إثيوبيا ـ أرض الصومال : بين «بنادق» النفوذ و«أكتاف» الحماية ( 2 من 2 )
طرح الجزء الأول من هذا التقرير سؤالاً عما إذا كانت اتفاقية إثيوبيا ـ أرض الصومال لتأجير منفذ بحري لإثيوبيا، وإقامة قاعدة عسكرية، مقدمة لمرحلة من الحروب بالوكالة. تستهدف إعادة رسم خرائط جديدة للمنطقة وإقامة دويلات؟ أم مقدمة لإعادة تشكيل التحالفات تهيئة لمرحلة التسويات والاستثمارات؟
لا يمكن الإجابة واستقراء تطورات الأزمة الناشئة عن اتفاقية إثيوبيا ـ أرض الصومال، بدون رصد مواقف الدول المعنية، والمعطيات التي تحكم تلك المواقف. مع ملاحظة صعوبة التحديد الدقيق للمواقف النهائية أو الحقيقية لهذه الدول. ويرجع ذلك إلى تشابك العلاقات بين الأطراف المحلية الحاكمة أو الحالمة بالحكم، والباحثة دوماً عن الحماية والدعم. وبين القوى الإقليمية والدولية الباحثة عن مناطق نفوذ.
مواقف الدول من اتفاقية إثيوبيا ـ أرض الصومال
وهناك مشهد سوريالي للتحالفات والولاءات بين الأنظمة الحاكمة والدول الداعمة. حيث تتبدل وتتنوع التحالفات بالسر والعلن وتنقل البندقية من كتف إلى آخر. بل يلاحظ وجود دول وأطراف اختارت حمل أكثر من بندقية ـ بل كل البنادق ـ على كتف واحد. كما في حالة جيبوتي التي «تستضيف» قواعد عسكرية لدول من الشرق والغرب والشمال والجنوب. أو إثيوبيا التي تغازل روسيا وهي جالسة في «أحضان أميركا». أو أرض الصومال، التي لم تعترف بها أي دولة، ولكن عاصمتها هيرجيسا «تستضيف» قنصليات ومكاتب تمثيلية لنحو 11 دولة.
ولكن رغم ذلك، يبقى رصد مواقف الدول الأكثر تأثيراً، السبيل الأفضل المتاح لاستقراء التطورات. ونقرأ في صفحات هذا الرصد ما يلي:
تبدل سريع في التحالفات والولاءات لأنظمة حاكمة وأطراف حالمة بالحكم، ودول باحثة عن النفوذ
دول الوساطة
يبدو بداية من القراءة الأولية للمشهد الجيوسياسي، أن هناك بعض الدول التي تراهن على تغليب احتمال التسويات والاستثمارات. وهي تحتفظ بعلاقات جيدة مع جميع أطراف النزاع خاصة مع إثيوبيا وأرض الصومال. ويتوقع أن تلعب كل من دولة الإمارات وتركيا والاتحاد الأوروبي دوراً مهماً في الوساطة بين مقديشو من جهة وأديس أبابا وهرجيسا من جهة أخرى. في ظل خشية الدول الأوروبية من أن يؤدي انفجار الصراع في القرن الأفريقي إلى موجة نزوح واسعة باتجاه أوروبا، وإلى خسارة مواقع جديدة لها في أفريقيا.
إقرأ أيضا: إثيوبيا ـ أرض الصومال: حروب ودويلات أم تسويات واستثمارات ( 1 من 2 )
وينطبق ذلك على أنقرة التي سبق أن استضافت عدة جولات من المفاوضات بين مقديشو وهرجيسا. كما أنها تتمتع بعلاقات قوية مع حكومة آبي أحمد، حيث قامت بتوفير الدعم العسكري للجيش الإثيوبي لمواجهة تمرد التيغراي.
أما دولة الإمارات، فتعتبر لاعباً رئيسياً في منطقة البحر الأحمر. ولديها علاقات ودية مع كل من إثيوبيا وأرض الصومال. وفي عام 2016، وقعت حكومة أرض الصومال اتفاقية امتياز مدتها 30 عامًا مع شركة موانئ دبي العالمية لتوسيع وتحديث ميناء بربرة. كما يعد صندوق أبوظبي للتنمية أحد الممولين لممر بربرة، الذي يربط أرض الصومال بإثيوبيا.
دولة الإمارات، تركيا، الاتحاد الأوروبي دول تراهن على مسار التسويات ومؤهلة لدور الوساطات
الصومال: مواجهة اتفاقية إثيوبيا ـ أرض الصومال
تميز رد جمهورية الصومال بعنف متصاعد حيث اعتبرت «مذكرة منح منفذ بحري لإثيوبيا في أرض الصومال، انتهاكاً لسيادة الصومال وأمنه الحيوي». وسارعت بعد أقل من أسبوع من توقيع المذكرة إلى إصدار قانون يُلغيها باعتبارها «غير شرعية». وتمكنت من حشد تأييد غالبية دول العالم والمنظمات المعنية وفي مقدمتها الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي. وصولاً إلى النجاح في طرح القضية في اجتماع طارئ لمجلس الأمن الدولي. ولكن كل ذلك لن يجدي نفعاً إذا كان «ما كتب قد كتب».
وليبقى الحل الوحيد المتاح أمام الصومال هو اللجوء إلى الحرب. حيث قام الرئيس الصومالي بزيارات عاجلة إلى كل من مصر وقطر لحشد الدعم اللازم. واتجه للتقارب أكثر مع إريتريا التي تتوجس شراً من حصول إثيوبيا على قاعدة عسكرية. وهناك تخوف حقيقي من نجاح الرئيس حسن شيخ محمود في حشد تأييد مختلف الأطراف الصومالية المناوئة له تحت شعار مواجهة إثيوبيا بما في ذلك حركة الشباب المتطرفة. وهذا الشعار يعتبر جامعاً نظراً لحالة العداء التاريخي الذي يكنه الصوماليون لإثيوبيا. خاصة بعد الهزيمة القاسية في “حرب أوغادين” في العام 1978 بسبب التدخل العسكري الهائل من قبل الاتحاد السوفياتي وتخلي أميركا عن دعم الصومال.
ولكن قرار الحرب يحتاج إلى توفر الدعم من قبل الدول الإقليمية والكبرى. وبالتالي لم يكن ولن يكون بأيدي الصومال وحده.
مصر: الاستعداد لكل الاحتمالات
ينطلق رد الفعل المصري العنيف على اتفاقية إثيوبيا ـ أرض الصومال، والذي بلغ حد التهديد بالحرب، من العلاقة المتدهورة بين القاهرة وأديس أبابا بسبب سد النهضة. كما ينطلق من المصالح الاستراتيجية لمصر في البحر الأحمر. والتي ستكون عرضة لتهديد جدي في حال سيطرة «قوة معادية» على الطرف الشرقي لمضيق باب المندب ما قد يهدد حركة الملاحة في قناة السويس.
ولكن التدقيق في تصريح الرئيس السيسي، يؤكد وجود سيناريوهين للتطورات؛ الأول تعاوني – تنموي، والثاني صدامي ـ تدميري. إذ قال «رسالتي لإثيوبيا أن تسلك الطرق المتعارف عليها لكي تحصل على تسهيلات من الأشقاء في الصومال وجيبوتي وإريتريا، فالاستفادة من الموانئ أمر لا يرفضه أحد. ولكن محاولة وضع اليد والسيطرة على أراضي الغير فهو أمر لن يوافق عليه أحد». ووجه حديثه للرئيس الصومالي ـ وربما من ورائه للدول الكبرى المعنية ـ بقوله «نحن معكم ونقول للدنيا كلها نتعاون ونتحاور بعيداً عن أي تهديد. ولكن مصر لن تسمح لأحد بتهديد الصومال والمساس بأمنه».
التدقيق في الموقف المصري يؤكد وجود سيناريوهين، الأول صدامي ـ تدميري والثاني تعاوني ـ تنموي
اميركا: إدارة الصراع عن بعد
تمارس الولايات المتحدة ما تبرع به وهو إدارة الصراعات عن بعد، والإمساك بكل الأوراق. وهي تعمل باعتبارها الرابح النهائي بغض النظر عمن يربح ويخسر من القوى المتصارعة. وذلك ما يفسر المواقف المتناقضة حيناً والمتضاربة حيناً أخر . بدءاً من سوريا وانتهاء بأرض الصومال.
فيلاحظ أن الولايات المتحدة تؤيد الصومال ولكنها تواصل الضغط عليه لإتمام عملية التحول الديمقراطي. كما تحتضن بالوقت ذاته إثيوبيا وتغض النظر عن ممارساتها ضد الشعب الصومالي في إقليم أوغادين وعن دعمها غير المعلن للمتطرفين الإسلاميين والتوجهات الانفصالية في الصومال.
واختصاراً للشرح تكفي الإشارة إلى تطورين مهمين يتعلقان بأرض الصومال وإريتريا، ما يسهم في فهم الموقف الأميركي الحقيقي من اتفاقية إثيوبيا ـ أرض الصومال. ويسهم بالتالي في استقراء تطور الأحداث وهما:
أولاً: أرض الصومال
يبدو أن أميركا تنظر إلى جمهورية أرض الصومال كقاعدة بديلة أو رديفة لجيبوتي. خاصة وان هذه الجمهورية غير المعترف بها تمتاز بأنها الوحيدة بعد كينيا التي نجحت في إرساء نظام حكم ديمقراطي وضمان الحقوق السياسية والحريات المدنية، كما يذكر تقرير لمؤسسة فريدوم هاوس. في حين باتت جيبوتي مصدر قلق لأميركا بعد تحولها إلى «ملجأ» للقواعد العسكرية لقوى دولية وإقليمية حليفة ومعادية لأميركا. ومصدر القلق الرئيسي هو القاعدة الصينية التي أنشئت العام 2017 وتبعد 6 أميال عن القاعدة الأميركية. ويمكنها استيعاب حاملات الطائرات وأربع غواصات نووية دفعة واحدة. ولا تستبعد أميركا احتمال طلب جيبوتي تقليص الوجود العسكري الأميركي تحت ضغط الصين التي أغرقتها بالديون.
أميركا تدير الصراع عن بعد، وتعتبر أنها الرابح النهائي بمعزل عمن يريح ويخسر من الأطراف الإقليمية
ونذكر في هذا السياق بما كشفت عن صحيفة وول ستريت جورنال. ومفاده أن رئيس أرض الصومال موسى بيهي عبدي عرض خلال زيارته إلى واشنطن العام الماضي تسهيلات عسكرية تشمل استخدام الموانئ والمطار. مقابل مجرد وعد بالاعتراف ببلاده كدولة ذات سيادة. وتلى ذلك زيارات لمسؤولين عسكريين أميركيين كبار من بينهم ستيفن تاونسند الذي وصفته الصحيفة بأعلى مسؤول عسكري يزور أرض الصومال منذ العام 1991. وهدفت الزيارات إلى تقييم ميناء بربرة والمطار.
كما يمارس بعض أعضاء الكونغرس ضغوطاً كبيرة على الإدارة الأمريكية لتعزيز التعاون مع أرض الصومال. لأنها «تتمتع بالاستقرار والديمقراطية». في حين تقود أرض الصومال حملة ممنهجة في أميركا لتقديم نفسها كقاعدة لمواجهة النفوذ الصيني بعد أن أقدمت في يوليو 2020، على تأسيس مكاتب تمثيلية متبادلة مع تايون.
ثانياً: إريتريا
يلاحظ وجود مؤشرات على انعطافة كبيرة في السياسة الأميركية تجاه إرتيريا. وقد تجلت في تقرير «الاستراتيجية القُطرية المتكاملة الأميركية الجديدة» (ICS)، الصادر أواخر العام 2023. وتصاعد الحديث عن نقل العلاقة معها من العزل والعقوبات إلى الحديث الجدي عن فتح صفحة جديدة من التعاون والانتفاح . مع التلميح إلى إمكانية رفع العقوبات عنها. وتتزامن هذه الإنعطافة مع مؤشرات على ابتعاد تدريجي و«خجول» لأسمرة عن الصين وسعيها للتقارب مع أميركا.
«بنادق» جيبوتي وإريتريا قد تنقل من «الكتف» الصيني إلى الأميركي، ومخاطر دخول الصين حلبة النزاعات العسكرية
الصين: المتضرر الأكبر
تعتبر الصين المتضرر المباشر من التطورات حتى الآن. وذلك على الرغم من الاستثمارات الضخمة التي ضختها في دول القرن الأفريقي والمساعدات التي قدمتها. حيث تتوالى المؤشرات على تحول في مواقف هذه الدول وعمليات نقل تدريجية للبنادق من كتف إلى آخر. ويظهر ذلك في إريتريا وجيبوتي. وليبقى المؤشر الأكثر وضوحاً في إثيوبيا. ونشير إلى تطور قد لا يكون مهماً ولكنه شديد الدلالة. إذ بادرت الحكومة الأثيوبية العام الماضي إلى إلغاء العقد الموقع مع شركة POLY-GCL Petroleum Group Holding Limited الصينية في العام 2013. والمتعلق باستكشاف وإنتاج النفط في إقليم أوغادين. وذلك على الرغم من قيام الشركة بحفر عشرات الآبار واكتشاف حقول منتجة. حيث تم في العام 2018 الاحتفال بالإنتاج التجريبي في أحد الحقول بحضور رئيس الوزراء آبي أحمد. وأردفت الحكومة قرارها بتوقيع اتفاقية مع شركة Sewell & Associates الأميركية، لتقييم إمكانات موارد النفط والغاز في حوض أوغادين.
أما كيف سترد الصين في حال تحول حلفاء الأمس إلى أعداء. وهل تنقل دعمها من الأنظمة الحاكمة إلى الأطراف الحالمة بالحكم. ولتكون جمهورية أرض الصومال نقطة انعطاف في مسار السياسة الخارجية الصينية. ويجدر في هذا السياق المراقبة والتدقيق في ما ذكره معهد أميركان إنتربرايز عن دور مباشر للصين في تجدد الاشتباكات القبلية في منطقة لاسعانود في أرض الصومال. معتبراً ذلك «أول حرب بالوكالة تشنها الصين في أفريقيا».