انقلاب النيجر: تفاهم الصين وأميركا.. ولا عزاء لروسيا (2 من 2)
رئيس الوزراء للمستثمرين الأميركيين: تعالوا واستثمروا، وسنعطيكم اليورانيوم والنفط والليثيوم
أوضح الجزء السابق، أن روسيا تلعب دوراً هامشياً في النيجر وفي أفريقيا عموماً. وهي «ترسمل» على عدم الاستقرار . في حين أن الصين وأميركا تمتلكان وجوداً عسكرياً وسياسياً واقتصادياً راسخاً. ما يعني بالمبدأ أنهما «ترسملان» على الاستقرار. ولكن أميركا ارتكبت الخطأ القاتل بمحاولة إجبار قادة الإنقلاب على تسليم الحكم للمدنيين. ما أدى إلى اتخاذ القرار بإخراج القوات الأميركية.
مع أن قرار إخراج القوات العسكرية الأميركية من النيجر شكل «نكسة» سياسية كبيرة للولايات المتحدة. إلا أنه يجدر التريث في توقع تنفيذه بسرعة. إذ لا مصلحة لأحد من الخصمين الفعليين لأميركا، أي الصين والمجلس الوطني لحماية الوطن «قادة الإنقلاب» في تحويل «النكسة» إلى هزيمة. خاصة إذا تم تجييرها لصالح روسيا إعلامياً كما يحدث حالياً. وعملياً من خلال تعزيز دور الفيلق الروسي (فاغنر) كما حدث في تشاد ومالي.
الرد الأميركي على خطين
وكما أن الخصمين الفعليين لا يريدان إلحاق الهزيمة بأميركا. فهما يدركان أن ذلك هدف يصعب تحقيقه. وان مشهد طائرة مطار كابول لا يمكن أن يتكرر في مطار نيامي. فأميركا تمتلك الكثير من أوراق القوة في النيجر. لعل أهمها في هذا السياق العدد الكبير من ضباط الجيش النيجري الذي تلقوا تدريباتهم في أميركا. والذين يعرفون جيداً كيف تدبر الانقلابات. ونذكر من بينهم على سبيل المثال، أحد قادة الانقلاب العميد موسى سالاو بارمو الذي كان وربما لا يزال أحد أكثر الضباط حظوة لدى أميركا على مدى ثلاثة عقود.
بمعزل عن ارتباك وضعف رد الفعل الأميركي على الانقلاب أولا. وعلى قرار طرد القوات العسكرية الأميركية ثانياً. فإن التطورات الأخيرة توحي بالسعي لاستعادة زمام المبادرة على خطين متوازيين. الأول توجيه رسائل حازمة للطرفين الفعليين، باستخدام «رشيد» لبعض أوراق القوة والتلويح باستخدام بعضها الآخر. والثاني توجيه رسائل لقادة الإنقلاب بإمكانية الاعتراف بشرعية تسلمهم للسلطة.
الأول: استخدام «رشيد» لأوراق القوة
شكل قرار بنين بوقف شحنات نفط النيجر، ضربة موجعة للنيجر. التي كانت تراهن على عائدات التصدير لتحقيق نمو اقتصادي يعزز شعبية المجلس الوطني. إذ قدر صندوق النقد الدولي ان تسهم تلك العائدات، بتحقيق نمو بنسبة 11 في المئة، ليكون أعلى معدل يسجل في دول غرب أفريقيا. كما شكل رسالة واضحة للصين التي تشغّل حقل النفط وخط أنابيب النيجر ـ بنين.
وتدرك الصين والنيجر أيضاً، أن قرار بنين بوقف شحنات النفط جاء بسبب الضغوط الأميركية. وليس بسبب «الرد على رفض النيجر فتح حدودها مع بنين» كما قال رئيس بنين. ناقلاً الرسالة الأميركية بقوله:« حذرنا الصينيين بأنه لا يمكن بقاء السفن الصينية في مياهنا لتحميل منتجات النيجر طالما الحدود مقفلة بوجه منتجاتنا». وما يؤكد فرضية الضغوط السياسية، أن قرار المنع، جاء بعد أسبوع فقط، من اجتماع عقد في كوتونو (بنين) بين مسؤولين من النيجر وبنين مع الشركة الصينية المشغلة لخط الأنابيب. وضعت خلاله اللمسات النهائية على اتفاقية التصدير ورسوم النقل والعمليات اللوجستية.
رسائل «مجهولة المصدر»
وسبق «رسالة بنين» الواضحة، رسائل «مجهولة المصدر» تتمثل بمشاكل «غامضة» أدت إلى تعطيل بعض المشاريع الصينية. وكان آخرها، إقفال منجم للذهب في النيجر كانت تمتلكه شركة «أورانو» الفرنسية. وآلت ملكيته إلى شركة «Sahara SARL»، الصينية في يناير الماضي. وسبب الإقفال تسرب مواد سامة غير معروفة المصدر أدت إلى نفوق مئات الحيوانات وإصابات بشرية. وهي مشكلة تذكر بسلسلة من المشاكل التي أعاقت عمل الشركات الصينية لاستغلال موارد النفط ومناجم الذهب واليورانيوم على مدى أكثر من عشر سنوات.
إقرأ أيضاً: انقلاب النيجر: النفط للصين واليورانيوم لإيران.. ولا عزاء لأميركا
أما الرسالة الأهم فكانت التذكير بالدور الكبير للقوات الأميركية والقواعد العسكرية في النيجر، بمكافحة الإرهاب. ما يعني ان سحب تلك القوات سيؤدي إلى هز الاستقرار النسبي السائد حالياً. ما يؤثر حكماً على «استقرار» الحكم للمجلس الوطني. وعلى «استقرار» المشاريع الاستثمارية والتنموية الصينية.
