غاز لبنان: هيئة ناظمة وشركة وطنية لاستعادة حصة الدولة المصادرة بالمراسيم (2 من 2)

تناولنا في الجزء الأول من ملف الثروة البترولية في لبنان، قضية داهمة، هي ترسيم الحدود البحرية مع قبرص وسوريا. ونتناول في هذا الجزء قضية داهمة وخطيرة، لأنها تتعلق بعودة الدولة للمشاركة في ملكية الثروة البترولية بعد «طردها» منها بموجب المراسيم التطبيقية لقانون الموارد البترولية واتفاقيات الاستكشاف والإنتاج. وطبعاً، يحتاج ذلك إلى تعديل تلك الاتفاقيات لتصبح تقاسم إنتاج، فعلاً لا «عودة مقنعة إلى نظام الامتيازات البائد». كما يحتاج إلى إنشاء شركة نفط وطنية. وإعادة هيكلة هيئة إدارة قطاع البترول لتصبح هيئة ناظمة فعلاً لا «تأويلاً وتضليلاً».

نظام تقاسم إنتاج أم تقاسم أرباح و«امتيازات»؟

لتجنب تحول البحث إلى سجالات سياسية بحيث يكون أي انتقاد بمثابة استهداف لتيار سياسي. وأية إشادة بمثابة محاباة لتيار آخر. نشير إلى حقيقتين، الأولى أن لبنان نجح بوضع ملف النفط والغاز على الخريطة الدولية. كما نجح بتطوير منظومة تشريعية وتنظيمية جيدة. والحقيقة الثانية ان هذه المنظومة تعاني من ثغرات وانحرافات خطيرة لا بد من معالجتها. وأهمها على الإطلاق إزالة الالتباسات والانحرافات في اتفاقيات الاستكشاف والإنتاج، ليصبح النظام المعتمد، هو نظام تقاسم إنتاج (Production Sharing Agreements) بالفعل وليس بالقول.

لاعتماد نظام تقاسم إنتاج فعلاً لا «عودة مقنعة إلى نظام الامتيازات البائد»

ومعروف أن هذا النظام الذي نص صراحة على اعتماده قانون الموارد البترولية رقم 132/2010، مطبق في أكثر من 70 دولة. وهو النظام الأفضل خاصة بالنسبة للدول حديثة العهد بالصناعة النفطية. والتي لا تمتلك لا الخبرة ولا الرساميل اللازمة.  ويقوم النظام على منح شركة نفطية كبرى أو كونسورتيوم من عدة شركات رخصة للاستكشاف والتنقيب في منطقة محددة ولمدة محددة. على أن تتحمل الشركات وحدها كافة التكاليف. وفي حال تحقيق أي اكتشاف تجاري، تدخل الدولة كشريك من خلال شركة نفط وطنية، بنسبة تتراوح عادة بين 40 إلى 50 في المئة. يضاف اليها عائدات الإتاوة والضرائب الخ.. لتصبح حصة الدولة بين 65 و 85 في المئة.

إقرأ أيضاً: لبنان: الأولوية لإنشاء شركة وطنية للنفط وهيئة وطنية للترسيم

ولمزيد من التوضيح، لا بد من الإشارة إلى أن غالبية الدول الفقيرة نسبياً، تسدد حصتها من النفقات الراسمالية Capex، والنفقات التشغيلية (Opex)، وفق آلية معروفة بإسم «الحصة المحمولة» (Carried interest). أي يتم تسديد الالتزامات من عائدات استغلال الثروة البترولية. وهو ما يسقط سلفاً حجة عدم توافر الأموال في خزينة الدولة لتبرير عدم مشاركة الدولة.

ومرة ثانية لتجنب السجالات، نكتفي في هذه المرحلة بطرح بعض التساؤلات:

أولأ: نظام الإنتاج بين القانون والمراسيم

  1. كيف يستقيم إصرار وزارة الطاقة وكبار المسؤولين على تسمية اتفاقيات الاستكشاف والإنتاج، بأنها مشاركة في الإنتاج، إذا كانت المادة 5 من المرسوم التطبيقي رقم 43 تنص صراحة على أنه «ليس للدولة مشاركة في دورة التراخيص الأولى». والتي امتدت مفاعيلها إلى الدورتين الثانية والثالثة. ولتقتصر مشاركة الدولة على إمكانية حضور بعض اجتماعات لجنة الإدارة بصفة مراقب فقط. وذلك ما تنص عليه صراحة المادة 16 من المرسوم وجاء فيها: «يمكن للوزير ولهيئة إدارة قطاع البترول تعيين ممثلين يكون لهم الحق بالحضور كمراقبين في بعض اجتماعات لجنة الإدارة. ولكن لا يحق للوزير ولا لهيئة إدارة قطاع البترول حضور اجتماعات اللجان ومجموعات العمل».

صنفوا الخبراء المعترضين بين جاهل و «خرفان» وعميل، رغم اختلاف أركان الحكم أنفسهم حول تسمية النظام تقاسم إنتاج أو أرباح

2.  كيف يستقيم أن يأتي المرسوم التطبيقي للقانون، مناقضاً لنصوص واضحة في القانون نفسه. والتي تنص في المواد 3 و 4 و 6 صراحة على ملكية الدولة للموارد البترولية، وعلى حق الدولة حصراً في إدارتها. وكاستطراد لا بد منه للتوضيح، هل جاء رفض حكومة الرئيس تمام سلام لعدة سنوات، اعتماد المرسوم التطبيقي بسبب التناقضات والانحرافات التي تضمنها؟ أم بسبب المناكفات السياسية كما قيل حينها؟ ولماذا كان توقيع المرسوم هو أول عمل قامت به حكومة الرئيس سعد الحريري بعد التسوية الكبرى التي جاءت بالرئيس ميشال عون إلى سدة الرئاسة؟

3. إذا كان خبراء الطاقة والقانون الذين تصدوا لهذه الانحرافات وتحديداً للتناقض في تسمية اتفاقيات الاستكشاف والإنتاج، تم تصنيفهم بين جاهل و «خرفان» وحتى عميل للعدو الإسرائيلي، كما وصف زوراً وتجنياً الخبير الدولي المشهود له بالكفاءة والنزاهة نقولا سركيس. فكيف يتم تفسير الخلافات العلنية في توصيف تلك الاتفاقيات بين أركان الحكم أنفسهم؟ ففي حين كان وزراء الطاقة يصرون على أن النظام المعتمد هو نظام تقاسم الإنتاج. كان هناك مسؤول آخر، “يفتي” بأنه لا فرق بين نظامي تقاسم الإنتاج وتقاسم الأرباح. وصولاً إلى تصريح أحد أعضاء مجلس إدارة هيئة قطاع البترول في مقابلة مع جريدة النهار في 17 إبريل 2015 بأن النظام اللبناني هو «نظام وسطي قائم بذاته»، يجمع ما بين نظامي الامتياز والتعاقد».

«بدعة» صاحب حق غير مشغل

4. عند هذا الحد يثار السؤال الذي حبذا لو ظل بدون جواب. وهو إذا كانت الدولة «مطرودة» وممنوعة من المشاركة في الثروة البترولية، فمن هي الجهة اللبنانية التي تشارك بالنيابة عنها «وبالأصالة عن نفسها». والجواب نجده في «بدعة» صاحب حق غير مشغل التي تفتق عنها ذهن الخبراء والمستشارين. والتي تم تسويقها تحت شعار «ضمان حق القطاع الخاص و”الشعب” اللبناني بالمشاركة في ثروات بلاده». وقد نص عليها «المرسوم إياه رقم 43». وتقضي بحصر التقدم بطلبات الترخيص للحصول على حقوق الاستكشاف والإنتاج بما يسميه «شراكة تجارية غير مندمجة»، أي كونسورتيوم او إئتلاف. واشترط المرسوم أن يضم الكونسورتيوم على الأقل، ثلاث شركات «مؤهلة مسبقاً». وأن يكون بينها شركة مشغلة (Operator) بحصة لا تقل عن 35 في المئة، وشركتين غير مشغلتين (Non-operators) بحصة لا تقل عن 10 في المئة لكل منهما. وتم فعلاً في دورة التراخيص الأولى، تأهيل 46 شركة بموجب المرسوم رقم 9882 بتاريخ 16 فبراير 2013.

وتكمن «القطبة المخفية» (بشروط مفصلة على قياس عدد من الشركات والمسؤولين)، في أن الشركات المؤهلة كان بينها 15 شركة نفطية عالمية لديها الإمكانيات المالية والفنية والخبرة. أما باقي الشركات فكانت شركات متوسطة وصغيرة. وبعضها لديه ملفات قضائية بتهم الاحتيال والفساد. وبعضها الآخر شركات صورية تم تأسيسها على عجل من قبل سياسيين ورجال أعمال برأسمال لا يتجاوز 10 ألاف دولار لبعضها. وتم «إصدار فتوى» تجيز لهذه الشركات إبرام اتفاقيات شراكة مع شركات أكبر لتجاوز شرط حجم الأعمال ورأس المال والخبرة إلخ..

شركات النفط أسقطت «بدعة» صاحب حق غير مشغل، وكانت النتيجة خروج لبنان بدولته وقطاعه الخاص من ملكية الثروة البترولية

وهكذا تم بشحطة قلم «طرد الدولة» من قطاع البترول لتحل محلها شركات أجنبية لا غنى عنها لاستغلال الثروة النفطية. وشركات لبنانية لا ضرورة لها إلا لوضع اليد على جزء من هذه الثروة. وليتبين لاحقاً أن تلك المحاولة البائسة كانت مجرد أوهام. لأن الشركات النفطية الكبرى لا تنطلي عليها تلك «البهلوانيات». وهي التي اختبرتها وتعاملت معها على مدى عقود وفي مختلف البلدان وأنظمة الحكم. والدليل على ذلك أن الكونسورتيوم الوحيد التي تقدم وفاز في دورة التراخيص الأولى تجاهل تماماً تلك الشركات. وضم ثلاث شركات نفطية كبرى هي «توتال إنيرجيز» كشركة مشغلة، مع شركتين عملاقتين غير مشغلتين هما «إيني» الإيطالية، و«نوفاتك» الروسية (حلت محلها لاحقاً شركة «قطر للطاقة»). ولتصبح النتيجة الكارثية هي خروج لبنان بدولته وبقطاعه الخاص من ملكية الموارد البترولية.

ثانياً: شركة نفط وطنية

الخروج من تلك الانحرافات يتطلب أولاً تعديل اتفاقيات الاستكشاف والإنتاج. ويتطلب بالتالي وقف العمل مؤقتاً بدورة التراخيص الثالثة التي لا أحد يعرف لماذا أوقف العمل بالدورة الثانية، وإطلاق الثالثة. تماماً كما لا أحد يعرف لماذا تم التعاقد مع شركتين مغمورتين لإجراء المسوحات الزلزالية في البلوك رقم 8. ومن ثم إلغاء العقد معهما والتعاقد مع شركة جديدة.

إقرأ أيضاً: لبنان: ملابسات وتساؤلات حول دورة التراخيص الثالثة

كما يتطلب ثانياً، وهو الأهم، المسارعة إلى إنشاء شركة نفط وطنية. ولكن بشرط عدم تحويلها إلى «مزراب» جديد للهدر والتوظيف السياسي. بمعنى أن تؤسس بالحد الأدنى من الموظفين والنفقات التشغيلية. على أن يتم تفعيلها وتوسيعها بعد تحقيق اكتشافات تجارية، كما فعلت وتفعل غالبية الدول. أما الحجة التي يتم استخدامها لحرمان الدولة من المشاركة، وهي عدم توافر الأموال اللازمة لتغطية النفقات الرأسمالية والتشغيلية، فمرودة لأنه يمكن اعتماد آلية  «الحصة المحمولة» المشار إليها سابقاً.

وتجدر الإشارة هنا إلى ضرورة الخروج النهائي من تلك المعزوفة القائلة بأن لبنان يطبق النموذج النرويجي. لأن النموذج المعتمد لا علاقة له بتاتاً بتجربة النرويج، إلا لناحية الاستعانة ببعض الخبراء النرويجيين الذي كان لهم فضل كبير في تطوير المنظومة التشريعية والتنظيمية الجيدة. ولكننا لا ندري وإن كنا نستبعد أن يكون لهؤلاء الخبراء أي دور بالانحرافات التي تضمنتها، وخاصة استبعاد تأسيس شركة نفط وطنية.

ثالثاً: الهيئة الناظمة

قبل أي كلام عن هيئة إدارة قطاع البترول، يجب التنويه بالعمل الكبير الذي أنجزته على كافة المستويات. وذلك على الرغم من المعوقات والاختلالات القانونية والتنظيمية واللوجستية التي تواجهها. والتي تبدأ بنظام تأسيسها الذي يحرمها من الصلاحيات البديهية المتعارف عليها للهيئات الناظمة. مروراً بالإهمال المتعمد لنشاطها وأبرز تجلياته عدم التجديد أو إعادة تشكيل مجلس الإدارة. وصولاً إلى التغاضي عن تآكل مداخيل أعضاء المجلس بعد انهيار سعر صرف الليرة، ما أدى إلى استقالة غالبية الأعضاء.

ضرورة إعادة هيكلة هيئة إدارة قطاع البترول لتصبح هيئة ناظمة فعلاً لا «تأويلاً وتضليلاً»

ولأن مشكلة الهيئة معروفة، فلا يستقيم أي تقييم لعملها إلا إذا تم التصدي لجوهر المشكلة بإعادة هيكلتها لتكون هيئة ناظمة فعلية، وليس هيئة تابعة لوزير الطاقة، ولتكون سلطة فوق سلطة الوزير. وأن تخضع لرقابة المؤسسات الدستورية وفي مقدمتها مجلس النواب بشكل مستقل وليس من ضمن آلية الرقابة على وزارة الطاقة. كما هو واقع الحال الآن، بموجب القانون رقم  84/2018.

على أي حال، فإن مشكلة هيئة إدارة قطاع البترول هي جزء من مشكلة أعم تتعلق بالهيئات الناظمة في كل القطاعات. وبخاصة قطاع الاتصالات والكهرباء التي كانت ولا تزال شرطاً أساسياً للحصول على المساعدات والقروض من الدول المانحة ومؤسسات التمويل الدولية.

وربما حان الوقت للخروج من تلك المعادلة المدمرة التي تقوم على التمسك بصلاحية الوزير واعتباره «حاكماً بأمره» في  وزارته. وربما حان الوقت أيضاً لإعادة النظر بتركيبة وزارة الطاقة والمياه التي تشمل صلاحياتها مروحة غير منطقية من الأنشطة تتضمن الكهرباء والماء والنفط والغاز والطاقة المتجددة. وليصبح الحل تقسيم الوزارة إلى وزارتين واحدة للماء والكهرباء والثانية للطاقة الأحفورية والمتجددة.

هل حان الوقت للخروج من المعادلة المدمرة باعتبار الوزير «حاكماً بأمره» في وزارته. وإستحداث وزارة خاصة بالطاقة الأحفورية والمتجددة

نختم بالتساؤل كيف سينفذ الرئيس جوزاف عون ورئيس الحكومة المكلف نواف سلام الجانب المتعلق بقطاع البترول، من خطاب القسم، بوجود إدارة مترهلة ومسيسة، ومستشارين مجهولين، وهيئة ناظمة ملحقة بالوزير. وهل يكون الحل بتشكيل فريق من المستشارين المؤهلين المنزهين، يتبعون مباشرة للقصر الجمهوري والسراي الحكومي. وتكون مهمته دراسة المشاكل وتعيين الحلول بعد استطلاع آراء الأفرقاء السياسيين والخبراء وهيئات المجتمع المدني. وذلك بانتظار إعادة بناء الإدارة على أسس الحوكمة الرشيدة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى