الاندماج النووي: مفاعل صيني خارق وفوز مستحق على أميركا

حققت الصين اختراقاً مهماً في صناعة الاندماج النووي، وفوزاً مستحقاً في السباق مع الولايات المتحدة. إذ تمكنت شركة ناشئة تدعى إنيرجي سينجولاريتي  Energy Singularity تأسست عام 2021 من بناء مفاعل صيني خارق من نوع توكوماك (يعمل بالحبس المغناطيسي). وذلك باستخدام مواد للمغناطيس تعرف بـ HTS  أي فائق التوصيل بدرجة حرارة عالية high temperature superconductors.

إقرأ أيضاً: طاقة الاندماج النووي: سباق أميركي صيني على «صناعة الشمس» (1 من 5)

يتميز المفاعل أو الجهاز الذي أطلق عليه إسم HH70، بحجمه الصغير الذي يعادل حوالي 2 في المئة فقط من الأجهزة التقليدية التي تعمل بتقنية المغناطيس فائق التوصيل بدرجة حرارة منخفضة LTS. وتسهم هذه التقنية المبتكرة بتقصير فترة البناء والتشغيل إلى 3 ـ 4 سنوات بدلاً من 20 ـ 25 سنة، وبالتالي تخفيض ضخم للتكلفة.  وذلك ما حققته شركة إنيرجي سينجولاريتي Energy Singularity  فعلاً. إذ أتمت عملية البناء خلال عامين فقط. حيث باشرت أعمال التصميم والبناء في مارس 2022، وتم تثبيت المفاعل في المكان المخصص له في فبراير 2024. ويشار هنا إلى أن شركة «كومونولث فيوجين سيستمز» CFS الأميركية تبني جهازاً مماثلاً يعرف بإسم سبارك، ولكنه لا يزال قيد الإنشاء.

.. ومفاعل أكثر أهمية في 2027

انتهز رئيس شركة «إنيرجي سينجولاريتي» يانغ تشاو مناسبة الإعلان عن هذا الاختراق المهم، بالكشف عن اختراق أكثر أهمية. يتمثل بخطة لبناء الجيل الثاني من الجهاز الجديد، والذي أطلق عليه إسم HH170 وسيتم إنجازه بحلول العام 2027. ويتميز الجهاز الجديد بأن «معامل كفاءة الطاقة» فيه، والمعروف بـ (Q)  سيكون (Q ≥ 10). ويعني هذا المعيار نسبة الطاقة التي يولدها الجهاز قياساً بالطاقة المستخدمة لإحداث عملية الاندماج. إذ تعتبر العملية ناجحة في حال كان معامل Q  أكبر من (1). ومعروف أن أفضل رقم تسجيله لحد الآن كان 1.53 فقط.

إقرأ أيضاً: شركة عبد اللطيف جميل السعودية تدخل نادي الاندماج النووي

وللدلالة على حجم الإنجاز الصيني، نشير إلى أن المفاعل الدولي إيتر ITER الذي تساهم فيه 35 دولة بما فيها أميركا والصين، بوشر ببنائه في العام 2006. وتم تأجيل الإنجاز عدة مرات، كان آخرها في مطلع العام 2023. حين أعلن بياترو باراباشي الرئيس التنفيذي للمشروع عن تأجيل الموعد المقرر في مطلع العام 2025 «لعدة أشهر وربما لعدة سنوات».

والمهم في عملية المقارنة، أن المفاعل الدولي «إيتر» الذي يبلغ وزنه 23 ألف طن، يستهدف تحقيق ذات معامل الكفاءة المستهدف في المفاعل الصيني أي (Q ≥ 10). حيث سيتم ضخ 50 ميغاواط من الطاقة لتسخين البلازما، لإنتاج طاقة تبلغ حوالي 500 ميغاواط.

الصين تأخذ التقنيات الأميركية وتطورها

أما بالنسبة لمقارنة التكاليف، فقد قدرت تكلفة إنشاء مفاعل «إيتر» حين إطلاقه بحوالي 5.9 مليار دولار. ولكنها تضاعفت عدة مرات بمرور الوقت لتبلغ حالياً حوالي 22 مليار دولار. أما تكلفة المفاعل الصيني الخارق، فمع أنها لم تعلن، لكن بعض المصادر قدرتها بحوالي 1.5 مليار دولار. وأعلنت شركة «إنيرجي سينجولاريتي» أنها حصلت على 112 مليون دولار كاستثمارات خاصة. وهي تسعى للحصول على 500 مليون دولار أخرى لمشروع الجيل الثاني من المفاعل. ومهما يكن، فإن الفارق بالتكلفة ضخم جداً.

إقرأ أيضاً: تأجيل تشغيل المفاعل الدولي للاندماج النووي «ITER»

لكن تقتضي الموضوعية الإشارة، إلى الغموض وعدم الشفافية في تمويل صناعة الاندماج في الصين. حيث تختلط الاستثمارات الحكومية بالاستثمارات الخاصة. كما تختلط نتائج جهود البحث وتصنيع المكونات بين الشركات الخاصة والجهات الحكومية. وينطبق ذلك بالطبع على شركة ENN التي تعتبر من أضخم الشركات في العالم في مجال الاندماج النووي.

وقد ألمح إلى هذه الحقيقة يي يومينغ، المؤسس المشارك في شركة «إنيرجي سينجولاريتي» بقوله «ان الشركة وقعت عدة عقود للتعاون مع مؤسسات وجامعات صينية. بما في ذلك معهد الجنوب الغربي للفيزياء، وجامعة شنغهاي جياوتونغ، وجامعة لانزو. كما تتعاون مع مجموعات مدعومة من الدولة بشأن الاستثمارات». والأهم من ذلك أن الشركة استفادت من سلاسل إنتاج مواد ومكونات الاندماج بما في ذلك مادة HTS. إذ تم توفير نحو 95 في المئة من المواد المستخدمة في جهاز HH70  من السوق المحلية. وجزء كبير من هذه المواد والمكونات طورتها مؤسسات حكومية، وهي تستخدم للأغراض العسكرية والمدنية في آن.

كما تقتضي الموضوعية، الإشارة إلى أن الشركات الصينية ورغم التطور الهائل الذي حققته في مجال براءات الاختراع، لا تزال تعتمد سياسة نسخ وتطوير الاختراعات المحققة في الغرب. وقد ذكر ذلك صراحة يي يومينغ، بقوله: إن النموذج المعتمد لدينا مستوحى من التصميم الذي طوره معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وشركة كومنولث فيوجن سيستمز التابعة له. وأضاف في حديث لصحيفة فاينانشال تايمز: «المشكلة هندسية وليست علمية. وابتكار مغناطيس  HTS، يساعد على تصغير حجم الجهاز بشكل كبير، وبالتالي في تقليل التكلفة بشكل أكبر».

وأكد ذلك عضو مجلس الشيوخ الأميركي جون باراسو خلال جلسة استماع بشأن صناعة الاندماج النووي في الكونغرس، قائلاً: «الصينيون لديهم القدرة على تقليد ما نقوم به ثم تطويره بطرق تمكنهم من التقدم علينا».

تنافس أميركي صيني على صناعة الاندماج

مهما كانت الملابسات، فإن الاختراق الصيني، سيشعل المنافسة مع الولايات المتحدة وبقية الدول الغربية وخاصة اليابان وبريطانيا وبعض الدول الأوروبية. باعتبار أن الفوز في سباق الاندماج النووي سيكون له تداعيات كبيرة على الجغرافية السياسية للطاقة. وبالتالي على النفوذ والسيطرة الدولية.

وذلك ما ذكره علانية جاكي سيبينز من شركة «هيليون إنرجي» خلال جلسة الاستماع بقوله: «سباق صناعة الاندماج النووي باتت قضية أمن قومي. وعلينا الفوز بهذا السباق مع حلفائنا. وإذا لم نفعل، فالصين جاهزة للفوز بكل النفوذ الجيوسياسي المصاحب لذلك».

لكن بالمقابل هناك تيار آخر في الولايات المتحدة يدفع باتجاه التعاون والتكامل مع الصين وبقية دول العالم لتحقيق حلم الاندماج النووي. وقد عبر عن ذلك السيناتور أنجوس كينج بقوله: «عندما تصبح هذه التكنولوجيا تجارية ومتاحة على نطاق واسع، فإنها ستغير العالم. وأضاف «لماذا نعتمد المنافسة بدل التعاون فهذه ليست تكنولوجيا عسكرية ونجاحها سيؤثر بشكل إيجابي على كل دول العالم».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى