الصراع على الموارد الطبيعية يشعل جليد القطب الشمالي

على حافة منطقة مجهولة، يمر القطب الشمالي بتحولات كبيرة ناجمة عن تزامن تطورين مهمين. الأول الذوبان المتسارع للجليد، ما سمح بفتح ممرات النقل والتجارة واستغلال الموارد الطبيعية الضخمة. والثاني تصاعد التنافس الاقتصادي والصراع الجيوسياسي على موارد القطب الشمالي خاصة بين الصين وأميركا وحلفائهما.

تشكل منطقة القطب الشمالي نظاماً بيئياً جيوسياسياً واقتصادياً جديداً للدول المعنية مباشرة. مثل روسيا وكندا وأيسلندا والنرويج والولايات المتحدة (عبر ألاسكا) والدنمارك (عبر غرينلاند). وباتت هذه الدول في قلب التحولات الجيوسياسية والاقتصادية الحاصلة.

إقرأ أيضاً: «أركتيك 2» الروسي يسيل غاز القطب الشمالي والعقوبات الأميركية «تجمده»

يوفر انخفاض الغطاء الجليدي فرصاً اقتصادية واعدة. تشمل ممرات شحن جديدة مثل الممر الشمالي الغربي (كندا). وطريق بحر الشمال (روسيا). كما يوفر الفرصة لاستغلال احتياطيات مهمة من الموارد الطبيعية بما في ذلك الهيدروكربونات والمعادن. ويبدو أن هذه التطورات مقدر لها أن تعيد تشكيل ديناميكيات التجارة العالمية. وأن تحقق فوائد اقتصادية كبيرة لبلدان المنطقة. فالوصول إلى موارد طبيعية ضخمة سيعزز أمن الطاقة والتنمية الاقتصادية.

الصراع على موارد القطب الشمالي

من جهة أخرى، فإن الاحترار العالمي وذوبان الجليد يشكلان قضية معقدة تحمل في طياتها انعكاسات بيئية، اقتصادية، اجتماعية وسياسية قد تولد توترات جيوسياسية بين القوى الكبرى في العالم.

عززت روسيا خاصة منذ بداية الصراع في أوكرانيا وفرض العقوبات عليها من قبل الولايات المتحدة والدول الأوروبية، أسطولها من كاسحات الجليد النووية. وذلك بهدف فتح طرق بحرية جديدة في القطب الشمالي لنقل أسرع للموارد، وخاصة الهيدروكربونات. كما سارعت لأخذ زمام المبادرة في استغلال الهيدروكربونات والموارد الطبيعية الأخرى، وبالتالي زيادة نفوذها الجيوسياسي في المنطقة.

روسيا تباشر استغلال الموارد وتبني اسطولاً من كاسحات الجليد. والصين تبني سفارة ضخمة في أيسلندا تضم 300 موظفاً

والواقع أن روسيا واحدة من الدول القليلة التي استفادت من الاحتباس الحراري العالمي. حيث باتت مساحات شاسعة من أراضيها ومياهها قابلة للحياة ولاستغلال الموارد الطبيعية. وربما يكون ذلك سبباً لدفع روسيا لفتح باب الهجرة من المناطق الأكثر دفئا في الداخل الروسي ومن خارج الجغرافيا الروسية. وذلك من أجل توفير القوى العاملة لاستغلال الموارد الجديدة. وهذا يفسر جزئيا جهود روسيا للحفاظ على علاقات جيدة مع بلدان أفريقيا والجنوب العميق ذات الكثافة السكانية.

رهان روسي على موارد القطب

إن استغلال الموارد الهيدروكربونية في الأراضي الجديدة المنكشفة إضافة إلى الموارد الموجودة في منطقتها الاقتصادية الخالصة في القطب الشمالي، سيضمن لروسيا أمن طاقة لا ينضب تقريبا. وعلاوة على ذلك، وبفضل أراضيها الشاسعة البكر وغير الملوثة، سوف تصبح روسيا واحدة من المنتجين القلائل للغذاء في العالم. الأمر الذي يعزز نفوذها الجيوسياسي كمورد رئيسي للغذاء على الساحة الدولية. في هذا السياق، سيخضع الاقتصاد الجغرافي لروسيا لتغييرات كبيرة ومن المرجح أن تكون الإدارة الفعالة لهذه الموارد واستغلالها هي مفتاح نجاح روسيا أو فشلها كدولة مؤثرة في الجغرافيا السياسية العالمية.

أقرأ أيضاً: حرب معادن الأعماق: هل يكون صدع كليبرتون، إقليم دونباس نرويجي (2 من 2)

إن القلق من احتمال وجود روسيا قوية جيوسياسياً واقتصادياً يدفع النرويج والدنمارك (عبر غرينلاند) إلى مواصلة جهودهما لاستغلال موارد القطب الشمالي داخل أراضيهما ومناطقهما الاقتصادية الخالصة. وذلك في محاولة لتوفير بدائل عن إمدادات الغاز والنفط والغذاء الروسية. تمتلك الدنمارك مثلا، عبر غرينلاند ، كميات كبيرة من الموارد، والتي لم تتمكن من استغلالها سابقاً بسبب الغطاء الجليدي الكثيف.

تأهب أميركي وتهيب كندي

على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، تشارك الولايات المتحدة وكندا في الصراع على موارد القطب الشمالي. بالنسبة للولايات المتحدة، أكبر منتج للغاز والنفط في العالم في عام 2024، يبدو من الأهمية بمكان تأمين الوصول إلى احتياطيات الهيدروكربون في القطب الشمالي. من أجل الحفاظ على مكانتها كقائد عالمي وقوة عظمى. والتي تواجه حالياً تحدياً من قبل دول أخرى. وبالتالي، فإن احتمال السيطرة على هذه الموارد له أهمية قصوى للاقتصاد الأميركي. خاصة في مواجهة الأزمات الداخلية المتكررة الاجتماعية والديموغرافية والاقتصادية.

كندا، من ناحية أخرى، في وضع مماثل لروسيا، مع وجود أراض ومياه مجمدة شاسعة يمكن استغلالها. فذوبان الجليد، سيسهّل فتح طريق البحر الشمالي الغربي لعبور السفن التجارية والناقلات. ما يوفر فرصا اقتصادية جديدة. ومثل روسيا، يمكن لكندا أن ترحب بعدد أكبر من السكان الفارين من ظاهرة الاحتباس الحراري. وبالتالي الاستفادة من زيادة القوى العاملة لاستغلال الموارد وتطوير الأراضي الزراعية. وستحتاج كندا إلى إدارة تنمية مواردها بحكمة من أجل تعزيز التنمية الاقتصادية الإيجابية. إن قربها الجغرافي من الولايات المتحدة، فضلا عن اصطفافها السياسي، هو ميزة ومصدر قلق على حد سواء. في الواقع، يمكن أن يعزز الدعم الأمريكي موقفها في الصراع حول موارد القطب الشمالي ضد القوى الأوروبية وروسيا، ولكن في حالة حدوث خلاف مع أمريكا، قد تجد كندا نفسها معزولة على المسرح الدولي.

اشتعال الصراع الدولي

تجتذب الحالة في القطب الشمالي اهتماماً متزايداً من القوى الدولية. على سبيل المثال، أنشأت الصين واحدة من أكبر سفاراتها في أيسلندا، مع أكثر من 300 موظف. في حين يراقب الاتحاد الأوروبي الوضع عن كثب. ورغم أن الدنمارك والنرويج ليستا عضوين في الاتحاد الأوروبي، فإنهما قد تستفيدان من الدعم الكامل من الاتحاد، إذا أصبح الموقف أكثر تعقيدا، ما لم تسود المصالح الخارجية.

مطالبة بعض الدول بزيادة مساحة المناطق الاقتصادية، قد يشكل فتيل تفجير الصراعات

إن الدائرة القطبية الشمالية هي موطن لمنطقة دولية في الوسط. حيث لا تتداخل المناطق الاقتصادية الخالصة للبلدان. ولكن البلدان المطلة على القطب الشمالي تطالب بزيادة مناطقها الاقتصادية الخالصة إلى 300 ميل بحري من أجل ضمان الوصول إلى جميع الموارد في المنطقة. ومن المرجح أن يُرفض هذا الطلب من قبل الأمم المتحدة بسبب التبعات القانونية الدولية لهكذا قرار الذي قد يؤدي إلى نزاعات محتملة بين الدول. في الآونة الأخيرة، بدأت روسيا والولايات المتحدة بإنشاء قواعد عسكرية في القطب الشمالي. وتقومان بالتدريبات العسكرية ومحاكاة الصراعات في المنطقة. وهذا يعبّر عن إرادتهم السياسية للسيطرة على هذه الموارد بأي وسيلة.  وعلى هذا الصعيد، فإن أوروبا متخلفة عن الركب.

وهكذا يتحول القطب الشمالي إلى مسرح لصراع جيوسياسي. ويثير السباق على الموارد والهيمنة السياسية والاقتصادية تحديات معقدة تتطلب زيادة التعاون الدولي لضمان الإدارة المستدامة والسلمية لهذه المنطقة، وهو أمر حاسم لمستقبل كوكبنا. وبغير ذلك، فمن المرجح جدا أن نشهد مواجهات وصراعات شديدة التعقيد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى