أسواق النفط: استقرار ظاهر وخطر مستتر

هناك حالة من الاستقرار الظاهر في أسواق النفط. يقابلها حالة مستترة من عدم اليقين. وحالة الاستقرار هذه، تحققت بفضل تماسك تحالف (أوبك بلس)، و«التضحيات» التي قدمتها السعودية ودول الخليج وبقدر أقل روسيا، بتخفيض إنتاجها. الأمر الذي خلق توازناُ بين العرض والطلب. وأدى بالتالي إلى ارتفاع تدريجي ومنطقي بالأسعار.  أما حالة عدم اليقين، فتتعلق بسؤالين هما:

    1. هل “تتعقل” الدول المستهلكة، وتوقف حربها «غير المقدسة» ضد الوقود الأحفوري بهدف فرض المعادلة الجهنمية «الإنتاج الأقصى، بالسعر الأدنى»؟.
    2. هل «تتعقل» دول تحالف (أوبك بلس) فتوقف سياسة التشاطر والتنصل من التزامات حصص الإنتاج؟

طبعاً هناك عوامل متشابكة تحكم أسواق الطاقة. ولكن الخطورة ان تلك العوامل باتت تخضع لاعتبارات سياسية وليس إلى اعتبارات اقتصادية يمكن تحليلها وتوقع تطورها. ولكن الثابت أن استمرار ارتفاع  الأسعار نحو حاجز الـ 100 دولار. يحمل خطرين محدقين. الأول تصعيد حملة الدول الصناعية ضد تحالف (أوبك بلس) بهدف تخفيض السعر. واحتمال انضمام الصين إلى تلك الحملة كما حدث سابقاً. والثاني اهتزاز هذا التحالف، تحت وطأة قيام غالبية الدول بخرق حصص الإنتاج والضخ بأقصى طاقة ممكنة لتحصيل أقصى العوائد الممكنة، على حساب السعودية والإمارات وبقية دول الخليج.

هل تتعقل الدول المنتجة؟

التزام دول أوبك و (أوبك بلس) بحصص الإنتاج، أمر بالغ الصعوبة استناداً إلى سياق تاريخي طويل. وكانت هذه الدول تلتزم حصص الإنتاج، تحت وطأة حروب الأسعار كما حدث في 2014، و 2020. وآخر تجليات عدم التعقل، كان القرار الروسي مطلع الشهر الجاري، بإنقاص حجم التخفيض الطوعي من 500 إلى 300 ألف برميل يومياً. واندفاع إيران وفنزويلا وغيرهما إلى الضخ بأقصى طاقة ممكنة. وذلك مقابل تمسك السعودية بالتخفيض الطوعي المعلن وهو مليون برميل يومياً. وكذلك دولة الإمارات وبقية دول الخليج. وهذه الدول تعتبر أنها الأولى بزيادة الإنتاج. لأنها تمتلك فعلاً طاقات إنتاجية فائضة، وأحجمت عن استخدامها التزاماً بحصص الإنتاج .

وبعيداً عن الضرورات العملية التي تفرض حماية تحالف (أوبك بلس). وبعيداً عن الاعتبارات السياسية التي توجب صيانة التقارب مع روسيا. فإن السعودية وبقية الدول الخليجية، قد تجد نفسها مضطرة لوقف «سياسة المسايرة» ومواجهة طمع روسيا بزيادة عوائدها النفطية. خاصة وأنها كانت في طليعة الدول التي خرقت تعهداتها بخفض الإنتاج. وقادت عملية ضخمة لبيع النفط بأسعار محسومة للالتفاف على العقوبات.

هل تتعقل الدول المنتجة وتلتزم بحصص الإنتاج، للمحافظة على استقرار السوق وتجنب حرب أسعار جديدة ؟

ترجيح تعقل روسيا وإيران

هناك معطيات توحي بأن روسيا قد تميل إلى «التعقل» هذه المرة لسببين: الأول الحرص على عدم إغضاب السعودية وخسارتها كصديق في السياسة. وكحليف في (تحالف أوبك بلس). خاصة وان هذا التحالف بات هو صانع السوق وضابط ايقاع استقرار الإمدادات والأسعار. وان هذا الاستقرار يحقق مصالح روسيا. في حين أنها ستكون الضحية الأولى لانفراط التحالف ونشوب حرب أسعار. والسبب الثاني هو عجزها عن زيادة صادراتها لتعويض أي انخفاض في الأسعار.

وينطبق ذلك على إيران إلى حد بعيد. إذ ستكون مضطرة للتعقل في ظل التوقعات بعودة أميركا لتشديد الحصار على النفط الإيراني، بعد إتمام صفقة شراء حرية المواطنين الأميركيين بأموال إيران المجمدة.

إيران ستضطر للتعقل مع إعادة تشديد الحصار، بعد إتمام صفقة شراء حرية المواطنين الأميركيين بالأموال المجمدة

هل تتعقل الدول المستهلكة

المشكلة الأكبر هي عدم تعقل الدول المستهلكة. فقد استخدمت أميركا والدول الصناعية كل الأسلحة المتاحة في حربها ضد دول (أوبك بلس) بهدف إجبارها على زيادة الإنتاج لتخفيض الأسعار. وشملت هذه الأسلحة الضغوط السياسية التي توجت بزيارة الرئيس بايدن للسعودية والاجتماع مع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. وكذلك غض النظر عن تهريب النفط الروسي. وفي مرحلة لاحقة عن تهريب النفط الإيراني. وتسهيل تصدير النفط الفنزويلي. وصولاً إلى التضحية بالاحتياطي الاستراتيجي الذي راكمته الدول الأعضاء في وكالة الطاقة الدولية. وإن كانت أميركا هي الأكثر حماسة. حيث ضحت بنصف الاحتياطي بعد أن أمر الرئيس بايدن بضخ حوالي 180 مليون برميل خلال 6 أشهر فقط. وهي أسرع عملية سحب منذ إيجاد هذا الاحتياطي في سبعينات القرن الماضي. مع علم الإدارة المسبق بأن إعادة بناء المخزون يستغرق عقوداً، هذا إن حصل. ويبلغ الاحتياطي الاستراتيجي حالياً 346.8 مليون برميل، ما يكفي الاستهلاك لمدة 18 يوماً فقط. وهو أدنى مستوى له منذ العام 1980.

الصين ـ أميركا: تفاهم المصالح

الملفت أن هدف منع ارتفاع أسعار النفط، شكل نقطة تقاطع بين كل الدول المستهلكة بما فيها الصين. وظهر ذلك عقب انتهاء جائحة كورونا في النصف الثاني من 2021 وبدء الارتفاع التدريجي للطلب على النفط. إذ بادرت الصين إلى تنسيق عمليات السحب من احتياطياتها مع عمليات السحب التي تقوم بها أميركا وبقية الدول الصناعية. وكان الهدف منع ارتفاع الأسعار. ولكن اختفى هذا التنسيق بعد حرب أوكرانيا. حيث وجدت الصين في النفط الروسي المحظور، مصدراً رخيصاً لإعادة بناء احتياطاتها وتشغيل محطات التكرير بأقصى طاقتها.

… وتبدل المواقع

العامل المستتر والمقلق الذي يعمق حالة عدم اليقين، هو تراجع دور أميركا التاريخي في أسواق النفط. وكذلك التدهور النسبي في علاقتها مع الدول المنتجة خاصة في الشرق الأوسط. وتعزز هذا التراجع بعد الموقف الملتبس والمستغرب، من تعرض منشآت أرامكو في السعودية لاعتداءات مباشرة بالصواريخ والمسيرات. إضافة إلى الحملة المنسقة ضد الوقود الأحفوري على المستويات السياسية والقانونية والتنظيمية والإعلامية. وبدأت هذه الحملة في نهاية عهد الرئيس أوباما، لتبلغ ذروتها في عهد الرئيس بايدن. وهو ما يؤكد أن هذا التراجع جاء بقرار سياسي. وطبعاً يمكن التراجع عنه بقرار.

هل تستعيد أميركا دورها التاريخي في أسواق النفط، الذي حاولت الصين أن تأخذه

في المقابل، يلاحظ أن الصين تحولت إلى لاعب رئيسي في السوق النفطية بعد أن مكتفية بدور لاعب الاحتياط. ويرجع ذلك أولا إلى كونها من أكبر الدول المستوردة. وثانياً إلى قدرتها على التأثير في العرض والطلب بفضل امتلاكها احتياطي ضخم. وتشير بعض التقديرات إلى أنه تجاوز مليار برميل. مقابل حوالي 385 مليون برميل لأميركا. ثالثاً بسبب ارتباطها بتفاهمات طويلة الأمد مع الدول المنتجة خاصة إيران والسعودية وبقية المنتجين الرئيسيين في الشرق الأوسط. إضافة بالطبع إلى العلاقة الوثيقة مع روسيا. رابعاً انخراط الصين المتزايد في تأمين استقرار خطوط إمداد النفط والغاز سواء عبر الأنابيب أو عبر الناقلات البحرية. ويلاحظ هنا الدور الصيني في الضغط على إيران لتحييد ناقلات النفط عن الصراعات السياسية.

بانتظار عودة أميركا

بانتظار تبلور الاتجاهات في المستقبل القريب هناك مؤشران جديران بالمتابعة والمراقبة:

الأول بداية تغيير في الموقف الأميركي باتجاه إعادة ترميم العلاقات مع الدول المنتجة في الشرق الأوسط وخاصة مع المملكة العربية السعودية. ويشمل ذلك بالطبع العلاقات السياسية والاقتصادية والاستثمارية. وترافق ذلك مع اهتمام أميركا باستعادة موقعها التاريخي في أسواق النفط والغاز. سواء على صعيد تجديد الالتزام بأمن المنابع وطرق الإمداد، أم على صعيد وقف او تخفيف الحملة ضد الوقود الأحفوري.

الثاني: وهو مرتبط بالأول، ويتعلق بمدى رغبة وقدرة الصين على مقارعة أميركا في السوق النفطية. خاصة وان ذلك يتطلب المزيد من الانخراط في ضمان أمن الإمدادات بما يحمله ذلك من مسؤوليات سياسية وربما عسكرية وأمنية. كما يتطلب المساهمة في ضمان استقرار الأسواق والأسعار. بما يحمله ذلك من مخاطر التضحية بجزء من مخزونها الاستراتيجي. أو مخاطر اهتزاز التفاهمات والعلاقات مع الدول المنتجة.

إنه زمن التغيرات الكبيرة والمنعطفات الحادة..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى