معضلة المعادن النادرة: إطفاء الطاقة المتجددة وإشعال الإضطرابات (2/2)
اعلان اكتشافات ضخمة في إيران وتركيا: استدراج عروض أم حروب؟
أوضح الجزء الأول من هذا التقرير، مفاصل معضلة المعادن النادرة (الحرجة) التي تواجه أميركا والدول الغربية عموماً. وأبرزها على الإطلاق سيطرة الصين وعدد محدود من الدول على إنتاج، وتكرير، وسلاسل إمداد الأنواع المهمة من هذه المعادن.
رغم أهمية التوزيع الجغرافي لإنتاج المعادن النادرة (الحرجة)، وتركزها في دول معدودة. إلا أنه يعطي صورة ضبابية بل مُضلّلة لتوزيع السيطرة بين الصين وأميركا على هذه المعادن. إذ يتضح من التدقيق في ملكية الأصول أن الجزء الأكبر من المناجم في الدول النامية، مملوك لشركات خاصة. وذلك وفق عقود مشاركة في الإنتاج واتفاقيات امتياز طويلة الأجل توقعها حكومات تلك الدول.
وذلك ما يفسر الصراع الخفي حيناً والمكشوف أحياناً بين الشركات والحكومات الغربية وبين الشركات الصينية (الحكومية) للفوز بهذه الاتفاقيات والامتيازات. كما يفسر بالتالي مساعي كلا الطرفين لضمان وجود أنظمة موالية في الدول الغنية بالموارد لضمان الحصول والسيطرة على تلك الموارد.
ودرءاً لشبهة «نظرية المؤامرة»، وتداركاً لإطلاق أحكام متسرعة بالربط المباشر بين المعادن النادرة ومصادر الطاقة عموماً وبين التطورات السياسية والانقلابات العسكرية وحتى الحروب. نكتفي برصد بعض التطورات اللافتة والمثيرة للتساؤلات في تزامنها وترابطها، ومنها على سبيل المثال ما يلي:
ميانمار: اكتشفت الصين احتياطيات ضخمة من المعادن النادرة في مختلف مناطق ميانمار. كانت تمثل حوالي نصف إنتاج الصين من بعض المعادن في العام 2019.
… وفي تطور ملفت في توقيته أي في يونيو 2019، اندفعت أميركا وبريطانيا وغيرها من الدول الغربية، إلى دعم تشكيل تحالف سياسي عسكري للدفاع عن حقوق الأقليات وفي مقدمتهم مسلمي الروهينغا، عرف بتحالف “الإخوان الثلاثة”. ويضم ثلاثة «جيوش» مناوئة للمجلس العسكري الحاكم المدعوم من الصين. وكانت النتيجة حتى الآن تعطيل أو عرقلة عدد من مشاريع التعدين الصينية.
المعادن النادرة في كاليدونيا والنيجر
النيجر: تلى الانقلاب العسكري وطرد القوات الفرنسية والأميركية، مباشرة الصين بتصدير النفط عبر خط أنابيب بنين. إضافة إلى البدء بتنفيذ مشروع لاستغلال منجم لليورانيوم. وأيضاً تنفيذ مشاريع للتنقيب عن المعادن النادرة. بعد ان تم تعطيل هذه المشاريع لأكثر من 15 عاماً.
وجاء الرد الأميركي على مستويين؛ الأول عرقلة تصدير النفط عبر خط الأنابيب بالضغط على حكومة بنين. وتصاعد الحديث عن «تحريك» أو غض النظر عن «تحرك» المليشيات المتطرفة. والثاني السعي لإعادة استمالة المجلس العسكري. ويبدو أن النتائج «مبشرة» حتى الآن. ما يسمح بالنهاية بتوقع حصول تفاهم أميركي ـ صيني على حساب روسيا وفرنسا.
كاليدونيا الجديدة: اندلعت اضطرابات عنيفة قبيل إقرار الدستور الجديد، المستند إلى الاستفتاء الذي جاءت نتيجته بـ «لا للاستقلال». واتهم وزير الخارجية الفرنسي بشكل صريح أذربيجان وروسيا بدعم الانفصاليين وتأجيج الأزمة. ولكن يجدر التنبه هنا، إلى أن الصين وليست أذربيجان أو روسيا، من لديه مصالح ووجود مؤثر في كاليدونيا. ما يسمح بالقول أن رفع المتظاهرين المؤيدين للاستقلال، أعلام أذربيجان ولافتة مكتوب عليها “بوتين، مرحبا بك في كاناكي”، هو نوع من «التمويه» شبيه بما حصل في مظاهرات النيجر.
ما الرابط بين اضطرابات كاليدونيا الجديدة وإمتلاكها خامس احتياطي من النيكل، وأكبر مصنع لتكريره، وغابة نادرة تختزن أشجارها النيكل بتركيز نسبته 25%
ولتوضيح أهمية كاليدونيا الجديدة، وفهم ما يجري فيها، نذكر أنها تمتلك احتياطيات مثبتة من النيكل تقدر بنحو 10 في المئة من الاحتياطيات العالمية، وتحتل المرتبة الخامسة عالمياً. كما يوجد فيها أكبر مصنع لتكرير وإنتاج النيكل. الذي يوفر نحو 20 في المئة من إجمالي الإمدادات العالمية. يضاف إلى ذلك امتلاكها أكبر غابة لأشجار “بيسناندرا كوميناتا” النادرة. والتي تمتاز بأنها تمتص النيكل من التربة. ما يجعلها مصدراً صافياً له بنسبة تركيز في جذوعها تصل إلى 25 في المئة.
وفي حال تصاعدت الإضطرابات وحصلت كاليدونيا الجديدة على الاستقلال. فستكون الصين جاهزة لتنفيذ مشاريع تطوير ثروة النيكل والمعادن الأخرى. إضافة إلى عشرات المشاريع الاقتصادية والسياحية التي قدمتها إلى «السلطات المحلية» ولبعض القوى السياسية «الحليفة».
.. وفي أعماق البحار
القطب الشمالي: يشكل بؤرة صراع سياسي وقانوني مع روسيا ومن ورائها الصين، وقد يتحول عند أي تطور غير محسوب إلى صراع عسكري. ومن بين أسباب التوتر ضخامة الموارد الطبيعية كالنفط والغاز والمعادن الحرجة.
إقرأ أيضاً: إنقلاب النيجر: روسيا جندي في الجيش الصيني
ومن التطورات الجديرة بالمتابعة، إعلان السويد مطلع العام 2023، عن اكتشافات ضخمة من معادن الأرض النادرة تكفي لتلبية الجزء الأكبر من احتياجات أوروبا… وبعد مرور عام واحد تقريباً تم الإعلان عن انضمامها إلى حلف الناتو.
أما النرويج فقد أعلنت عزمها على منح أول دفعة من تراخيص استخراج المعادن النادرة من أعماق البحار في أرخبيل سفالبارد. وأعقب ذلك قيام حلف الناتو بإجراء مناورة عسكرية في شمال النرويج، هي الأضخم منذ مناورة “ريفورجر” عام 1988. واعتبرتها روسيا «استفزازية وتؤجج الصراع في منطقة القطب الشمالي».
إقرأ أيضاً: «حرب الأعماق» للفوز بمليارات الأطنان من المعادن النادرة (1/2)
قائمة «الترابط المحتمل» بين الاكتشافات المعدنية والتطورات السياسية والعسكرية طويلة. وهي تمتد من القرن الأفريقي والسودان والكونغو، إلى تشيلي وبوليفيا والأرجنتين. مرورا بفيتنام التي قد تصبح بؤرة الصراع الأكثر سخونة.
ولتبقى الثروة الهائلة من المعادن النادرة في أعماق البحار، هي ميدان الصراع السياسي وربما العسكري الأكثر أهمية وخطورة خلال السنوات القادمة. خاصة إذا استجابت الهيئة الدولية لاعماق البحار للضغوط وقامت بفتح المجال لاصدار تراخيص التعدين التجاري.
أميركا والتحرر من الارتهان للصين
ينطلق فهم طبيعة وحجم الرد الأميركي من تصريح بالغ الأهمية والدلالة لكبير مستشاري البيت الأبيض للطاقة النظيفة، جون بوديستا، قال فيه: «بصراحة تامة، نحن في وضع ضعيف. فالصين تسيطر على المعادن النادرة وعلى سلاسل التوريد، ما يجعل حكوماتنا و سياساتها وقراراتها مجرد رهائن».
جون بوديستا: بصراحة تامة، نحن في وضع ضعيف. فسيطرة الصين على المعادن النادرة، تجعل حكوماتنا وسياساتها «مجرد رهائن»
ولذلك فإن «تحرير الرهائن» يصبح الهم الأول، ويحتاج بالطبع إلى استراتيجية وخطط وبرامج ومبادرات. وربما يحتاج أيضاً إلى انقلابات وانقلابات مضادة واضطرابات وإعادة رسم للتحالفات. وذلك ما بدأت أميركا بتنفيذه بالتعاون مع حلفائها في مجموعة السبع وفي العالم.
ويمكن رصد الرد على ثلاثة مستويات متكاملة ومتداخلة، وهي:
- رفع أسوار الحماية: تم إطلاق ورشة ضخمة ضخمة لـ «توطين» الصناعات المتقدمة في مجال تكنولوجيا المعلومات وأشباه الموصلات والطاقة المتجددة والمعادن الحرجة على صعيدي التعدين والتكرير. والجدير بالملاحظة أن هذه الورشة بدأتها إدارة ترامب بإعلان استراتيجية تقليص الاعتماد على الصين والتي وصفت بأنها “حالة طوارئ وطنية”. واستكملتها إدارة بايدن بمشاركة فعالة من الكونغرس بمجلسيه لضمان توفير الإطار التشريعي اللازم لتوفير التمويل اللازم وتحفير الاستثمارات المحلية وتجاوز الاعتبارات البيئية والاجتماعية. ويلاحظ في هذا السياق أن قانون مكافحة التضخم لا يستهدف عملياً التضخم، بل يشكل رافعة للعديد من السياسات والتشريعات المرتبطة بأسوار الحماية لجذب وتوطين الاستثمارات في أميركا بعيداً عن الصين.
تحالف دولي لضمان أمن المعادن
2. حشد تكتل دولي: وهو بات تقليداً تعتمده أميركا للتعامل مع التطورات ذات الحساسية العالية على المستويات السياسية والاقتصادية. وبدأ تنفيذ ذلك بإعلان وزير الخارجية أنتوني بلينكن في يونيو 2022 إطلاق «شراكة أمن المعادن» msp التي تضم دول مجموعة السبع والاتحاد الأوروبي. وتستهدف تحفيز الاستثمارات الحكومية والخاصة وتوفير الدعم اللازم من مؤسسات التمويل الدولية والوطنية لتنفيذ استراتيجية تنمية وتوطين الصناعات المرتبطة بالمعادن.
3. اعتماد «دبلوماسية أكثر نشاطاً» ،كما وصفتها وثيقة لوزارة الخارجية. وتجلى ذلك في استقبال الرئيس بايدن أكثر من 40 من القادة الأفارقة في واشنطن. وقيام العديد من كبار المسؤولين بزيارات إلى الدول الأفريقية. وطرح مشاريع ومبادرات متعددة مثل خط للسكة الحديد مخصص لنقل المعادن من الكونغو وزامبيا إلى أنغولا. ومشروع لاستغلال منجم ضخم للغرافيت في موزمبيق، تلقى مالكه قرضاً من الحكومة الأميركية.
الخلاصة: استدراج عروض أم حروب؟
ختاماً، يمكن القول أن الإدارة الأميركية سواء كانت ديمقراطية أم جمهورية قد تلجاً إلى نوع من المقايضة، تقضي بتقديم سياسات وشعارات المناخ وتصفير الانبعاثات والطاقة المتجددة، كـ «ضحية» أولى على «مذبح» التحرر من الارتهان الصين.
وليصبح السؤال المشروع، من هي الدول التي ستكون «الضحية» الثانية.. والعاشرة.
قد يكون الجواب في مراقبة التطورات السياسية والعسكرية والأمنية في دول أفريقيا وأميركا اللاتينية بالدرجة الأولى. وكذلك مراقبة الإعلانات المتلاحقة للدول عن اكتشافات كبيرة للمعادن النادرة. كان آخرها إعلان إيران في مارس 2023 عن اكتشاف احتياطيات ضخمة من الليثيوم تضعها في المرتبة الثانية عالمياً بعد تشيلي. وسبقتها قبل عام واحد تركيا بالإعلان في أغسطس 2022 عن اكتشاف نحو 694 مليون طن من الرواسب التي تحتوي على أتربة نادرة تلبي احتياجات العالم لألف عام.
فهل تكون هذه الإعلانات بمثابة «استدراج عروض» أم «استدراج حروب»؟