«حرب الأنتيمون»: استهداف صيني للجيش الأميركي، أم معركة تجارية و«بيزنس»

فجأة اشتعلت حرب الأنتيمون بين الصين وأميركا. ولكن ميدانها الرئيسي هو أسواق المال والبورصات. إضافة إلى وسائل الإعلام الأميركية والعالمية. التي اعتبرت أن قرار الصين بفرض قيود على تصدير هذا «المعدن السحري»، سيؤدي إلى وقف إنتاج السلاح والذخيرة في أميركا وبقية دول الناتو. ولتبقى دقة هذا الكلام موضع شك كبير. ولتبقى أهدافه بحاجة إلى تدقيق أكبر.

لا شك ان المعدن أو الأصح شبه المعدن المسمى بالعربية «الإثمد» هو عنصر حيوي يدخل في صناعة العديد من الذخائر والمعدات العسكرية. وصحيح أيضاً أن الصين تستأثر بحوالي  50% من إنتاجه. ولكن الأصح أن الاستخدام العسكري يشكل نسبة ضئيلة مقارنة بالاستخدامات المدنية. والأصح أيضاً أن الصين لم توقف التصدير، بل فرضت على الشركات المصدرة الحصول على ترخيص مسبق، يستغرق صدوه بين شهرين إلى ثلاثة أشهر. وجاء ذلك بعد قرار مشابه في العام الماضي ، مر مرورا الكرام، ويتعلق بحظر تصدير معدني الغاليوم والجرمانيوم  المستخدمين في الصناعات العسكرية أيضاً. والأصح أخيراً أن الأنتيمون موجود بكميات كبيرة في ولايات الأسكا وأيداهو، ونيفادا، كما يوجد في بوليفيا، كندا، المكسيك، روسيا، جنوب إفريقيا، طاجيكستان وتركيا. والولايات المتحدة تستورد الجزء الأكبر من احتياجاتها من تلك الدول.

لماذا إذن هذه الحملة الشعواء؟

الجواب نجده في الصورة الأكبر، والتي تضم في جانب منها، الحرب التجارية التي أعلنها الرئيس ترامب في ولايته الأولى على الصين. واستكملها الرئيس بايدن، وينوي تسعيرها ترامب في ولايته الثانية. وتضم في جانب آخر الجهود الأميركية والغربية عموماً للتخلص من الارتهان للصين في توفير المعادن النادرة أو الحرجة.

والأنتيمون هو واحد من 17 عنصراً تصنف كمعادن نادرة أو حرجة. وهي تعتبر عناصر لا غنى عنها في مختلف الصناعات الحديثة المدنية والعسكرية. بدءاً من ألعاب الأطفال وصولاً إلى الطاقة المتجددة والصناعات العسكرية والفضائية.

وما ينطبق على الأنتيمون ينطبق على غيره من تلك العناصر من حيث ضرورته لإنتاج المعدات العسكرية والذخائر. وقد أرتفع الطلب عليه خلال السنوات القليلة الماضية. ربما بسبب الاستخدام الكثيف للذخائر والأسلحة في الحرب الأوكرانية والحرب على فلسطين ولبنان. وربما بسبب  توجه الدول الصناعية الكبرى إلى شراء كميات كبيرة بهدف التخزين. «فالجميع يحتاجه لإنتاج الأسلحة، لذلك يفضل الجميع الاحتفاظ به بدلاً من بيعه»، كما قال كريستوفر إكليستون من شركة هالغارتن آند كومباني.

من أبرز مميزات الأنتيمون، أنه يضفي القوة والصلابة على السبائك. لكن استخداماته الرئيسية تتركز في مثبطات الحرائق ومعدات السلامة ومختلف السلع والمنتجات وصولاً حتى مراتب الأسرة. ولذلك من المستغرب التركيز الإعلامي على الجانب العسكري لاستخدامات الأنتيمون، والتهويل مثلاً بأن المخزون لدى الجيش الأميركي لا يكفي لأكثر من 20 يوماً، وينخفض في ألمانيا إلى يومين فقط. علماً ان هذا الجانب هو الأقل أهمية مقارنة بالجوانب المدنية، كما يوضح الرسم المرفق.

توزيع استخدامات الأنتيمون

المعادن النادرة: استئثار وانقلابات عسكرية

بالنسبة لارتهان الولايات المتحدة للصين في توفير احتياجاتها من المعادن النادرة عموماً. فهي أيضاً مسألة تحتاج إلى تدقيق. ففي حين كانت أميركا تغفو على «هدهدة» تفوقها وتفردها بقيادة العالم، كانت الصين تستثمر بكثافة لتجميع عناصر القوة والتفوق في كافة المجالات. ومن ضمنها بالطبع المعادن النادرة. حيث باتت تسيطر على اكثر من ثلثي إنتاج وتكرير وتجارة هذه المعادن.

ومع اشتداد التنافس والصراع الصيني الأميركي، وضعت الولايات المتحدة موضع التنفيذ خططاً شاملة بالتعاون مع مجموعة دول السبع، لإنهاء أو على الأقل تقليص الارتهان للصين في توفير احتياجاتها من المعادن النادرة. واستهدفت هذه الخطط تنفيذ مشاريع مكثفة لتطوير إنتاج  وتكرير العديد من المعادن النادرة أو الحرجة في أميركا ودول السبع . إضافة إلى وضع اليد على تلك الموارد المعدنية في الدول النامية.

