سباق معادن أعماق البحار: هل تُغيّر أميركا قواعد اللعبة وتلحق بالصين؟

يعكس طول مدة اجتماعات الهيئة الدولية لقاع البحار، التي تستمر قرابة شهرين، عمق التنافس بين الدول الصناعية الكبرى حول معادن أعماق البحار . كما يعكس حجم الخلافات بشأن القضايا المتعلقة بالتنظيم، والبيئة، وحقوق جميع دول العالم في هذه الثروة المصنفة «تراثاً مشتركاً للبشرية». وأبرز التطورات الأخيرة هو دخول الولايات المتحدة «حلبة السباق». بالإضافة إلى إعلان الصين عزمها تجاوز الهيئة الدولية وبدء التعدين التجاري في المناطق الاقتصادية الخالصة لبعض الدول الجزرية، مثل جزر كوك.

نشير بدايةً إلى أن المرحلة الثانية من اجتماعات الهيئة، المقرر عقدها خلال شهري يونيو ويوليو المقبلين، يُرجح ألا تكون أفضل حالاً من المرحلة الأولى التي انتهت في 28 مارس، ولا من اجتماعات العامين الماضيين. إذ لا تزال هناك خلافات حول نحو 2000 نقطة في مسودة اللوائح التنظيمية، مما يعني ترحيل الخلافات مرة جديدة إلى العام المقبل.

خلافات بشأن 2000 نقطة تتعلق بقضايا التنظيم والبيئة وحقوق الدول النامية تعيق التوصل لاتفاق

بين الجرف القاري واتفاقية قانون البحار

يرجّح المراقبون أن تشهد الفترة المقبلة تحولاً جذرياً في قواعد اللعبة، يتمثل في دخول أميركي مباشر وفاعل في إدارة هذا الملف، بعد حالة الانكفاء و”الإدارة عن بعد” التي انتهجتها الولايات المتحدة طوال السنوات الماضية. وأبرز المؤشرات على هذا التغيير هو تعيين الإدارة الأميركية الحالية عدداً كبيراً من المسؤولين المعروفين بتأييدهم للتعدين في أعماق البحار. وتزامن ذلك مع تصاعد الحديث عن توجه الكونغرس للمصادقة على انضمام الولايات المتحدة إلى اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، مما يسمح لها بالانضمام إلى عضوية الهيئة الدولية لقاع البحار.

إقرأ أيضاً:

معادن أعماق البحار: هل يشعل تعثر التنظيم الفوضى والصراعات

«حرب الأعماق» للفوز بمليارات الأطنان من المعادن النادرة (1 من 2)

وفي هذا السياق، علّق جيرارد بارون، الرئيس التنفيذي لشركة ميتالز الكندية TMC، التي تقود حملة إصدار التراخيص التجارية، قائلاً إن مواقف الإدارة الأميركية الحالية تعد الإنجاز الأهم لصناعة التعدين البحري، مضيفاً: “سيشهد هذا العام حسم جميع القضايا العالقة، وسيلمس الجميع تأثير الولايات المتحدة القوي”.

تتوافر معطيات عديدة تدفع الإدارة الأميركية نحو التصديق على الاتفاقية، وكان آخرها وربما أكثرها إثارة للمخاوف، إعلان وزارة الخارجية الروسية في 25 مارس 2025، أنها لن تعترف بترسيم حدود الجرف القاري الذي أعلنته الولايات المتحدة في ديسمبر 2024. والذي يضع مساحة تبلغ حوالي مليون كيلومتر مربع من قاع المحيط المتجمد الشمالي والمحيط الأطلسي والمحيط الهادئ تحت السلطة القضائية الأميركية. واعتبرت أن الترسيم تم «بشكل أحادي، ومخالف للقانون الدولي والقواعد والإجراءات». وأرجعت ذلك إلى أن الولايات المتحدة لم تُصادق على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار. كما أعلنت الصين معارضتها لهذا الترسيم للأسباب ذاتها.

أميركا تدرس المصادقة على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار بعد 40 عاماً من رفض الكونغرس

طبعاً، الاتهامات بعدم قانونية الترسيم ليست دقيقة، لأنه يستند إلى اتفاقية الجرف القاري لعام 1958. ولكن مع ذلك سيظل موضع جدل ونزاعات قانونية، نظراً لتعارضه مع أحكام اتفاقية قانون البحار. ومن المعروف أن الولايات المتحدة تفضل الاحتكام إلى اتفاقية الجرف القاري، لأنها تحقق مصالحها بدرجة أكبر مقارنةً باتفاقية قانون البحار، وهو السبب الذي حال دون مصادقة الكونغرس على هذه الاتفاقية طوال الأربعين سنة الماضية.

فورين بوليسي: «الحل سهل»

لكن يبدو أن الأمور تتغير بسرعة. وهو ما عبرت عنه مجلة فورين بوليسي، التي نقلت عن مسؤولين أميركيين قولهم إن الموقف الأميركي عانى من نقطة ضعف خطيرة تتمثل في القدرة على منافسة الصين في الوصول إلى الموارد الحيوية، خصوصاً المعادن النادرة. والأهم من ذلك في قدرة الولايات المتحدة على تعزيز تحالفاتها في المحيط الهادئ، في مواجهة التوسع الصيني واسع النطاق. ووفقاً لما نقلته المجلة، فإن “الحل سهل، وهو مصادقة مجلس الشيوخ على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار”.

اجتماعات الهيئة الدولة لقاع البحار 2025

ومن المؤشرات الدالة على إمكانية مصادقة الولايات المتحدة على هذه الاتفاقية، مبادرتها إلى التوقيع على اتفاقية أعالي البحار في 20 سبتمبر 2024. وهو اليوم الذي فُتح فيه باب التوقيع عليها في الأمم المتحدة. وأُحيلت الاتفاقية إلى مجلس الشيوخ في 18 ديسمبر للموافقة والتصديق. وتُعد هذه الاتفاقية مُنبثقة عن اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار. كما يلاحظ تصاعد الدعوات من قبل مراكز الأبحاث ووسائل الإعلام الأميركية إلى التصديق على الاتفاقية. ومن بينها عريضة وقعها مئات المسؤولين الحاليين والسابقين من الحزبين الجمهوري والديمقراطي.

الصين تخترق الفناء الخلفي لأميركا

تأتي هذه التطورات في ظل توالي المكاسب التي تحققها الصين في سباق معادن الأعماق، وكان آخرها وربما أكثرها خطورة توقيع اتفاقية للتعدين في أعماق البحار مع جزر كوك في شهر فبراير الماضي. وتتمثل خطورة هذا المكسب في أن جزر كوك تُعد تاريخياً ضمن المحور الأميركي-الغربي، كما أنها ترتبط بعلاقة “ارتباط حر” مع نيوزيلندا، ويحمل مواطنوها الجنسية النيوزيلندية. أما علاقتها مع الولايات المتحدة، فقد بلغت ذروة غير مسبوقة مع إقامة علاقات دبلوماسية رسمية في سبتمبر 2023.

الصين تتجاوز الهيئة الدولية لقاع البحار وتبدأ التعدين في «الحديقة الخلفية» لأميركا

ورغم سعي الولايات المتحدة ونيوزيلندا إلى تعطيل الاتفاقية مع الصين، عبر محاولة سحب الثقة من حكومة رئيس الوزراء مارك براون. إلا أن المحاولة باءت بالفشل، ما يهدد بترسيخ الوجود الصيني في هذه الدولة ذات الموقع الاستراتيجي. لا سيما أن توقيع الاتفاقية تزامن مع إجراء الصين مناورات بحرية ضخمة بالذخيرة الحية في المنطقة الواقعة بين أستراليا ونيوزيلندا.

وجاءت اتفاقية المعادن مع جزر كوك بعد حركة صينية لا تقل أهمية في جزر سليمان. حيث بدأت الصين مفاوضات معها في عام 2022 لتوقيع اتفاقية أمنية. مما شكّل تحدياً مباشراً لأستراليا، التي تربطها علاقات خاصة بهذه الجزر، وكذلك للمحور الأميركي-الغربي عموماً.

أقرأ أيضاً:

حرب معادن الأعماق: هل يكون صدع كليبرتون، إقليم دونباس نرويجي (2 من 2)

ورشة دولية لبناء أساطيل حفارات وحصادات لمعادن أعماق البحار

تجدر الإشارة إلى أن المنطقة الاقتصادية الخالصة لجزر كوك تحتوي على أكثر رواسب العقيدات متعددة المعادن جودةً وكثافةً. وأظهرت الاستكشافات الأولية التي أجرتها الصين أن العقيدات تحتوي على تركيزات عالية من الكوبالت. الذي يعد من أبرز المعادن النادرة. يضاف إلى ذلك أن هذه الجزر تُعد عقدة رئيسية في خطوط الاتصال البحرية بين الولايات المتحدة وحلفائها، خصوصاً أستراليا ونيوزيلندا.

سباق المعادن النادرة

يقود الحديث عن غنى جزر كوك بالمعادن النادرة إلى القضية الشائكة التي تؤرق الولايات المتحدة وبقية الدول الصناعية. وهي الهيمنة شبه المطلقة للصين على تعدين وتكرير هذه المعادن، التي تعد مكوناً رئيسياً في مختلف الصناعات والمنتجات بدءاً من ألعاب الأطفال إلى الأسلحة الحديثة وصناعة الفضاء، مروراً بمراكز البيانات والطاقة المتجددة.

وتشكل سيطرة الصين على معادن أعماق البحار النادرة، إلى جانب هيمنتها على التعدين البري لهذه المعادن، مشكلة جدية للولايات المتحدة وحلفائها، خصوصاً في ظل النمو المتسارع المتوقع للطلب على هذه المعادن. إذ تقدر وكالة الطاقة الدولية أن يرتفع الطلب على معادن الطاقة النظيفة وحدها بنسبة تصل إلى 600% بحلول عام 2040.

وتزداد المشكلة تعقيداً مع محدودية الموارد الأرضية، وصعوبة استخراجها، وضعف جودة المواد الخام، إلى جانب القيود البيئية، والعوامل الجيوسياسية المرتبطة بأنظمة الحكم في الدول النامية، خصوصاً في أفريقيا، حيث تتركز هذه المعادن.

كل ذلك يجعل معادن أعماق البحار الخيار الوحيد المتاح أمام الولايات المتحدة والدول الصناعية للوصول إلى المعادن النادرة وتقليص ارتهانها للصين. ويبدو أن سرعة دخول هذا السباق ستكون العنصر الحاسم للفوز به. وإلا ستجد أميركا أن الصين بانتظارها في أعماق البحار، كما انتظرتها عند خط النهاية في سباق التصنيع وسلاسل الإمداد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: