بين أمن الطاقة وأمن المناخ..
عودة بائسة إلى سلاح الغاز
أزمة الطاقة التي تضرب بعنف غير مسبوق العالم وأوروبا تحديداً، هي أزمة سياسات وتصفية حسابات وإرباكات وليست أزمة إمدادات. فهي تتعلق أولاً بالسياسات المتسرعة لتقليص الاعتماد على الطاقة الأحفورية في سياق التزام معايير التغير المناخي. ولتصبح الدول الغربية أسيرة الاختيار بين أمن الطاقة وأمن المناخ. وهي تتعلق ثانياً باستخدام الغاز والنفط كسلاح سياسي بعد غزو روسيا لأوكرانيا. ويمثل ذلك استعادة بائسة لتجارب سبعينيات القرن الماضي واستعادة أكثر بؤساً لتجربة تدخل الحكومات وقادة الدول بأسواق الطاقة.
محاربة الوقود الأحفوري
ونشرح باختصار، فنشير إلى أن نظام الطاقة العالمي يعاني قبل غزو أوكرانيا. من ضغوط شديدة بسبب تبنّي أمريكا لخيار الطاقة النظيفة وتدمير الطاقة الأحفورية. ورغم التسويات التي حصلت في مؤتمر “كوب 26” لاستيعاب معارضة الصين والدول المنتجة للنفط ولوبي الصناعة النفطية في الدول الكبرى. فقد تم اعتماد سياسات وإجراءات تستهدف الوقود الأحفوري وبخاصة الفحم. من خلال اتفاقيات دولية وفرض تغيير القوانين الوطنية بما يتلاءم معها.
وشمل ذلك وضع قيود مشدَّدة على مشاريع الوقود الأحفوري من ناحيتَي التمويل والترخيص. ومبادرة مؤسسات التمويل الدولية إلى ربط المساعدات والقروض بالتزام معايير التغير المناخي. ووصل الأمر بأمريكا وأوروبا إلى دفع بعض الدول الصغيرة بعد المؤتمر مباشرة إلى تقديم مشروع قرار في مجلس الأمن “لاعتبار التغير المناخي خطراً رئيسياً على السلم والأمن والاستقرار العالمي”.
ولأن أوروبا كانت الأشد حماسة في تطبيق هذه السياسات والأكثر هشاشة في نظام الطاقة، فقد دفعت الثمن الأكبر. فشهدت أسعار الغاز ارتفاعاً كبيراً، وبلغت قبل غزو أوكرانيا نحو 20 دولاراً لكل ألف وحدة حرارية بريطانية. مقابل أقلّ من 5 دولارات في أمريكا وآسيا. ما اضطرّ عشرات المصانع إلى تقليص الإنتاج أو حتى الإغلاق.
كما اندلعت موجة احتجاجات بدأت في فرنسا وبلغت ذروتها في كازاخستان، قبل أن تنفجر في سريلانكا. ونفتح مزدوجين لتوضيح أن الرئيس السريلانكي الهارب كان “ملكيّاً أكثر من الملك” في تنفيذ سياسات التغير المناخي. وكانت أبرز “إبداعاته” منع استخدام الفحم لتوليد الكهرباء مع عجز عن استيراد الغاز. كما منع استخدام الأسمدة الكيماوية في الزراعة، وفرض استخدام الأسمدة العضوية غير المتوافرة. وكانت النتيجة انهيار إنتاج الأرز وهو الغذاء الرئيسي للسكان. وكذلك الشاي وهو المصدر الرئيسي للعملة الصعبة. ولتصبح الإطاحة به وبإبداعاته المناخية هي الحل الوحيد.
المهمّ أن هذه السياسات أدّت إلى تراجع كبير في استثمارات النفط والغاز. وإلى حالة من عدم اليقين في أسواق الطاقة. وكان الوضع يحتاج إلى أي شرارة من نوع غزو أوكرانيا، لتنهار أسواق الطاقة مطلقة حلقة مقفلة من التداعيات الكارثية. تتمثل بارتفاع حاد للأسعار، يقود حتماً إلى ارتفاع معدلات التضخم، يليه رفع أسعار الفوائد ومن ثم تدهور معدلات النمو.
“11 سبتمبر” أوروبي
رغم فداحة الأضرار الناجمة عن أزمة الاختلالات في أسواق الطاقة، فقد شهدنا اندفاعاً مستهجَناً لاستخدام الغاز والنفط كسلاح سياسي سواء من أمريكا وأوروبا بهدف إحكام طوق العقوبات على روسيا. أو من قبل روسيا بهدف الضغط على أوروبا لدفعها إلى تغيير موقفها. وهو الأمر الذي أدَّى ليس إلى مفاقمة الأزمة وحسب. بل إلى خلق معطيات جديدة في هذه الأسواق تشبه تلك التي سادت في حقبة السبعينيات عندما تَحوَّل النفط إلى سلاح سياسي بعد حظر النفط العربي.
وهي المعطيات التي حكمت الجغرافيا السياسية طوال العقود الأربعة الماضية، إذ سعت أمريكا وحلفاؤها إلى إحكام السيطرة على موارد الطاقة استكشافاً وإنتاجاً وتسويقاً. إضافة إلى ضمان أمن الإمدادات. وبات أمن واستقرار وازدهار الدول المنتجة للنفط مرتبطاً بعمق تحالفها مع أمريكا التي استخدمت تحكُّمها بهذه الموارد في صراعها مع الاتحاد السوفييتي، وفي تنافسها مع الصين لاحقاً.
ووصف تقرير بالغ الأهمية نشرته مجلة “فورين أفيرز” الوضع الحالي بعد غزو أوكرانيا بـ”11 سبتمبرأوروبي”. فقد اتخذت الدول الأوروبية بدعم وتحريض أمريكي، قراراً نهائياً بتقليص الاعتماد على الغاز الروسي. والإسراع في التنفيذ ولو على حساب أوضاعها الاقتصادية والمالية ورفاهية شعوبها. وكذلك على حساب سياسات تطوير الطاقة النظيفة والتزام المعايير المناخية التي كان لها “شرف” وضعها وفرض تطبيقها على الدول كافة.
الأولوية لأمن الطاقة وللنفط
مع هول نتائج تلك السياسات، تسابق الجميع للتراجع عنها. ولإعادة الاعتبار إلى الوقود الأحفوري. وزيارة الرئيس الأمريكي للسعودية “والاجتماع الودي” مع وليّ العهد، كانت البداية. وسبقها قيام مجموعة الدول السبع بمراجعة قراراتها المتعلقة بفرض قيود على التمويل العام لمشاريع الوقود الأحفوري. كما تقوم الإدارة الأمريكية بمراجعة شاملة للقيود التي فرضتها تشمل تخفيض الضرائب على الطاقة وإلغاء منع إصدار تراخيص التنقيب والاستخراج. وتحت وطأة التخوف من نقص الإمدادات والتمسك بتقليص الاعتماد على الغاز الروسي، عادت الدول الأوروبية لاعتماد أكثر المصادر تلويثاً وهو الفحم، وأكثرها خطورة وهي الطاقة النووية. وليتم تراجع الاهتمام بأمن المناخ إلى المرتبة الثانية بعد أمن الطاقة والنمو الاقتصادي والحفاظ على الاستقرار السياسي والاجتماعي في الدول الغربية.
يجدر التأكيد هنا أن الاندفاع لإعادة الاعتبار للوقود الأحفوري لا يعني تخلي أمريكا وأوروبا عن مساعيهما لتطوير الطاقة النظيفة، بل مجرد ترتيب للأولويات ووضعها في المرتبة الثانية للاهتمام. ويرجع ذلك في جانب أساسي إلى الصراع الأمريكي-الصيني، إذ تتفوق أمريكا على الصين في التحكم بموارد الطاقة الأحفورية بعكس الطاقة النظيفة. ويترسخ هذا التفوق إذا نجحت أمريكا في تحييد ومحاصرة نفط روسيا وإيران، واستيعاب فنزويلا واسترضاء السعودية وإحكام السيطرة على الدول النفطية الرئيسية في إفريقيا.
إعادة هيكلة نظام الطاقة
ونصل إلى الاستنتاجات المقلقة، فـ”إعادة هيكلة” نظام الطاقة العالمي، والجغرافيا السياسية بشكل عام، تحمل التوجهات التالية:
أولاً، ترسيخ التوجه نحو التكتلات الإقليمية في مجال الطاقة أولاً وفي مجالات السياسة والأمن ثانياً، على حساب العولمة التي باتت تخدم الصين أكثر مما تخدم أمريكا، مع السعي لربط هذه التكتلات بالفلك الأمريكي والأوروبي. فأوروبا مثلاً يُفترض أن تحقّق نوعاً من الاكتفاء بمصادر الطاقة اعتماداً على الطاقة النظيفة وعلى ما تنتجه من طاقة أحفورية بعد إعادة السماح بتطويرها، وكذلك على الاستيراد من أفريقيا ومن دول شرق المتوسط. وتجدر هنا مراقبة الضغوط التي ستمارسها أمريكا وأوروبا لحل النزاعات الحدودية بين لبنان وإسرائيل وبين تركيا واليونان وقبرص لضمان الاستثمار المكثف والسريع لموارد الغاز.
وينطبق ذلك على القارة الأمريكية حيث تجدر مراقبة الضغوط على فنزويلا لاستيعابها وإعادة بناء قطاعها النفطي الذي تَعرَّض لـ”دمار شامل”. أما دول الخليج وتحديداً السعودية فتبقى الحصان الرابح، لمحاصرة الصين إذا نجحت أمريكا بإقناعها، بعد استرضائها، بتوجيه صادراتها إلى الدول الآسيوية الصديقة والحليفة وإلى الدول الأوروبية. كما تجدر مراقبة توجيه دعوة رسمية لوليّ العهد السعودي لزيارة أمريكا ونتائج هذه الزيارة، ولتصبح الصين معتمدة على النفط والغاز الروسي والإيراني.
ثانياً، زيادة التدخُّل الحكومي في أسواق الطاقة بشكل مشابه لما “حصل في سبعينيات القرن الماضي. عندما تَسبَّب التدخل الحكومي المفرط في تفاقم أزمات متكررة”، كما تقول “فورين أفيرز”. معتبرة أن هذا التدخل “سيكون السمة البارزة لنظام الطاقة العالمي الجديد”. وسيكون له، كما حصل سابقاً، عواقب اقتصادية وسياسية وجيوسياسية خطيرة وعميقة. ولتأكيد هذا التوجه نشير إلى الطلب المباشر للرئيس الأمريكي من أمير قطر توجيه جزء من شحنات الغاز إلى أوروبا بدلاً من الدول الآسيوية. على أن يتمّ تعويض هذه الشحنات من قبل أستراليا. علماً أن وجهة الصادرات تتم عادة وفقاً لآليات السوق والعقود طويلة الأجل. وليس وفقاً لرغبات الدول والحكومات. كما نشير إلى سعي أمريكا لوضع سقوف لأسعار الغاز الروسي، في خطوة غير مسبوقة.
إنه زمن تحولات جذرية لإعادة بناء نظام دولي جديد للطاقة. وإذا كانت هذه حسابات حقل أمريكا وحلفائها. فهناك حسابات مختلفة لبيادر الصين وحلفائها. ولذلك حديث آخر.
مقال للكاتب، نشر في موقع “تي. آر. تي. عربي”