; الصين ـ أميركا : قبضة شيوعية داخلياً و «طريق حرير» خارجياَ (2 من 3) - طاقة الشرق TAQAMENA

الصين ـ أميركا : قبضة شيوعية داخلياً و «طريق حرير» خارجياَ (2 من 3)

تمت الإشارة في الجزء الأوّل من هذا التقرير، إلى أنّ حالة «المساكنة الهانئة»  او زواج المصلحة بين أميركا والدول الغربية من جهة، والصين من جهة أخرى قد انتهت. وحلّت محلّها «المساكنة بالإكراه». في ظلّ حرب باردة قد تتحوّل فاترة في بعض الحالات. أو حروب بالوكالة في بعض المناطق والدول.

ماذا تريد أميركا من الصين؟

تبدو واضحة صعوبة قبول أميركا باستمرار الوضع على حاله. وهي تسعى إلى محاصرة الصين وإعاقة نموّها لوضعها بالمحصّلة أمام خيارين هما:

الأوّل: دفعها إلى إعلان تبنّيها النظام الشيوعي والتقوقع ضمن «محور جديد للشرّ». يضمّ على سبيل المثال كوريا الشمالية وكوبا ومنغوليا وفنزويلا. وربما إيران إذا لم يتمّ تغيير النظام فيها أو «تحسِّن سلوكها». فتتراجع عن شعارات تصدير الثورة والشيطان الأكبر الخ… وقد يضمّ الحلف روسيا أيضاً إذا اختار الزعيم بوتين بعد انتصاره في مغامرته الأوكرانية «اللجوء إلى الحضن» الصيني وليس الأميركي.

ويمثّل هذا الخيار بالنسبة للصين استعادة بائسة لتجربة الاتحاد السوفييتي. وهي ترفضه تماماً لأنّه أقرب إلى الانتحار.

 الثاني: يقضي بدفع الصين إلى تبنّي النظام الرأسمالي بالكامل بما يتطلّبه ذلك من اعتماد وترسيخ نظم الحوكمة والشفافية في الاقتصاد وقطاعات الأعمال. وخلق أسواق ماليّة فعّالة ومنظّمة، وتحرير كامل لسعر صرف اليوان. إضافة إلى اعتماد الديمقراطية في الحياة السياسية. ولتدخل الصين بهذه الحال في منافسة عادلة مع أميركا وبقيّة الدول الغربية. فتتحمل الغنم والغرم بدلاً من الغنم فقط كما كانت الحال خلال العقود الأربعة الماضية. الأمر الذي يسمح بالاعتراف بحقّ الصين باحتلال مقعد دائم في «مجلس إدارة» النظام الدولي.

ويعني هذا الخيار بالنسبة للصين انتصاراً كاملاً لأميركا. لأنه سيؤدي إلى تربّعها على عرش النظام الرأسمالي المُعاد تجديد شبابه بقوّة الاقتصاد الصيني وضخامته. ولأنه يعني هزيمة كاملة للصين. مع ما يحمله ذلك من مخاطر نشوب صراعات داخلية بين أجنحة وقيادات الحزب الشيوعي. ولذلك فهي ترفضه تماماً لأنه أيضاً أقرب إلى الانتحار.

كيف تتطوّر الأمور؟

إخراج الرئيس جنتاو من قاعة المؤتمر وهو أبرز رموز الاصلاحيين

تقتضي سلامة التحليل مرّةً ثانيةً، التروّي في إطلاق الأحكام والاستنتاجات. و الاكتفاء برصد وربط الوقائع لاستقراء التطوّرات. ويبدو أنّ المعطيات والمؤشّرات المتلاحقة منذ بداية عهد شي جين بينغ تؤكّد أنّ الخيار الصيني هو تثبيت النموذج «الفريد»، أو الملتبس كما تراه أميركا، وخوض غمار الحرب دفاعاً عنه، وقد أُعدّت العدّة داخلياً وخارجياً لذلك.

