سباق الاندماج النووي: هل تفوقت الصين ببناء «آلة Z» الخارقة ؟

تناقلت وسائل الإعلام العربية والأجنبية خلال الأيام الماضية خبر اكتشاف الأقمار الصناعية منشأة غامضة في الصين قرب مدينة ميانيانغ. وقيل أنها قد تكون أضخم منشأة للاندماج النووي في العالم. وأنها سترسخ تفوق الصين على أميركا في الطاقة الاندماجية بشقيها المدني والعسكري. فما هي حقيقة هذه المنشأة؟. وهل تحتوى على النسخة الصينية من الآلة الجهنمية المعروفة بـ «آلة Z» أو (Z Machine)، التي تولد حرارة أعلى من حرارة لب الشمس بخمس مرات؟
بعيداً عن الإثارة الإعلامية المرتبطة باكتشاف الأقمار الصناعية للمنشأة «الغامضة»، مع أن الصين أعلنت صراحة عن البدء بإنشائها منذ عدة سنوات. ومع الأخذ بالاعتبار الستار الحديدي حول جوانب كثيرة من برامجها النووية المدنية والعسكرية. فإن الحقيقة تكمن في مسألتين الأولى هي التنافس والصراع الحاد بين الصين وأميركا على من يفوز «بالكأس المقدسة» أي توليد الكهرباء بالطاقة الاندماجية. والثانية هي الاستخدام المزدوج لطاقة الاندماج النووي في المجالين العسكري والمدني وخاصة في مجال اختبار فعالية وسلامة الأسلحة النووية بواسطة «الآلة Z».
أولا: سباق الاندماج بين أميركا والصين
ظل الاندماج النووي موضع تعاون وتناغم بين القوى العظمى منذ ستينيات القرن الماضي. وتجسد ذلك في محطتين تاريخيتين. الأولى في العام 1958 حين توافقت أميركا والاتحاد السوفياتي على رفع السرية عن أبحاث الاندماج. والثانية في العام 1985 حين توافق البلدان مع الصين وأوروبا واليابان على إطلاق مشروع مشترك لإنشاء المفاعل الدولي الشهير ITER «إيتر». وقد يكون سبب ذلك التناغم، أن الاستخدامات المدنية والعسكرية للاندماج النووي لم تكن ممكنة ولا ضرورية. ولكن المشهد تبدل مع مطلع عشرينيات القرن الحالي، حيث يدور صراع مرير بين الولايات المتحدة والدول الغربية من جهة والصين من جهة أخرى للفوز بسباق طاقة الاندماج النووي باعتبارها عاملاً مهماً في الجغرافية السياسية للطاقة. ولخص تقرير للوكالة الدولية للطاقة الذرية، هذه الأهمية بالقول «الفوز بسباق المفاعل الاندماجي يعتبر جائزة جيوسياسية ستحدد التحالفات والصراعات وحتى نتائج الحروب».
إقرأ: طاقة الإندماج النووي: من يحقق «الضربة الأولى» الصين أم أميركا (4 من 5)
ويبدو أن الصين باتت في موقع متقدم على الولايات المتحدة في هذا السباق مستفيدة من الاستثمارات الضخمة التي تضخها الحكومة، أولاً. ومستفيدة ثانياً من خبراتها المتراكمة في «نسخ» وتطوير الابتكارات التكنولوجية الأميركية والغربية عموماً.
استثمارات و «نسخ» الابتكارات
رغم السرية الكبيرة التي تحيط بالاستثمارات الحكومية، إلا أن جان بول ألين رئيس مكتب علوم الطاقة الاندماجية في وزارة الطاقة الأميركية، يقدر الاستثمارات «المعروفة» بحوالي 1.5 مليار دولار سنوياً. مقابل أقل من 800 مليون دولار في أميركا. ولكن هذا الرقم قد يكون مضاعفاً بالنظر إلى وجود برامج سرية بالكامل ينفذها الجيش الصيني ووكالات حكومية أخرى.
ومن الأمثلة الملفتة لأهمية وخطورة نسخ الابتكارات التكنولوجية، نشير إلى الاختراق الكبير الذي حققته شركة صينية حديثة النشأة وصغيرة الحجم تدعى Energy Singularity مؤخراً. إذ تمكنت من بناء وتشغيل مفاعل من نوع توكاماك (يعمل بالحبس المغناطيسي). وذلك باستخدام مواد للمغناطيس تعرف بـ HTS أي فائق التوصيل بدرجة حرارة عالية high temperature superconductors. وهو يمتاز بأن حجمه يعادل حوالي 2 في المئة من الأجهزة التقليدية. كما يمتاز بالتالي بضآلة التكلفة وسرعة التنفيذ.
وهذا المفاعل «الخارق» هو نسخة مطورة عن المفاعل الذي ابتكرته شركة «كومنولث فيوجين سيستمز» CFS الأميركية والمعروف بإسم سبارك SPARK، والذي لا يزال قيد التصنيع والتركيب. وأشار إلى ذلك بوضوح أندرو هولاند، الرئيس التنفيذي لجمعية صناعة الاندماج النووي ومقرها واشنطن، بقوله بعض أجهزة التوكاماك من الجيل التالي التي بنتها الصين، أو تخطط لبنائها، هي في الأساس «نسخ» من التصميمات الأميركية. وأضاف أن ذلك ينطبق على مفاعل BEST الذي تموله الدولة الصينية والمتوقع أن يبدأ تشغيله العام 2027. كما ينطبق على مفاعل آخر تصنعه شركة صينية خاصة، وهو نسخة لمفاعل صممته شركة هيليون HELION الأميركية.
إقرأ: الاندماج النووي: مفاعل صيني خارق وفوز مستحق على أميركا
وتعاني صناعة الاندماج النووي في أميركا من تقادم مفاعلات الاندماج، التي يتجاوز عمرها ربع قرن. وكذلك من عدم وجود مرافق ضخمة وحديثة كتلك الموجودة في الصين، التي تقوم حالياً بإنشاء حديقة لأبحاث للاندماج النووي بتكلفة 570 مليون دولار يطلق عليها إسم «كرافت» . وحذر هولاند من مخاطر فوز الصين بسباق الاندماج، إذا استمر تلكؤ الولايات المتحدة والدول الغربية في ضخ الاستثمارات اللازمة.

ثانياً: عسكرة الاندماج و «آلة Z»
يرجح المراقبون أن تكون منشأة ميانيانغ هي النسخة الصينية من منشأة الإشعال الوطنية الأميركية التابعة لمختبر لورانس ليفرمور في كاليفورنيا. وهذه المنشأة هي التي حققت الانجاز الأميركي التاريخي في ديسمبر 2022 في مجال الإندماج النووي باستخدام أقوى أجهزة الليزر المعروفة حتى الآن. كما قامت الولايات المتحدة بتصنيع ما يعرف بـ «آلة زد » (Z Machine) في مختبرات سانديا الوطنية. والتي يمكنها إنتاج طاقة تعادل ستة أضعاف كمية الطاقة التي ينتجها العالم بأسره. ولكن لمدة تقاس بالنانو ثانية باستخدام تقنية الليزر أيضاً. وتم تصنيع تلك الآلة أصلاً، لقياس قوة وصلاحية الأسلحة النووية دون الحاجة إلى أي تفجير. وذلك ما يفسر عدم إجراء الولايات أي اختبارات للقنابل النووية منذ سنوات طويلة.
إقرأ:طاقة الاندماج النووي: أنواع المفاعلات وطرق الاندماج (5 من 5)
وأعلنت الصين قبل عدة سنوات أن الأكاديمية الصينية للفيزياء الهندسية، المعنية بتطوير الأسلحة النووية، باشرت بناء «آلة Z » أكبر وأكثر كفاءة من الآلة الأميركية. إذ يقدر أن تنتج حوالي 60 مليون جول من الطاقة، وهي أعلى بحوالي 22 ضعف من طاقة الآلة الأميركية. وتقدر الحرارة الناجمة عن الاندماج بحوالي 100 مليون درجة مئوية أي أكثر بخمس مرات من حرارة لب الشمس.
الاستخدام المزدوج
لا تحتاج إمكانية الاستخدام المزدوج المدني والعسكري لتقنية الاندماج النووي إلى تحليل واستدلال. فقد تولت تأكيد ذلك وزيرة الطاقة الأميركية السابقة جينيفر غرانهولم، في معرض تعليقها على إنجاز ديسمبر، بالقول «بالإضافة إلى أنه يسهم في توليد الطاقة النظيفة، فإنه يسهم أيضاً في تعزيز قدرة الردع النووي الأميركية بدون الحاجة إلى اختبارت التفجير».
وعليه فإن صور المنشأة التي «كشفتها» الأقمار الصناعية، باعتبارها منشأة للاندماج النووي باستخدام أشعة الليزر، هي «مكشوفة» أصلاً عبر التصريحات الرسمية للمسؤولين الصينيين. والطريف أن مقدمة الخبر المنشور قبل أيام، والمتعلقة بالمنطقة الجبلية الوعرة للمنشأة، جاءت مشابهة تماماً لمقدمة تحقيق عن هذه المنشأة نشر في صحيفة South China Morning Post بتاريخ 12 ديسمبر 2018. وجاء فيه: «في عمق مقاطعة سيشوان الجبلية بجنوب غرب الصين يقوم الجيش ببناء آلة لمحاكاة الانفجارات النووية. وتم وصفها بأنها النسخة الصينية من «آلة Z» الأميركية».
أهمية صور الأقمار الصناعية
ولكن الصور قد تنفع في تحديد تصميم المنشأة وضخامة حجمها. وهو ما أشار إليه ديكر إيفليث من منظمة «سي.إن.إيه» للأبحاث الأميركية والذي يراقب ويتابع المنشآت النووية الصينية منذ سنوات. فقال إن الأجنحة الأربعة الواضحة في الصور، قد تكون عنابر أجهزة الليزر. والتي توجه الأشعة إلى نقطة مركزية في البرج الواقع في الوسط، حيث تتم عملية اندماج نظائر الهيدروجين لإنتاج الطاقة.