الثاني: تغيير الموقف من الانقلاب
شكل قرار المجلس الوطني بالوقف الفوري للتعاون العسكري مع أميركا، صدمة غير متوقعة في الإدارة الأميركية. وذلك لأنه يسهم بتقويض سمعتها ليس كدولة قادرة على حماية حلفائها وحسب، بل حتى على حماية قواتها العسكرية. ولأنه أيضاً يعكس فشلاً ذريعاً على المستوى السياسي، لناحية عدم القدرة على استمالة أو حتى تحييد العسكريين الذين تسلموا الحكم، وغالبيتهم من أصدقاء أميركا.
هل تتراجع أميركا عن سياسة الخروج من «الحروب الأبدية»، وسياسة فرض الديمقراطية في الشرق الأوسط وأفريقيا
وأشعلت تلك الصدمة نقاشاً قديماً بشأن السياسة الخارجية للرئيس جو بايدن. والتي لخصها بإبعاد أميركا عما أسماه «الحروب الأبدية» في الشرق الأوسط وآسيا وافريقيا المتعلقة بمكافحة الإرهاب بعد أحداث 11 سبتمبر. إضافة بالطبع لسياسة فرض الديمقراطية الغربية على القادة الأفارقة وخاصة العسكريين. وإجبارهم على تسليم السلطة إلى المدنيين. ويعتبر بعض المسؤولين أن أميركا ارتكبت «الخطأ القاتل» حين طالب الوفد برئاسة مساعدة وزير الخارجية، قادة الإنقلاب بسرعة تسليم السلطة إلى المدنيين، وإعلان رسمي من النيجر بعدم إقامة علاقات مع إيران وروسيا.
معضلة فرض الديمقراطية
ولخص المبعوث الأميركي الخاص لمنطقة الساحل خلال إدارة ترامب الوضع بقوله. “إن المحاضرات حول الانتخابات والديمقراطية لن تجد آذاناً صاغية وحسب، بل تؤدي إلى نتائج عكسية لمصالح الولايات المتحدة”. وأيده في ذلك وزير الخارجية المالي كاميسا كامارا بالقول: «أن الموازنة بين شعارات الديمقراطية والاحتفاظ بعلاقة جيدة مع القادة العسكريين هو مهمة صعبة. ولكنها تصبح مستحيلة إذا ما أضيف لها الفشل في تحقيق التنمية الاقتصادية وتحسين معيشة السكان الذي تزداد نقمتهم على الدول الاستعمارية».
هل تتراجع النيجر عن قرار طرد القوات الأميركية؟
مع أنه لم يرشح حتى الآن أي موقف رسمي عن تغيير جدي في الموقف الأميركي من إنقلاب النيجر. ولكن يبدو أن المفاوضات التي أجراها وفد من البنتاغون في نيامي بشأن انسحاب القوات العسكرية الأميركية، تجاوزت الإجراءات الشكلية واللوجستية لتطال الوجود العسكري بحد ذاته. ويجدر هنا قراءة ما بين سطور المقابلة التي أجرتها صحيفة واشنطن بوست مع رئيس وزراء النيجر علي محمد الأمين زين. إذ قال بصريح العبارة. «نحن كنا نعتبر إن الأميركيين أصدقاؤنا. ولم نكن لنتطلع إلى روسيا طلبا للمساعدة لو كانت الولايات المتحدة استجابت لطلبات الدعم. ولو أنها رحبت بالقيادة الجديدة كما فعلت تركيا وروسيا والعديد من الدول».
رئيس وزراء النيجر: نسعى لإقامة أفضل العلاقات مع أميركا، إذا بادلتنا ذات الموقف، ولم نوقع على أي شيء مع إيران
وتعمد رئيس الوزراء ترك الباب موارباً لتجاوز أزمة اليورانيوم الإيراني بتأكيده أنه «لم يتم مطلقاً التوقيع على أي شيء مع إيران». والأهم من ذلك، أنه ترك الباب مفتوحاً على مصراعيه لتحسين العلاقات مع أميركا بقوله: «أبلغنا الوفد الأميركي بالحرص على إقامة علاقات اقتصادية ودبلوماسية مع الولايات المتحدة. والمطلوب ان تبادلنا ذات الموقف. ونحن نرحب بالمستثمرين الأميركيين إذا جاؤوا. وسنعطيهم كل ما يريدون، لدينا اليورانيوم والنفط والليثيوم… تعالوا واستثمروا. هذا كل ما نريده”.
الخلاصة: تريث بقضية القوات الأميركية
في حين يتوقع المراقبون أن تلتزم الصين بعدم الرد على «تحدي بنين» بمنع تصدير النفط. وكذلك على «التعطيل الغامض» لمشاريعها في النيجر. فإنهم يترقبون أن تعمل الولايات المتحدة على الانفتاح التدريجي على قادة إنقلاب النيجر. وذلك، ويرجع ذلك لأن الهدف المشترك بينهما هو حماية مصالحهما من خلال الحفاظ على الاستقرار في جمهورية النيجر وعدم تحويلها إلى بؤرة لصراعات مسلحة. وكان آخر المؤشرات المقلقة في هذا السياق الحديث عن إرسال تركيا لمقاتلين سوريين إلى النيجر.
وبانتظار جلاء الموقف الأميركي، فإن التطورات تبقى محصورة بين احتمالين. الأول مواجهة بين أميركا ووكيلها الفرنسي وحلفائها. وبين الصين ووكليها الروسي وحلفائها. والثاني التفاهم وتقاسم النفوذ بين أميركا والصين على حساب فرنسا وروسيا.