استقرار أسواق النفط بين «رصانة» أوبك و «انقلابات» وكالة الطاقة الدولية

  • في مؤتمر «سيراويك» 2025، أعلن الفاتح بيرول «البلاغ رقم 1» للانقلاب الثالث في سلسلة «انقلابات» وكالة الطاقة الدولية على توجهاتها وسياساتها. وقال: سأكون واضحاً.. هناك حاجة ماسة لاستثمارات ضخمة في قطاعي النفط والغاز.. ونقطة على السطر”.
  • في مايو 2021 أذاع مدير عام الوكالة، «البلاغ رقم 1» للانقلاب الثاني، معلناً ضرورة وقف الاستثمار في النفط والغاز لحماية أمن المناخ. وأطلق التقرير الشهير «خريطة الطريق إلى صافي صفر انبعاثات في 2050». والذي جاء فيه حرفياً: “ليست هناك حاجة للاستثمار في الوقود الأحفوري في مسارنا نحو صافي صفر انبعاثات”.
  • في مؤتمر «سيراويك» 2017، أعلن الفاتح بيرول «البلاغ رقم 1» للانقلاب الأول لتثبيت سياسة الوكالة بدعم النفط والغاز. وخاطب شركات النفط بالقول “استثمروا.. استثمروا.. استثمروا، فالنفط هو حجر الزاوية لأمن الطاقة بغض النظر عن سياسات المناخ”.

خلفيات التقلبات

انقلابات وكالة الطاقة الدولية والتقلب في التوجهات والسياسات، ليس بسبب نقص الخبرة والكفاءات. بل هو نتيجة لتقلب التوجهات لدى الدول الأعضاء أولاً. وثانياً والأهم، هو نتيجة للتباين في استراتيجيات هذه الدول تجاه قضية التغير المناخي والطاقة المتجددة. وتحديداً بين أميركا الداعمة للوقود الأحفوري على حساب التغير المناخي، وبين أوروبا التي تتبنى نهجاً معاكساً. وكانت خطيئة وكالة الطاقة الدولية هي الاندفاع حتى التطرف في تبني أحد هذين الاتجاهين. ما اضطرها إلى تطويع الحقائق والمعطيات لكي تناسب هذا التوجه أو ذاك، أو لإرضاء هذا الفريق أو ذاك من الدول الأعضاء. الأمر الذي أفقدها الرصانة والموضوعية في التحليل والاستنتاج. وجعلها عرضة للانتقادات من جميع الأطراف. كما جعل إدارتها عرضة للمساءلة من قبل بعض الدول الأعضاء.

إقرأ أيضاً: أوبك: تبشير وكالة الطاقة الدولية بـ «عصر الكهرباء»، مغالطات وخيال علمي

إقرأ أيضاً: وكالة الطاقة الدولية بين تغيير المدير العام ووقف التمويل الأميركي

ونستعرض في ما يلي أبرز هذه التقلبات وخلفياتها:

الانقلاب الأول: دعم النفط والغاز

سعى الفاتح بيرول منذ تعيينه مديراً عاماً للوكالة في العام 2015. إلى تغيير سياستها وتوجهاتها لتتبنى سياسة «أوروبية الهوى، مؤيدة لأمن المناخ»، كما قال ديف بانكس، مسؤول شؤون الطاقة الدولية والبيئة في مجلس الأمن القومي في ذلك الحين. وأضاف “نعتقد أن الوكالة التي يديرها الأوروبيون، تعطي الأولوية لأمن الطاقة الأوروبية بدون مراعاة الاعتبارات الأميركية”. وقد وصلت تلك الرسالة إلى إدارة الوكالة وإلى الدول الأوروبية. خاصة وانها ترافقت مع تصريحات علنية بعزم الإدارة الأميركية على إقالة بيرول وتعيين مديراً عاماً أكثر توازناً في مواقفه. وذلك ما يفسر الإنقلاب الذي حدث في 2017 وإعلان الدعم الكامل لصناعة النفط والغاز.

الانقلاب الثاني: دعم الطاقة المتجددة والمناخ

شكل تبني إدارة الحزب الديمقراطي لسياسات داعمة للطاقة المتجددة ومواجهة التغير المناخي، حافزاً للدول الأوروبية ولإدارة وكالة الطاقة الدولية لتنفيذ الإنقلاب الثاني. وتمثل التحول الأبرز في هذا السياق، بإصدار التقرير المشار إليه سابقاً بشأن خريطة الطريق إلى الصفر الصافي، في العام 2021. وتوالى بعده إصدار التقارير المناهضة للنفط والغاز، والتوقعات والتقديرات غير الدقيقة للطلب على النفط. وكان الهدف المركزي تقليص الاستثمارات في الوقود الأحفوري، واعتبار أن عصر النفط شارف على نهايته. وأدى ذلك التوجه إلى خلق مشكلة مع منظمة أوبك، تظهرت في إصدار سلسلة من التقارير المضادة التي تفند خطأ وعدم دقة تقديرات وتحليلات الوكالة. وتظهرت أيضاً بانتقادات قاسية من قبل وزراء الطاقة في المنظمة كان أبرزها تصريحات الأمير عبد العزيز بن سلمان وزير الطاقة السعودي والوزير سهيل المزروعي وزير الطاقة والبنية التحتية الإماراتي.

الانقلاب الثالث: العودة إلى «تمجيد» النفط 

بدا واضحاً بعد فوز الحزب الجمهوري بالرئاسة، وإعلان الإدارة الجديدة، تبني سياسات داعمة للنفط والغاز وتقليص دعم الطاقة المتجددة، أن ساعة الحساب مع الوكالة الدولية للطاقة قد اقتربت. خاصة بعد تعيين كريس رايت، في منصب وزير الطاقة. وهو رجل أعمال وصف سياسات مواجهة التغير المناخي والصافي الصفري بأنها “شريرة”. كما وصف تقارير وتحليلات وكالة الطاقة الدولية بأنها تعبر عن “مزيج من الجهل التام والأهداف الشريرة”. يضاف إلى ذلك تصاعد التسريبات والتصريحات العلنية بشأن قيام الإدارة الأميركية بدراسة الخيارات المتاحة للتعامل مع “مشكلة” وكالة الطاقة الدولية. وتراوحت هذه الخيارات بين إقالة الفاتح بيرول وكبار المسؤولين التنفيذيين، وبين التلويح بوقف التمويل الأميركي للوكالة في حال عدم موافقة الدول الأوروبية على تعديل سياسات الوكالة.

إقرأ أيضاً: وكالة الطاقة الدولية تواصل «مسيرة» التوقعات الخاطئة

إقرأ أيضاً: الكونغرس الأميركي يتهم ويحاكم وكالة الطاقة الدولية

وذلك ما شكل الدافع الفعلي لحدوث الإنقلاب الثالث. والذي يصح اعتباره بمثابة حل وسط وربما مرحلي. يقضي بأن تقوم الإدارة الحالية بالتراجع عن السياسات المعتمدة وإحداث تغيير جذري في التوجهات، بانتظار ما قد تفرضه التطورات والمتغيرات.

خطورة انقلابات وكالة الطاقة الدولية

قد يتساءل البعض عن أسباب إعطاء كل ذلك الاهتمام لسياسات وتحليلات و«انقلابات» وكالة الطاقة الدولية. والجواب ينقسم إلى شقين. الأول هو أن الوكالة تمثل الدول الصناعية الكبرى، وبالتالي يفترض أن تكون سياساتها معبرة عن توجهات تلك الدول التي لها تأثير كبير في أسواق الطاقة وفي الاقتصاد العالمي بشكل عام. والثاني، هو أن صناعة النفط والغاز تتطلب استثمارات ضخمة وطويلة الأجل، وهي بالتالي شديدة الحساسية تجاه التقلبات السياسية والاقتصادية، وتجاه آفاق نمو العرض والطلب على المديين المتوسط والطويل. ولذلك فإن «العالم يحتاج إلى وضوح لا لبس فيه بشأن حقائق مستقبل العرض والطلب. وينبغي للوكالات الدولية المعنية، ان تُدرك المسؤولية الجسيمة المترتبة عليها، ولا يفترض أن تُغير مواقفها وسياساتها كل عامين. وأن تخلط بين السياسات والتقديرات والروايات» كما قال أمين عام «أوبك» هيثم الغيص.

وتتوقع «أوبك» أن تلبية احتياجات العالم من الطاقة تتطلب ضخ استثمارات تراكمية في قطاع النفط والغاز لا تقل عن 17.4 تريليون دولار بحلول العام 2050. ويشمل ذلك تعويض تراجع إنتاج الحقول القائمة. حيث يتوجب زيادة الإنتاج العالمي بحوالي 5 ملايين برميل يومياً عن مستويات العرض الحالية لتعويض هذا النقص.

وبات معروفاً ومؤكداً أن تراجع الاستثمار في النفط والغاز يشكل تهديداً جدياً لأمن الطاقة ويقوض الركائز الأساسية للنمو الاقتصادي العالمي. بكل ما يحمله ذلك من تداعيات سياسية واجتماعية. خاصة وان الطاقة المتجددة رغم أهميتها وضرورة تطويرها، لم ولن تشكل بديلاً عن النفط والغاز في الأمد المنظور وربما غير المنظور.

«أوبك» والموازنة بين أمن الطاقة وأمن المناخ

تتميز مقاربة منظمة «أوبك» والدول المنتجة للنفط لمسألة أمن الطاقة وأمن المناخ، بأنها مبنية على تحليل دقيق وموضوعي لآفاق العرض والطلب، وبالتالي لحجم الاستثمارات اللازمة. وقد ظهر ذلك بوضوح خلال السنوات 2021 – 2023 حين أحجمت الشركات العالمية عن الاستثمار في قطاع النفط والغاز في ظل حالة من الارتباك، وعدم اليقين بشأن مستقبل النفط والغاز. إذ اندفعت بعض الدول المنتجة مثل السعودية والإمارات لضخ استثمارات كبيرة لزيادة طاقاتها الانتاجية. ولخص الأمير عبد العزيز بن سلمان تلك المقاربة بقوله: “نحن نواجه حالة عدم اليقين باليقين”.

عسى أن يكون الانقلاب الثالث في وكالة الطاقة الدولية هو الأخير في مسيرة تقلب السياسات وخطأ التقديرات وتسييس التحليلات. وأن تعود إلى اعتماد سياسات رصينة تؤسس لتعاون وتكامل الجهود مع منظمة «أوبك» والدول المنتجة والمستهلكة للنفط بهدف الحفاظ على استقرار أسواق النفط والغاز وحماية أمن الطاقة. مع السعي الدائم لتطوير الطاقة المتجددة وحماية أمن المناخ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: