أميركا والطاقة المتجددة: انسحاب متجدد أم تراجع مؤقت؟

يشهد ملف العلاقة بين أميركا والطاقة المتجددة تطورات متسارعة، وباتت أصابع الاتهام تتجه نحو سياسات الرئيس الأميركي دونالد ترامب. لا سيما بعد الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ، ووقف الاستثمارات في مشاريع الطاقة المتجددة. وأطلقت هذه التطورات إشارات مثيرة للقلق بشأن التزام واشنطن بدورها في مواجهة التغير المناخي.
الأمر الذي يُشكل تحدياً لعقودٍ من الجهود الدولية لمواجهة التغير المناخي وتداعياته البيئية، في وقت تتزايد فيه المؤشرات على تعاظم الظواهر البيئية والمناخية الحادة في مختلف أنحاء العالم.
الطاقة المتجددة: من أقدم المصادر
وعلى الرغم من أن الطاقة المتجددة شكّلت أول مصادر الطاقة التي استخدمها الإنسان منذ فجر التاريخ، إلا أن اكتشاف النفط أواخر القرن التاسع عشر، والذي تميز بتعدد استخداماته، شكّل نقطة تحوّل محورية في حياة البشرية، وجعله يطغى على غيره من مصادر الطاقة. ليعود الاهتمام بالطاقة النظيفة والمتجددة مع تنامي الوعي بمخاطر التغير المناخي الذي تسببه انبعاثات الوقود الأحفوري، مع قمة الأرض التي انعقدت في إطار الأمم المتحدة في العاصمة البرازيلية في العام 1992.
إقرأ أيضاً:
الكونغرس الأميركي يتهم ويحاكم وكالة الطاقة الدولية
بين أمن الطاقة وأمن المناخ: إرتبكت أميركا وأربكت العالم (1 من 2)
وقد توالت بعد تلك القمة المؤتمرات التي وضعت الأطر القانونية والعملية لمواجهة التغير المناخي، فكان بروتوكول كيوتو في 1997، ومن بعده اتفاق باريس الذي دخل حيز التنفيذ في 2016، حيث أُتفق على تكثيف الجهود من أجل الحد من ظاهرة الاحتباس الحراري إلى 1.5 درجة مئوية فوق درجات حرارة ما قبل الصناعة، وتعزيز تمويل الإجراءات الآيلة إلى مواجهة التغير المناخي. هذه الاتفاقية التي لم يتأخر الرئيس دونالد ترامب، المنتخب حديثاً آنذاك، عن إعلان انسحاب بلاده منها في آذار 2017. ثم أعادة الكرة مرة في الأيام الأولى لولايته الثانية.
تناوب السياسات بين ترامب وبايدن
وقد أتاحت شروط الخروج من اتفاق باريس، والتي تنص على أن الانسحاب لا يُصبح نافذاً إلا بعد 4 سنوات، للرئيس جو بايدن، الذي خلف ترامب، إلغاء قرار سلفه وإبقاء الولايات المتحدة الأميركية عضواً في الاتفاقية. مع العلم أنه سبق للولايات المتحدة الأميركية أن امتنعت عن المصادقة على بروتوكول كيوتو المشار إليه أعلاه، فيما تسعى من خلال سياساتها الحالية إلى التخفيف من الأعباء المالية التي يرتبها اتفاق باريس وعضوية المنظمات الدولية المعنية.
إلا أن انسحاب الولايات المتحدة الأميركية من صندوق الخسائر والأضرار المنبثق عن مؤتمر COP 27، والذي اتخذته إدارة الرئيس ترامب في مطلع آذار 2025، يدل على رفض الإدارة الحالية كل ما يمتّ بصلة إلى دعم الطاقة النظيفة والمتجددة، وخاصةً من الناحية المالية. سيّما وأن مساهمة الولايات المتحدة اقتصرت على 17.5 مليون دولار، في حين بلغ مجموع المساهمات قرابة الـ 750 مليون دولار أميركي.
الانسحاب من اتفاقية باريس
وفي مشهد يعكس مزيداً من التباعد عن توجهات المجتمع الدولي، اعتبر الرئيس دونالد ترامب، قبيل توقيعه قرار انسحابه من اتفاقية باريس للمناخ للمرة الثانية، أن الاتفاقية مجرد خدعة منحازة وغير عادلة. كما شكك وزير الطاقة في الإدارة الأميركية الجديدة، كريس رايت (Chris Wright)، بوجود أزمة مناخ، وبارتباط تغير المناخ بتفاقم الطقس، على الرغم من اعترافه بالصلة بين حرق الوقود الأحفوري والتغيرات المناخية.
وتجدر الإشارة إلى أن الوزير الجديد رايت، هو أحد أقطاب صناعة النفط الصخري الأميركي. وهو المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة خدمات حقول النفط “ليبرتي إنرجي” (Liberty Energy). التي تستخدم التكسير المائي (الهيدروليكي). وهو يرى أنه لا غِنى عن الوقود الأحفوري، لا سيما بالنسبة للدول الفقيرة التي تحتاج إلى طاقة منخفضة الكلفة لانتشالها من براثن الفقر. كما يعتبر أنه لا يُمكن للطاقة المتجددة أن تحلّ مكان الوقود الأحفوري.
الموقف من وكالة الطاقة الدولية
أما موقف الإدارة الجديدة من وكالة الطاقة الدولية (IEA)، فليس أفضل حالاً. حيث بادرت فور استلام مهامها إلى متابعة محاكمة الوكالة التي كان قد بدأها الكونغرس الأميركي في مارس 2024، بتهمة تبنيها نزعة خضراء ملتبسة، وحملِ لواء التغير المناخي في مقابل مناهضة النفط والغاز.
وفيما ترتفع الحاجة إلى مزيد من مصادر الطاقة لمواجهة الطلب المتزايد، أمر الرئيس الأميركي دونالد ترامب، منتصف نيسان/أبريل 2025، بوقف جميع الأعمال في مشروع “إمباير ويند” (Empire Wind)، وهو مشروع لطاقة الرياح البحرية قبالة سواحل نيويورك، تقوده شركة “إكوينور” النرويجية للطاقة. ما يجعل من “إمباير ويند” آخر ضحايا الإدارة الجديدة، بعد إلغاء تصريح قانون الهواء النظيف لمشروع “أتلانتك شورز” (Atlantic Shores)، في شهر آذار/مارس 2025، وهو مشروع تطوير طاقة رياح بحرية في نيوجيرسي لم يبدأ العمل فيه بعد.
وبينما تزعم الإدارة الجديدة أن تعليق مشروع “إمباير ويند” مؤقت ريثما تتم مراجعته، يخشى مؤيدو المشروع أن يكون مقدمة للتراجع على نطاق أوسع عن مشاريع الطاقة النظيفة قيد التنفيذ. وأن يكون مدفوعاً بالاعتبارات السياسية أكثر من الاعتبارات البيئية، ما يُشكل صدمة لقطاع طاقة الرياح البحرية الناشئ في الولايات المتحدة.
في المقابل، استمرت ولايات أميركية مثل كاليفورنيا ونيويورك وتكساس بدعم مشاريع الطاقة المتجددة، استجابةً للحاجة والتنافسية الاقتصادية المتزايدة لها، على الرغم من سياسات ترامب المستجدة.
سياسات ترامب المتعلقة بالطاقة المتجددة في 2025، التي حجبت الدعم عن الطاقة المتجددة داخل الولايات المتحدة، تُشكل عرقلة مؤقتة للمسار البيئي، وفرملة مؤقتة لا انقلاب دائم على مسار الطاقة المتجددة.
التحول العالمي يتجاوز التردد الأميركي
وعلى المستوى العالمي، استمرت دول الاتحاد الأوروبي والصين والهند في تطوير مشاريع الطاقة المتجددة دون تأثر كبير. بل إن بعضها حاول سد الفراغ القيادي الأميركي في ملف المناخ. في الوقت الذي تشهد تقنيات الطاقة المتجددة انخفاضاً مستمراً في التكاليف، ما جعل من الصعب إبطاء التحول، حتى في غياب الدعم المالي والسياسي.
ذلك أن التحول نحو الطاقة النظيفة لا يمكن إيقافه بالكامل مع تطور التكنولوجيا وارتفاع الضغط البيئي والاجتماعي.
بناءً على ما تقدم، يقتصر تأثير سياسات ترامب على الجانب الرمزي والقيادي الأميركي في قطاع الطاقة النظيفة ومواجهة التحول المناخي. وهي لا تمثل تحولاً دائماً في الاتجاه العالمي نحو الطاقة النظيفة، وإن أدّت إلى إعادة توجيه رؤوس الأموال نحو أسواق أكثر استقراراً.
فدول العالم ماضية في التحول إلى الطاقة النظيفة والمتجددة، وإن كانت الخطى متفاوتة، فإن وجهتها باتت محسومة. والمطلوب اعتماد سياسات تؤمّن التكامل بين مصادر الطاقة التقليدية والمتجددة، وتوازن بين أمن الطاقة وأمن المناخ.
باحث في الشؤون الاقتصادية والطاقة