغضب الأميركي. وساهمت بتقويض حالة المساكنة بين الصين وأميركا فكانت إعلان الصين في شهر تموز 2020 الخطوط العريضة لاستراتيجية معايير الصين 2035 المتعلّقة بالثورة الصناعية الرابعة. وتشمل مختلف المجالات، مثل شبكات الجيل الخامس، الطاقة المتجدّدة، معدّات تكنولوجيا المعلومات، الذكاء الصناعي والمدن الذكيّة، إنترنت الأشياء، الأمن السيبراني. إضافة إلى برامج وتطبيقات الرعاية الصحية الذكية والضمان الاجتماعي إلخ…
ولتبيان أهمّية وخطورة المعايير والمقاييس التقنية، نشير إلى أنّها قواعد ونظم صناعة المنتجات. والتي تتراوح بين قابس شحن الهاتف الذكيّ، والأقمار الصناعية المدنية والعسكرية. ومعروف أن الدولة أو الشركة، التي تنجح في فرض معاييرها، تضمن سلفاً السيطرة على الأسواق. ولا تزال العبارة الشهيرة لمؤسّس شركة “سيمنز” قبيل الثورة الصناعية الأولى صالحة لاختصار الشرح، وهي: «من يضع المعايير، يمتلك السوق».
بريكس: تجمعها كراهية أميركا.. وتفرقها كراهية الصين
ومع أنّ الصين تريّثت في وضع هذه الاستراتيجية موضع التطبيق، بسبب ردود الفعل الأميركية العنيفة، إلا أنّه يمكن القول إنّ المعايير الصينية مطبّقة فعلاً بحكم الأمر الواقع. إذ ربطت الصين مثلاً مشاريع مبادرة الحزام والطريق المتعلّقة بشبكات الجيل الخامس والمدن الذكيّة والآمنة باعتماد المعايير التقنية الصينية. وتمّ إبرام أكثر من 116 اتفاقية لإنشاء هذه المدن، من بينها 25 مشروعاً في مدن أوروبية.
الاندماج المدنيّ ـ العسكريّ
نجحت الصين في تشجيع وتسهيل دمج جهود البحث والتطوير المدنية والعسكرية وتعزيز الاستخدام المزدوج للابتكارات. وخاصة في مجالات تقنيّات الجيل الخامس والذكاء الصناعي.
نجحت الصين في تعزيز الاستخدام المزدوج المدني والعسكري للابتكارات، وخاصة في مجالات تقنيّات الجيل الخامس والذكاء الاصطناعي
ومع أنّ المبادرات في هذا المجال تُحاط بسرّية كاملة بإشراف مباشر من الرئيس الصيني، إلا أنّ الإدارات الأميركية المتعاقبة كانت تتّهم الصين باستخدام الشركات غطاءً لتقوية القدرات التكنولوجية للجيش الصيني. وذلك ما يفسّر إعلان إدارة دونالد ترامب الحرب على شركة هواوي متّهمة إيّاها بأنّ «أنشطتها وشبكاتها ذات استخدام مزدوج مدني وعسكري ـ أمنيّ».
أوباما يعلن الحرب
استناداً إلى تلك التطوّرات، فقد أنتهت صلاحيّة نموذج الحكم الصيني الملتبس بالنسبة إلى أميركا. لأنّه بات يشكّل خطراً وجودياً عليها. فلا هو شيوعيّاً يجب محاربته ولا رأسمالياً يمكن منافسته. ولتنتهي بذلك المساكنة بين الصين وأميركا. وتتحول العلاقة بينهما إلى حرب باردة بدأت بوادرها في 2010 بعد الأزمة الماليّة العالمية التي هزّت بعنف أسس النظام الرأسمالي. مكبِّدة الدول الغربية وغالبية الدول النامية خسائر فادحة وركوداً وتضخّماً. ولم تؤثّر إلا بشكل محدود على الصين. وتوسّعت هذه الحرب مع الولاية الثانية للرئيس باراك أوباما في 2012. وازدادت سخونتها في عهد دونالد ترامب. وبلغت درجة الغليان في عهد جو بايدن. فتحوّلت إلى حرب شاملة على جبهات التجارة والمال والسياسة والمناخ والرقائق وصولاً إلى “المناطق الحرام” مثل تايوان والأقليّات العرقية في الصين. مع السعي الحثيث إلى فكّ التشابك بين الاقتصادين الصيني والأميركي بأقلّ الأضرار الممكنة.
طاقة الإندماج النووي: من يحقق «الضربة الأولى» الصين أم أميركا
قواعد اشتباك جديدة داخلياً وخارجياً
في المقابل يُلاحظ أنّ انتهاء حالة المساكنة بين الصين وأميركا، تزامنت مع تراجع حالة المساكنة مع الإصلاحيين. وكانت العلاقة مع الإصلاحيين بدأت بالاهتزاز مع تولّي شي جين بينغ السلطة في العام 2012. وظهرت عليها علامات المرض في المؤتمر الـ 19 للحزب الشيوعي في العام 2017. عندما أعلن الرئيس شي بدء حقبة جديدة لإعادة ترسيخ النظام الاشتراكي وتقوية الحزب الشيوعي. وحدد المطلوب في كلمة له خلال المؤتمر وهو «تصحيح الاختلالات الأيديولوجيّة والسياسية والمؤسّساتية». وتجدر الإشارة هنا، إلى أن المؤتمر الـ 20 شهد دخول حقبة الإصلاح حالة الموت السريري بركائزها السياسية والأيديولوجية، وبرموزها طبعاً.
الخلاصة: العلاقات الأميركية الصينية تحولت فعلاً إلى ما يشبه الحرب الباردة. ولكنها تأخذ شكل الصراع والتنافس في شتى الميادين. لأنه يستحيل حتى الآن حدوث قطيعة شبيهة بما حدث مع الاتحاد السوفياتي. وقمّة جو بايدن ـ شي جين بينغ التاريخية في بالي لم تُعقد لتجنّبها، بل للاتفاق على قواعد الاشتباك.
نشر في «أساس ميديا» بتاريخ 05 ديسمبر 2022