عصر المفاعلات النووية الصغيرة
ذكر تقرير لوكالة الطاقة الدولية صدر منتصف الشهر الحالي، بعنوان الطريق إلى عصر جديد للطاقة النووية أن المفاعلات النووية الصغيرة، وضئيلة التكلفة، ستمهد طريق عصر جديد للطاقة النووية ولتوليد الطاقة النظيفة. ويشير إلى وجود خطط متفاوتة النضج حالياً لبناء مفاعلات صغيرة بسعة إجمالية قدرها 25 غيغاواط. ويتوقع أن يرتفع الرقم في العام 2050، إلى 120 غيغاواط، إذا توفر الدعم الحكومي وتسهيل القواعد التنظيمية . ما يرفع الاستثمارت الموظفة في هذا النوع من المفاعلات من حوالي 5 مليارات دولار حالياً إلى 670 مليار دولار .
وحذر التقرير من هيمنة صينية ـ روسية على صناعة الطاقة النووية سواء على صعيد التكنولوجيا المستخدمة، أم على صعيد الوقود النووي لناحية الإنتاج والتخصيب وسلاسل الإمداد. فيشير إلى أنه من بين 52 مفاعلا بوشر ببنائها منذ العام 2017، هناك 48 مفاعلاً تستخدم التقنية الصينية أو الروسية.
أشار التقرير إلى أن السوق والتكنولوجيا والأسس السياسية جاهزة لعصر جديد من النمو في الطاقة النووية على مدى العقود القادمة. وذلك بهدف مقابلة الطلب المتزايد على الكهرباء الذي ارتفع بضعف معدل الطلب الإجمالي على الطاقة خلال العقد الماضي. ويرجع ذلك، ليس إلى نمو الطلب في المجالات التقليدية فقط، بل إلى المجالات الجديدة مثل مراكز البيانات والذكاء الاصطناعي والمركبات الكهربائية.
واعتبر أن الاهتمام بالطاقة النووية هو في أعلى مستوياته منذ أزمة النفط في سبعينيات القرن العشرين. وتستخدم الطاقة النووية حالياً في أكثر من 40 دولة. وعلاوة على ذلك، يغير الابتكار مشهد التكنولوجيا النووية، بما في ذلك العديد من تصميمات المفاعلات المعيارية الصغيرة قيد التطوير. والتي من المقرر أن تبدأ العمل بحلول العام 2030.
انتعاش الطاقة النووية
ذكر التقرير أن عدد المفاعلات النووية التقليدية يبلغ حالياً حوالي 420 مفاعلاً. ورغم قيام بعض البلدان بالتخلص التدريجي من الطاقة النووية أو إحالة المحطات إلى التقاعد المبكر، فإن توليد الطاقة المنتجة من المحطات النووية آخذ في الارتفاع مع استئناف اليابان للإنتاج، واستكمال أعمال الصيانة في فرنسا. إضافة إلى بدء تشغيل مفاعلات جديدة في أسواق مختلفة، مثل الصين والهند وكوريا وأوروبا. وتقدر الطاقة النووية بحوالي 10 في المئة من توليد الطاقة العالمي وهي ثاني أكبر مصدر للكهرباء منخفضة الانبعاثات بعد الطاقة الكهرومائية.
إقرأ أيضاً: طاقة الاندماج النووي: سباق أميركي صيني على «صناعة الشمس» (1 من 5)
ويوجد حالياً حوالي 63 مفاعلاً قيد الإنشاء، تقدر طاقتها الإنتاجية بحوالي 70 غيغاواط. وذلك أعلى مستوى مسجل منذ العام 1990. كما تم خلال السنوات الخمسة الماضية، تمديد العمر التشغيلي لأكثر من 60 مفاعلاً في مختلف الدول. وتم إطلاق مبادرة جديدة تهدف إلى مضاعفة القدرة النووية العالمية بحلول العام 2050. مع الاعتراف بدور الطاقة النووية في تحقيق أهداف أمن الطاقة وأمن والمناخ في آن واحد. وزاد الاستثمار السنوي في الطاقة النووية بنحو 50 في المئة خلال السنوات 2020 ـ 2023، ليصل إلى حوالي 60 مليار دولار.
هيمنة صينية وروسية
يعتمد الزخم المحقق في الطاقة النووية على التقنيات الصينية والروسية، كما يشير التقرير. فمن بين 52 مفاعلاً بوشر ببنائها منذ العام 2017، هناك 25 منها بتصميم صيني و 23 بتصميم روسي. ويشكل هذا التركيز الشديد للتكنولوجيات النووية، وكذلك لإنتاج اليورانيوم وتخصيبه، عامل خطر للمستقبل. ما يؤكد الحاجة إلى تنوع أكبر في سلاسل التوريد.
إقرأ أيضاً: هل تنجح مجموعة السبع بوقف ارتهان توليد الكهرباء للوقود النووي الروسي
ولفت التقرير إلى ضرورة التنبه لتنويع إمدادات اليورانيوم وخدمات التخصيب لضمان توسيع القطاع النووي بشكل آمن وبأسعار معقولة. فإنتاج اليورانيوم يتركز حالياً في أربع دول، تمثل مجتمعة أكثر من ثلاثة أرباع الإنتاج العالمي. كما أن قدرة التخصيب مركزة بنسبة تقارب 99 في المئة في أربعة موردين. وتستأثر روسيا لوحدها بحوالي 40 في المئة.
وسجل التقرير أن نصف المشاريع قيد الإنشاء موجودة في الصين، التي ستتفوق على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من حيث القدرة المركبة للطاقة النووية بحلول العام 2030. ولا تزال الاقتصادات المتقدمة موطناً لمعظم المفاعلات النووية في العالم. ولكن هذه المفاعلات قديمة نسبياً، ويبلغ متوسط أعمارها أكثر من 36 عاماً. ولم يكن تجديد هذه المفاعلات بالأمر السهل. فقد عانت صناعة الطاقة النووية في دول مثل الولايات المتحدة وفرنسا، في السنوات الأخيرة من تأخير المشاريع وارتفاع التكاليف.
ويشير تقرير وكالة الطاقة الدولية إلى تباين شديد بين مختلف أقاليم العالم. ففي الاقتصادات المتقدمة، لا يعوض ارتفاع عدد المفاعلات النووية الصغيرة وبناء مفاعلات كبيرة، تراجع أداء المفاعلات المتقادمة. ما يجعل قدرة التوليد المتوقعة في العام 2050 أعلى قليلاً مما هي عليه حالياً. وفي الاتحاد الأوروبي، بلغت حصة الطاقة النووية في مزيج الكهرباء ذروتها عند 34 في المئة في التسعينيات. لكنها انخفضت إلى 23 في المئة اليوم. وعلى النقيض من ذلك، في الصين، ستتضاعف القدرة المركبة بأكثر من ثلاثة أضعاف بحلول منتصف القرن، وكذلك في الاقتصادات الناشئة والنامية الأخرى.
عصر جديد بفضل المفاعلات النووية الصغيرة
يعتبر التقرير أن المفاعلات المعيارية النووية الصغيرة، ضئيلة التكلفة، يمكن أن تمهد الطريق لعصر جديد للطاقة النووية. فالطلب على الكهرباء من القطاع الخاص هو المحرك الرئيسي للاهتمام بهذه التقنيات الناشئة. وهناك خطط متفاوتة النضج لإضافة حوالي 25 غيغاواط من سعة المفاعلات النووية الصغيرة. وذلك لتلبية الطلب المتزايد على الكهرباء من قبل مراكز البيانات. ويتوقع في ظل السياسة الحالية، أن تصل السعة الإجمالية للمفاعلات النووية الصغيرة إلى 40 غيغاواط بحلول العام 2050.
إقرأ أيضاً: لإحياء مبادرة إنشاء محطة طاقة نووية مشتركة لدول مجلس التعاون
ورأى التقرير أنه في حال توفرت السياسات الداعمة واللوائح التنظيمية المبسطة، فيتوقع أن تتضاعف سعة المفاعلات النووية الصغيرة ثلاث مرات بحلول منتصف القرن، لتصل إلى 120 غيغاواط، مع تشغيل أكثر من ألف مفاعل. ومن شأن سيناريو النمو السريع أن يرفع الاستثمار المطلوب في المفاعلات النووية الصغيرة من حوالي 5 مليارات دولار إلى 25 مليار دولار بحلول نهاية هذا العقد، مع استثمار تراكمي يبلغ 670 مليار دولار بحلول العام 2050.
كما رأى، أنه في حال النجاح بتخفيض تكاليف بناء المفاعلات النووية الصغيرة على مدى السنوات المقبلة إلى أقل من 4500 دولار لكل كيلوواط في أميركا و 2500 دولار في الصين، فقد يؤدي ذلك إلى زيادة الإقبال عليها لتصل السعة المتوقعة إلى 190 غيغاواط بحلول العام 2050. ما يرفع إجمالي الاستثمار العالمي في المفاعلات النووية الصغيرة إلى حوالي 900 مليار دولار.
حل مشكلة التمويل
شدد التقرير على صعوبة توفير التمويل للمشاريع النووية بسبب كثافة رأس المال وفترات البناء الطويلة والتعقيد الفني ومسؤولية المخاطر في بعض البلدان. ما جعله مقتصراً على الحكومات إلى حد بعيد. واعتبر أن سيناريو النمو السريع، يتطلب زيادة كبيرة في الاستثمار السنوي، يصل إلى 120 مليار دولار في العام 2030. ما يفرض الاستعانة بالتمويل الخاص. ومع ذلك، فإن الجداول الزمنية الطويلة للحصول على التصاريح والبناء تجعل الطاقة النووية خياراً صعباً لمؤسسات التمويل الخاصة.
وأشار تقرير الوكالة إلى إن الحد من مخاطر تجاوز التكاليف والتأخير يشكل شرطاً أساسياً لتوسيع التمويل، سواء العام أو الخاص. كما تشكل القدرة على التنبؤ بالتدفقات النقدية المستقبلية عنصراً مهماً في خفض تكاليف التمويل وجذب رأس المال الخاص إلى القطاع النووي. وبالتالي فإن الإطار التنظيمي الداعم الذي يزيد من وضوح الرؤية يشكل أهمية بالغة للحصول على التمويل. وفي الأسواق التي تتسم بأسعار متقلبة، تشكل أدوات تخفيف المخاطر مثل اتفاقيات شراء الطاقة طويلة الأجل، وعقود الفروقات، ونماذج الأصول الخاضعة للتنظيم أهمية كبيرة أيضاً. كما يمكن للمستهلكين الكبار أن يتعهدوا باتفاقيات طويلة الأجل لشراء الطاقة.
يمكن للمفاعلات النووية الصغيرة أن تخفض بشكل كبير إجمالي تكاليف الاستثمار للمشاريع الفردية إلى مستويات مماثلة لتلك الخاصة بمشاريع الطاقة المتجددة الكبيرة مثل طاقة الرياح البحرية والطاقة الكهرومائية. وهذا يجعل المفاعلات النووية الصغيرة أقل خطورة بالنسبة لمؤسسات التمويل التجارية.
دور الحكومات
تتمتع الحكومات بقدرة فريدة على توفير الرؤية الاستراتيجية والسياسات والحوافز والتمويل العام القادر على دفع القطاع النووي إلى الأمام. وذلك، مع الأخذ بالاعتبار تفاوت النظرة بين الدول لدور الطاقة النووية، رغم كونها مصدراً يصعب مجاراته لتوفير الطاقة منخفضة الانبعاثات. وتتطلب الاستفادة من هذه الفرصة اتباع نهج واسع النطاق من جانب الحكومات، يشمل سلاسل توريد قوية ومتنوعة، وقوة عاملة ماهرة، ودعم الابتكار، وتطوير آليات لإزالة مخاطر الاستثمار. فضلاً عن الدعم المالي المباشر، واللوائح التنظيمية الفعالة والشفافة للسلامة النووية. إلى جانب أحكام إيقاف التشغيل وإدارة النفايات.
وخلص تقرير وكالة الطاقة الدولية إلى أن هناك علامات متعددة تشير إلى عصر جديد للطاقة النووية؛ والمهمة الآن هي تهيئة الشروط اللازمة لدخول هذا العصر.