إنتاج النفط الأميركي: بين فائض الوعود وفائض الأسواق
هل ينجح الرئيس دونالد ترامب بتحقيق وعوده المتعلقة بزيادة إنتاج النفط الأميركي، وتنفيذ الشعار الشهير «أحفر.. بني.. أحفر»؟ أم يصطدم الشعار بالحقائق، وتتواضع الوعود أمام الوقائع؟
لا شك أن دعم الوقود الأحفوري ومناهضة سياسات المناخ التي وصفها ترامب بـ «الخدعة الخضراء»، هي سياسة ثابتة لديه، وليس مجرد وعود. ولا شك أيضاً أنه سيبادر فور دخوله البيت الأبيض إلى اتخاذ سلسلة من القرارات. من بينها تحرير المخزونات الضخمة غير المكتشفة وغير المستغلة في الأراضي الفيدرالية وخاصة في ألاسكا. كما سيبادر إلى إلغاء العديد من القرارات والسياسات التي اعتمدتها إدارة بايدن لدعم الطاقة المتجددة وتقييد أنشطة النفط والغاز…
زيادة الإنتاج تتطلب عدة سنوات
… ولكن لما كانت زيادة إنتاج النفط الأميركي وتخفيض أسعار البنزين، تقررها آليات السوق، وليس الوعود. فهناك شكوك كبيرة في قدرة الرئيس ترامب على تنفيذ وعوده. وتشير تقديرات متطابقة لمحللين ومتداولين جمعتها وكالة بلومبرغ، إلى أنه مهما فعلت الإدارة الجديدة فلن تتمكن من زيادة إنتاج النفط بأكثر من 250 ألف برميل يومياً في العام 2025. ولتكون بذلك أدنى زيادة سنوية منذ العام 2020، أي خلال جائحة كورونا. ويرجع ذلك بالأساس إلى أن إنتاج النفط والغاز بلغ تقريباً، الحد الأقصى للقدرة الإنتاجية، ليصل إلى حوالي 13.2 مليون برميل يومياً. أي أكثر بنحو 50 في المئة من إنتاج السعودية.
زيادة الإنتاج بظل الفائض الكبير، يهدد بإفلاس شركات النفط الصخري، كما يهدد بنشوب حرب أسعار، إذا قررت دول «أوبك بلس» التوقف عن لعب دور «أم الصبي»
وحتى لو تم تنفيذ القرارات المتعلقة بفتح الباب واسعاً للتنقيب في الأراضي والمياه الفيدرالية، فلن يغير ذلك الوضع في المدى المنظور. لأن تحديد الأراضي القابلة للاستكشاف والتنقيب، وترسية المزادات. ومن ثم إنجاز عمليات التنقيب والإنتاج، يتطلب عدة سنوات.
الفائض النفطي
يضاف إلى ذلك العامل الأهم، والمتعلق بوجود فائض من النفط في الأسواق. وذلك بسبب ضعف النمو الاقتصادي في الصين والدول الغربية عموماً. وتشير غالبية التوقعات إلى أن الفائض سيبلغ خلال العام المقبل حوالي مليون برميل يومياً. بينما تتوقع مجموعة “ماكواري غروب” (Macquarie Group) أن يتجاوز 2.4 مليون برميل في الربع الأول من 2025. وكانت المجموعة قد تنبأت بدقة بمستويات النمو المذهل في الإنتاج الأميركي خلال العام الماضي.
تنفيذ التنقيب في الأراضي والمياه الفيدرالية يتطلب عدة سنوات، والشركات الكبرى ستتريث كثيراً في ضخ الاستثمارات
وذلك يعني أن أي زيادة غير محسوبة في الإنتاج ستؤدي إلى تراجع الأسعار. ومع أن ذلك يحقق وعد «المرشح ترامب» للناخبين بتخفيض أسعار البنزين. إذ قال صراحة خلال حملته أن «أسعار البنزين ستنخفض حتى لو أدى ذلك إلى إفلاس المنتجين». ولكن «الرئيس ترامب» سيجد نفسه مضطراً للتراجع عن وعوده للناخبين. وذلك أمام ضغوط إفلاس حلفائه الدائمين في شركات النفط . علماً ان المبالغة في زيادة الإنتاج الأميركي وانخفاض الأسعار، قد يهدد بنشوب حرب أسعار. إذا قررت دول تحالف «أوبك بلس» التوقف عن لعب دور «أم الصبي» ووقف العمل بالتخفيضات الطوعية والإلزامية.
تردد الشركات في الاستثمار
يضاف إلى ذلك أن أن شركات النفط الصخري الأميركية، يرجح ان لا تستجيب لرغبات الإدارة الأميركية، وتغامر بضخ استثمارات ضخمة لزيادة إنتاج النفط الأميركي. وتجدر الإشارة هنا إلى أن شركات النفط الصغيرة والمتوسطة، التي قادت طفرة النفط الصخري خلال العقد الماضي، والتي يراهن عليها ترامب، فقدت قدرتها على التأثير القوي في السوق. ويرجع ذلك إلى موجة الاستحواذ والاندماج العارمة التي حدثت خلال العامين الماضيين. حيث قاربت قيمة العمليات حوالي 290 مليار دولار. ومعروف أن الشركات النفطية الكبرى تميل في هذه المرحلة إلى خيار توزيع الأرباح على المساهمين، وليس إلى خيار زيادة الإنفاق الرأسمالي. كما يرجح المراقبون أن تعتمد الشركات الصغيرة والمتوسطة الباقية في السوق، هذا الخيار أيضاً في حال تراجع سعر برميل النفط إلى 60 دولار.
حرب عسكرية مع إيران وتجاربة مع الصين
حتى لو طرأت أحداث دراماتيكية مثل حرب شاملة مع إيران. وتصاعد غير متوقع في الحرب الأوكرانية، فإن ذلك لن يغير كثيراً في المسار العام للعرض والطلب وبالتالي الأسعار. لأنه من غير المرجح حدوث تهديد جدي لأمن الإمدادات، لا من دول الخليج العربي ولا من روسيا.
أما بالنسبة للحرب التجارية مع الصين، فيبدو واضحاً صعوبة تنفيذ الوعود التي أطلقها ترامب خلال حملته. لأن فرض رسوم جمركية تصل إلى 60 في المئة على بعض السلع والمنتجات الصينية. يعني المخاطرة بفقدان أحد أهم زبائن الغاز الأميركي المسال. إذ شهدت واردات الصين ارتفاعاً بنسبة 63 في المئة خلال الأشهر العشرة الأولى من 2024. ما جعل أميركا تحتل المرتبة الخامسة في قائمة الدول المصدرة للغاز إلى الصين بعد أستراليا وقطر وروسيا وماليزيا.
قد تبادر الصين في حال شن حرب تجارية عليها إلى وقف استيراد الغاز الأميركي ما يشكل ضربة موجعة لجهود زيادة الإنتاج
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الحرب التجارية الأميركية «المرتقبة» ضد الصين تختلف جذرياً عن الحرب التي شنها ترامب خلال ولايته الأولى. فقد كانت الصين حينذاك، متهيبة من خوض غمارها لأنها كانت في موقف ضعيف. ولكنها باتت اليوم أكثر تكيفاً وأكثر استعداداً للرد. وقد يكون الغاز المسال الأميركي هو ميدان المواجهة الأول. لأن فرض رسوم مرتفعة سيدفع الصين إلى وقف استيراد الغاز، ما يشكل ضربة موجعة لصناعة النفط الأميركية. في حين أن الصين بإمكانها تعويض الغاز الأميركي بالغاز الروسي والأسترالي والقطري.
وبالمقابل فإن الصين بإمكانها أن تستخدم واردات الغاز كورقة ضغط إيجابية في المفاوضات التجارية. وذلك من خلال التعهد بشراء كميات كبيرة من الغاز الأميركي. ونقلت وكالة بلومبرغ عن مصادر مطلعة أن المشترين الصينيين تعاقدوا فعلاً على شراء 14 مليون طن من الغاز الأميركي المسال اعتباراً من العام 2026. ما يعني مبادرة حسن نية تسهم بتخفيف أعباء اختلال الميزان التجاري مع أميركا. كما تساعد بالوقت ذاته الرئيس ترامب ولو جزئياً للمضي بسياسة دعم صناعة النفط والغاز وتنفيذ شعار «أحفر.. بني.. أحفر».