داخلياً: قبضة شيوعيّة من حديد

ذكرنا في الجزء الأوّل من التقرير أنّ الرئيس شي جين بينغ بدأ منذ تولّيه منصب الأمين العامّ للحزب الشيوعي في 2012، ثمّ منصب رئيس الجمهورية، بتنفيذ ورشة شاملة لترسيخ قبضة الحزب الشيوعي على الدولة والمؤسّسات في السياسة والاقتصاد. وسعى إلى تطوير وتحديث النظرية الماركسية اللينينية على الطريقة الصينية. وإضافة بصمته عليها إلى جانب إضافات ماو تسي تونغ ودينغ شياو بينغ. وهو ما تحقّق في المؤتمر الـ 20 للحزب. حيث تم تعديل الدستور لينصّ على ذلك صراحة. إضافة إلى تعديل آخر يسمح للرئيس شي بالتجديد لولاية ثالثة، يُرجّح أن تكون مدى الحياة. كما يسمح له أيضاً بفرض سيطرة مطلقة على الحزب والدولة والجيش، وإقصاء المنافسين ورموز الحقبة السابقة من كبار المسؤولين في الحزب والدولة والقطاع الخاص. وفي مقدَّمهم الرئيس السابق هاو جنتاو الذي أُخرج من قاعة المؤتمر بطريقة مهينة و«متعمَّدة» أمام الكاميرات.

أميركا تضغط على الصين إما لاعتماد النظام الرأسمالي بالكامل بحيث يمكن منافستها، وإما النظام الشيوعي بالكامل بحيث يفترض محاربتها وعزلها

رمزية إخراج جنتاو من المؤتمر

نفتح مزدوجين للقول بقليل من التحفّظ إنّ حادثة إخراج الرئيس جنتاو من القاعة تمّ تصويرها وتسريبها عمداً. وإلّا كان تمّ منعه من المشاركة في الجلسة العلنيّة للمؤتمر من الأساس. فالرجل لم يبدُ مريضاً كما قيل. بل كان يهمّ بالاعتراض علناً على إبعاد أنصاره من اللجنة المركزية كما تردّد. لكنّه انصاع بعدما استجار بالرئيس بوضع يده على كتفه، الذي اكتفى بإيمائة من رأسه وكأنّه يقول: «أخرج، فتلك أوامري، وليشكّل خروجك رسالة رمزية للداخل والخارج بأنّ مرحلة الإصلاحيين، وأنت أبرز رموزها، قد انتهت».

إقرأ: الصين ـ أميركا: من زواج المصلحة إلى المساكنة بالإكراه (1 من 3)

وأتبع الرئيس شي جين رسالته هذه برسالة أكثر رمزية وأشدّ وضوحاً. إذ اصطحب بعد انتهاء المؤتمر اللجنة الدائمة للمكتب السياسي المنتخبة حديثاً، وهي أعلى هيئة سياسية في الصين، بزيارة إلى يانان. ورمزيّة يانان أنّها المنطقة التي أقام فيها ماو تسي تونغ وقادة الحزب الشيوعي خلال الحرب الأهلية الأولى وخلال الحرب مع اليابان. وهي المكان الذي شهد عقد المؤتمر السابع للحزب الذي توّج هيمنة ماو على الحزب الشيوعي بعد صراع مرير مع الخصوم.

رسالة مشفرة لأميركا والغرب

الصينيون هم «آلهة الرموز والرسائل الرمزية» منذ أيام كونفوشيوس، لمن يريد أن يقرأ. وكان مضمون الرسالة الموجهة لأميركا والغرب عموماً واضحاً، ومفاده:

  • إن الرئيس شي جين بينغ هو الحاكم المطلق للحزب الشيوعي، وبالتالي للصين. وإنّه ليس هناك زعامات منافسة وصراعات يمكن المراهنة عليها لهزّ الاستقرار.
  • يجب على أميركا والغرب تغيير قناعتهما بأنّ حديث القادة الصينيين عن الأيديولوجية يتعلّق بالسياسة الداخلية وبالحزب الشيوعي فقط. فقد بات يتعلّق بالسياسة الخارجية وبالعلاقات الدولية أيضاً. وقد أشار إلى ذلك بوضوح تامّ الخطاب الذي ألقاه الرئيس شي في ختام زيارة يانان قائلاً: «إنّها مناسبة للإعلان من موقع يانان الثوري عن العقيدة الراسخة للقيادة المركزية الجديدة المتمثّلة في توارث الجينات الحمراء وروح الكفاح من أجل تحقيق الأهداف والمهامّ المطروحة خلال المؤتمر الـ 20 للحزب».