الشركات تمتلك الموارد

تجدر الإشارة هنا إلى مسألة بالغة الأهمية، تتمثل في الصورة الضبابية بل المضللة التي يعطيها التوزيع الجغرافي للمعادن النادرة وتركزها في دول معدودة . وبالتالي لتوزيع السيطرة بين الصين وأميركا. فمعروف ان غالبية المناجم التي تقع في الدول النامية، هي إما مملوكة لشركات أجنبية، وإما يتم استغلالها بموجب عقود لتقاسم الإنتاج مع الحكومات الوطنية. وطبعاً الشركات الأميركية والغربية عموماً هي طرف أساسي في ملكية هذه المناجم والموارد إلى جانب الشركات الصينية. وذلك ما يفسر الصراع والانقلابات العسكرية والأضطرابات الأهلية في الدول المنتجة «برعاية» إحدى القوى العظمى وتحديداً الصين أو أميركا. والتي تستهدف في جانب منها إيجاد أنظمة موالية تتولى توقيع عقود استغلال الموارد مع شركاتها وإزاحة شركات الدولة الأخرى.

ويكفي لإثبات هذه الحقيقة قراءة سريعة للتطورات السياسية والعسكرية ولتوقيع عقود استغلال الموارد الطبيعية في كل من النيجر، كاليدونيا الجديدة، تشيلي، السويد، السودان الخ… ولتبقى تجربة ميانمار هي الدليل الأكثر سطوعاً. فقد اكتشفت الصين في ميانمار احتياطيات ضخمة من المعادن النادرة تقدر بنحو نصف إنتاج الصين من بعض المعادن في العام 2019. وبعد مرور عدة أشهر أطلقت أميركا وبريطانيا وغيرها من الدول الغربية، تحالف عسكري سياسي، مناهض للمجلس العسكري الحاكم الموالي للصين. والملفت أن الهدف كان الدفاع عن مسلمي الروهينغا وغيرهم من الأقليات. وكانت نتيجة الاضطرابات والأعمال العسكرية، تعطيل أو عرقلة مشاريع التعدين الصينية. ولترد الصين بتشكيل جيش رديف للجيش الوطني لحماية مصالحها.

حصة الصين من بعض المعادن النادرة أو الحرجة

الأنتيمون: تهويل و «بيزنس»

في حين حققت أميركا وبقية الدول الصناعية الغربية، إنجازات مقبولة في توفير احتياجاتها من غالبية المعادن النادرة، إلا ان الأنتيمون ظل نقطة ضعف رئيسية. وربما يرجع ذلك إلى ندرته، وإلى صعوبة استخراجه وتكريره كمنتج ثانوي لإنتاج النحاس والذهب والفضة. ولذلك فإنه لم يكن على قائمة أولويات الشركات والمستثمرين. خاصة وأنه على عكس بقية المعادن لا توجد صناديق استثمار خاصة به أو عقود آجلة لتداوله. ما يجعل الحل الوحيد لتطوير إنتاجه هو الاستثمار المباشر، وتحمل مخاطر عالية.

وهنا تبدأ «الحبكة»… المتمثلة بتحفيز المستثمرين على ضخ استثمارات ضخمة. ويتأتي ذلك على خطين متلازمين، الأول إثارة الاهتمام والثاني خلق الظروف الملائمة لتحقيق الأرباح. وقد تحقق ذلك بنجاح كبير حتى الآن. ولعبت الحملة الإعلامية الممنهجة والمستمرة دوراً بارزاً في هذا السياق. إذ اعتبرت مجلة فوربس مثلاً أن «العائد على الاستثمار في مشاريع الأنتيمون لا يقل عن 100 في المئة». وبالفعل فقد تضاعفت أسعار «المعدن السحري» بمعدل 3 مرات. لتقفز من 12 ألف دولار للطن إلى 38 ألف دولار. أما اسعار أسهم شركات الأنتيمون، فارتفعت بنسبة تجازت 600 في المئة.

ارتفاع صاروخي للأسهم

ومن الأمثلة على ذلك شركة ميلاتري ميتالز Military Metals Corp الأميركية التي اشترت منجمين في سلوفاكيا يعود الأول إلى الحقبة السوفياتية ويحتوي حوالي 60 ألف طن مع بنية تحتية ممتازة. وأعلنت أنها ستبدأ الانتاج في غضون 6 أشهر. والثاني يعود تاريخه إلى العام 1840 ويضم حوالي 50 نفقاً للتعدين، وسيبدأ الانتاج في غضون 12 شهراً. وتكمن الحبكة في ان قيمة الشركة الأم تبلغ حوالي 23 مليون دولار فقط، في حين تبلغ قيمة الشركة الرديفة في سلوفاكيا نحو 2 مليار دولار. أما في أوستراليا فارتفعت أسهم شركات الأنتيمون مثل شركة Larvotto Resources بأكثر من 800 في المئة خلال الستة أشهر الماضية.

وفي تطور متصل، يدل على حرص الولايات المتحدة على تحفيز الاستثمار الخاص ودعم مشاريع «الإثمد» المحلية، فقد حصلت شركة Perpetua Resources Corp  على قرض بقيمة 1.8 مليار دولار من بنك التصدير والاستيراد الأميركي. إضافة إلى 60 مليون دولار من وزارة الدفاع. والهدف هو الإسراع بتنفيذ مشروع لتطوير رواسب الذهب والأنتيمون في ولاية أيداهو.

الخلاصة: حفلة الأنتيمون

يطلق المستثمرون حالياً لقب «حفلة الأنتيمون» على الاستثمار في الشركات العاملة في هذا المعدن السحري. ولتكون النتيجة، ضخ استثمارات ضخمة لتطوير مناجم الأنتيمون في أميركا والدول الصناعية الكبرى. ما يحقق هدفين عزيزين؛ الأول تحقيق أرباح ضخمة. والثاني وقف الارتهان للصين، ما يسهل استكمال الحرب التجارية معها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى