مستقبل البترول


نشر د. إبراهيم عبد العزيز المهنا مقالاً في جريدة الشرق الأوسط حول مستقبل البترول. ونعيد نشره نظراً لأهميته بالإذن من الكاتب والناشر.
خلال الأعوام الأربعة الماضية، ظهرت توقعات من خبراء ومنظمات دولية، تشكك في مستقبل البترول. وتتوقع أن يبلغ الطلب ذروته في عام 2030 أو 2035، ليبدأ بعدها في الانخفاض التدريجي، أو ربما الانهيار الكلي. بحيث يصل الطلب في عام 2050 إلى أربعين أو خمسين مليون برميل يومياً، منخفضاً بحوالي 60 في المئة عما هو عليه اليوم.
ومستقبل البترول، ومنذ أن أصبح مادة أساسية في السياسات المحلية والدولية والاقتصاد وحياة البشر مع بداية القرن العشرين، ظل عرضة للشكوك. وظلت بعض الأفكار والتكهنات السلبية تسود بين بعض الاقتصاديين والخبراء والإعلام، وحتى بين السياسيين.
ومن الأفكار التي سادت ثم بادت:
أولاً: محدودية كميات البترول القابل للاستخراج، والتي تعني أن البترول في طريقه إلى النضوب. ويتم تحديد سنة معينة لحصول ذلك.
كل التوقعات السابقة بنضوب النفط «سادت ثم بادت»، ويرجح أن ينطبق ذلك على التوقعات الحالية المشابهة
هذه الفكرة ظهرت عدة مرات خلال القرن العشرين. ومن أهمها ما توقعه الجيولوجي الأميركي ماريون كينغ هوبرت Marion King Hubbert عام 1956، من وصول الإنتاج الأميركي من البترول إلى ذروته بحلول الستينيات أو قبل ذلك.
إقرأ أيضاً:
أمن الطاقة وأمن المناخ: بين فضيلة الدمج ورذيلة الفصل (2 من 2)
وكالة الطاقة الدولية: أخطاء التقديرات.. وخطايا السياسات
وتكررت الفكرة عدة مرات في فترات لاحقة، لعل آخرها ما راج في السبعينيات مع تقرير نادي روما، الذي شارك في إعداده خبراء عالميون مشهورون. وتوقع نضوب المواد الأولية بما فيها البترول. وتبع ذلك تقرير من قبل الحكومة الأميركية في عام 1980، وصلت تقديراته إلى أن نضوب البترول سوف يبدأ في عام 2000.
نضوب البترول السعودي
ثانياً: فكرة قرب نضوب البترول السعودي. وظهرت في بداية القرن الواحد والعشرين، وتبناها الخبير والمستثمر الأميركي ماثيو سيمونز، Matthew Simmons، الذي نشر في عام 2005، كتاباً بعنوان (الغروب في الصحراء: هزة البترول السعودي، والاقتصاد العالمي). وقد انتشرت تلك المقولة ولقيت اهتماماً عالمياً، وتم نشر الكثير من المقالات والأبحاث والكتب حولها. ولكنها لم تعش لأكثر من خمس سنوات، حيث أثبت الواقع العملي خطأها.
توقعات ماثيو سيمونز بكتابه الشهير «الغروب في الصحراء» بنضوب النفط السعودي، لم تعش أكثر من خمس سنوات
ثالثاً: فكرة أن الإنتاج العالمي من البترول سوف يصل إلى حده الأقصى، ثم يبدأ في الانخفاض. ففي بداية القرن العشرين، وتحديداً في العام 2001، أصدر البروفسور وخبير البترول الأميركي كينيث ديفيس Kenneth Davis، كتاباً قال في مقدمته: (الإنتاج العالمي من البترول، سوف يصل إلى قمته خلال هذا العقد.. وبعد ذلك سوف يسقط، ولن يعود أبداً بعد ذلك).
وللعلم فقط، فقد كان الإنتاج العالمي آنذاك 85 مليون برميل يومياً، أما الآن فهو 105 مليون برميل!
مقولة تراجع الاستهلاك
رابعاً: تظهر بين الحين والآخر فكرة وصول استخدام (استهلاك) البترول إلى قمته ثم بداية انخفاضه. وقد بدأ تداولها في أواخر السبعينيات والنصف الأول من الثمانينيات، عندما قررت الدول الغربية، كردة فعل لتأثير الأوبك على السوق، تخفيض استخدامها للبترول. واعتمدت عدة طرق لعل من أهمها تخفيض استهلاك البترول والطاقة بوسائل متعددة من بينها تحديد سرعة السيارات، وكذلك تشجيع استخدام الفحم، والطاقة النووية لتوليد الطاقة.
أما الفكرة السائدة حالياً فتتمثل في انخفاض استخدام البترول والغاز والفحم (المصادر الأحفورية)، بل التخلص منها بشكل كبير. والتحول إلى الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح وحتى النووية، لمحاربة الاحتباس الحراري.
هذه الأفكار ترتفع وتنخفض وأحياناً تسُود وتبيد. وهذا الأمر ليس محصوراً في الطاقة والبترول، بل يشمل مجالات أخرى، سياسية واقتصادية وثقافية وحتى فنية وأدبية.
ماذا عن المستقبل
بالنسبة لمستقبل النفط، فهناك المتشائمون والسلبيون ومن يحبون الظهور، ومن تدفعهم أهداف سياسية. فمستقبل البترول لا تحكمه التمنيات والرغبات. بل يحكمه المنطق، والتطور الاقتصادي عالمياً ومحلياً. وكذلك سعي المواطنين نحو الرفاهية. والأهم من ذلك المصالح الوطنية، كما تراها الطبقة الحاكمة. فالآن نرى تحول الحكومة الأميركية من سياسة دعم الطاقة المتجددة مادياً ومن خلال التشريعات، إلى سياسة تعمل على إيقاف ذلك الدعم وتشجع إنتاج البترول والغاز وتصديره، مع اعتباره مصدراً مهماً لمصلحة وقوة أميركا.
إلا أن الأهم من كل ما سبق هو مناطق النمو الاقتصادي العالمي، التي تعتبر مناطق لنمو الطلب على البترول. فبعد الحرب العالمية الثانية، حيث بدأت انطلاقة استخدام البترول بشكل كبير، كانت دول الغرب (أميركا وأوروبا الغربية) المركز الرئيس للنمو الاقتصادي العالمي ومن ثم نمو استخدام البترول. وتليها المنظومة السوفيتية (روسيا ودول أوروبا الشرقية). وفي الثمانينيات والتسعينيات انتقل ثقل النمو الاقتصادي العالمي ونمو الطلب على البترول إلى جنوب شرق آسيا، وبخاصة اليابان وكوريا الجنوبية. وفي العقد التالي، أصبحت الصين، هي المحرك الرئيس للاقتصاد العالمي، وعاملاً مهماً في نمو استخدام البترول. حيث تحولت من دولة مصدرة إلى ثاني أكبر دولة مستهلكة وأول دولة مستوردة. إضافة إلى دول أخرى آسيوية أصبحت ذات أهمية متزايدة وسوف تستمر كذلك، لعل من أبرزها الهند، وإندونيسيا، وبنغلاديش وفيتنام وغيرها.
مستقبل البترول لا تحكمه الرغبات والاعتبارات السياسية، بل الحاجة إلى مصدر موثوق للطاقة يدعم النمو الاقتصادي والتطور. ولذلك يرجح ارتفاع الإنتاج إلى 120 م/ب/ي في 2050
وللمقارنة فإن المعدل السنوي لاستهلاك الفرد من الوقود الأحفوري وعلى رأسه البترول يصل في أميركا إلى ما يعادل 62 ألف كيلواط وفي الصين إلى 27 ألف كيلواط وفي الهند إلى 6 آلاف كيلواط، وفي أفريقيا جنوب الصحراء أقل من ذلك بكثير. كما أن الطلب على الكهرباء عالمياً يرتفع بحوالي 4 في المئة سنوياً، وتقود ذلك دول العالم الثالث وعلى رأسها أفريقيا. فيوجد حالياً حوالي 600 مليون إنسان جنوب الصحراء لا تتوفر لديهم الكهرباء. ويبدو أن المستقبل سيكمن في أفريقيا. وبالذات جنوب الصحراء، التي تمتلك المقومات الرئيسية لتكون المركز الجديد للنمو الاقتصادي العالمي، ومن ثم نمو الطلب على الطاقة والبترول. ومن هذه المقومات، امتلاك أعلى نسبة نمو اقتصادي حيث تصل في العديد من الدول إلى أكثر من 5 فيي المئة. كما أن نسبة نمو عدد السكان تصل إلى 4.5 في المئة. في وقت ينخفض فيه عدد السكان في مناطق أخرى من العالم مثل الدول الأوروبية، واليابان وكوريا. فالقوة البشرية الشابة المتعلمة سوف تستمر أساساً رئيسياً للنمو الاقتصادي في كافة القطاعات. وسعي بلدانهم للمنافسة عالمياً مع امتلاك العديد من الدول الأفريقية لثروات معدنية كبيرة ومهمة.
تحدي توفير الإمدادات الكافية
ومن هنا نستطيع القول بأن نمو الاقتصاد العالمي سوف يستمر، مع انتقال الزخم من منطقة إلى أخرى، ومن هنا نمو الطلب على البترول، وكافة مصادر الطاقة الأخرى وعلى رأسها المتجددة، وإن اختلف مستواه من سنة إلى أخرى. كما قد يتعرض لهزات مثلما حدث في عام 2020 نتيجة لفيروس كورونا، الذي أثر على قطاع النقل المحلي والعالمي. إلا أن هذه الهزات لا تستمر طويلاً، حيث يعاود الطلب ارتفاعاته، وقد يصل في عام 2050 إلى أكثر من 120 مليون برميل يومياً. ليظهر حينذاك تحدٍ ثانٍ، هو كيفية مواجهة تزايد الطلب في ظل غيوم التشكيك الحالية التي قد تؤثر سلباً على الاستثمارات ومن ثم توفر الإمدادات في المستقبل.