الصين ترد بتعزيز قبضة الحزب الشيوعي والتمسك بالماركسية اللينينية المصيننة، وكذلك بتعزيز حضورها في الاقتصاد العالمي

«صينَنَة» الماركسيّة

بعيداً عن قراءة الرسائل المرمّزة مع أهمّيّتها، فإنّ الخبر اليقين قد يكون في قراءة تقرير العمل الذي يقدّمه الأمين العامّ للحزب الشيوعي في كلّ مؤتمر للحزب. ويحدّد فيه الأسس والتوجّهات الأيديولوجيّة والسياسية والاقتصادية والمؤسّساتية على مدار السنوات الخمس المقبلة. وكذلك، قراءة دستور الحزب الشيوعي المعدّل في المؤتمر الـ 20 والذي جاء فيه:

  1. ينص الدستور الجديد حرفياً على أن «الحزب الشيوعي الصيني يتمسك بالماركسية اللينينية وأفكار ماو تسي تونغ ونظرية دنغ شياو بينغ. وكذلك بفكر شي جين بينغ حول الاشتراكية ذات الخصائص الصينية في العصر الجديد». ويلاحظ أنها المرة الأولى التي يتم فيها استخدام تعبير «فكر شين جينغ بينغ» بعد رحيل ماو تسي تونغ. وكذلك تعبير «الماركسية الجديدة ذات الخصائص الصينية». الأمر الذي يؤكد التحول الجذري في نهج الصين الأيديولوجي والسياسي ليس بترسيخ النظام الشيوعي وحسب، بل بتطوير الماركسية على الطريقة الصينية. وربما اعتمادها لاحقاَ كنموذج يحتذى في دول أخرى. وهو ما عبر عنه بوضوح الرئيس شي جين في خطاب يانان بالقول «هذا الموقع الثوري شاهد عيان على مسيرة الحزب المجيدة في قيادة الثورة الصينية واستكشاف صيننة الماركسية وتكييفها مع العصر».

ويقول كيفن رود في مقال مهم نشرته مجلة «فورين أفيرز»: «مع انعقاد مؤتمر الحزب الشيوعي الـ 19 في العام 2017، باتت الأيديولوجية هي التي توجه السياسة وليس العكس. ومع انتهاء المؤتمر الـ 20، بات الرئيس شي جين بينغ الحاكم المطلق للصين. وهو رجل أيديولوجي ومؤمن حقيقي بالماركسية ـ اللينينية». ولا عجب في ذلك فوالد الرئيس كان أحد كبار مسؤولي الحزب الشيوعي ونائب رئيس مجلس الدولة.

موقع يانان حيث تم تكريس زعامة ماو تسي تونغ

مفهوم ماركسي للاقتصاد

  1. يركز التقرير على مفهومي «القومية الصينية» و«الأمن القومي»، كبديل عن مفهوم «فترة الفرصة الاستراتيجية» الذي ساد في تقارير الحقبة السابقة منذ عهد دينغ شياو بينغ. كما يركز على الدعوة لإعادة اعتماد المفهوم الماركسي في إدارة الاقتصاد بتولي الدولة لهذه المهمة. والسعي إلى إعادة تأهيل الشركات الحكومية. وقد تم بالفعل ضخ مئات المليارات الدولارات في صناديق استثمار مشتركة بين الحكومة والقطاع الخاص. والهدف هو العمل في القطاعات الرئيسية مثل التقنيات المتقدمة وخاصة ذات الاستخدام المزدوج العسكري والمدني. ويشار هنا إلى أن الرئيس شي جين يترأس شخصياً لجنة تطوير الاندماج العسكري – المدني في الحزب الشيوعي.

الخلاصة: الخيار الأميركي المطروح على الصين بتبني النظام الرأسمالي، سقط بالضربة القاضية في«حلبة يانان» وقبلها في قاعة المؤتمر الـ 20 للحزب. و لتعلن الصين صراحة تمسكها بالماركسية اللينينية المصيننة. مع تمسكها بالوقت ذاته بالنموذج الفريد والملتبس القائم على الجمع بين النظامين الاشتراكي والرأسمالي.

نشر في أساس بتاريخ 2022-12-05

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى