إصلاح قطاع النفط الإيراني يحتاج أكثر من رئيس إصلاحي

اشتعلت التكهنات حول الانعكاسات المتوقعة على قطاع النفط الإيراني بعد فوز الرئيس الإصلاحي مسعود بزشكيان. وتراوحت بين حدين من المبالغة. الأول «أميركي الهوى» ومفاده أنه سيكون معدوماً. والثاني «إيراني الولاء» ومفاده أنه سيكون عظيماً ويتمثل بزيادتين محوريتين هما الطاقة الإنتاجية والصادرات.

والحقيقة أن التأثير سيكون محدوداً، ومرهوناً بتطور المفاوضات الباردة والفاترة، حتى الآن، بين أميركا وإيران. ووجود رئيس إصلاحي قد يكون مجرد ورقة طرحت على طاولة المفاوضات.

النفط الإيراني والرئيس الإصلاحي

ونشرح بعض المعطيات للتوضيح…

لا يوجد معلومات مؤكدة حول قطاع النفط الإيراني لتشكل منطلقاً للتحليل والتقييم. ويشمل ذلك الإنتاج الفعلي، والصادرات والعائدات المالية المحصلة فعلاً. إلا أن تقديرات متطابقة تستند إلى ما تعلنه وزارة النفط الإيرانية والهيئات والشركات الدولية المتخصصة، تشير إلى أن الطاقة الإنتاجية تبلغ حوالي 3.2 مليون برميل يومياً. والصادرات تراوحت خلال العامين الماضيين، بين 500 ألف و 1.5 مليون برميل يومياً، تبعاً لتشديد العقوبات الأميركية. أما العائدات المالية فهي من أسرار الدولة العميقة. ففي حين أكد وزير النفط الإيراني مثلاً، تحصيل قيمة المبيعات النفطية بنسبة 100 في المئة، أعلنت محكمة التدقيق العليا الإيرانية، أن النسبة لم تتجاوز 15 في المئة خلال أبريل ومايو الماضيين.

التحدي الأكبر  هو استمرار تصدير النفط إلى الصين وتدارك صفقة أميركية ـ صينية لاستبدال النفط الإيراني الرخيص بالنفط الروسي الأرخص

وهذه المعطيات ضرورية لتوضيح مدى «طموح» طروحات الرئيس بزشكيان أو الصورة الحقيقة للعلاقة بين واقع النفط الإيراني والرئيس الإصلاحي. فقد أكد عزمه على دعم تنفيذ خطة زيادة الطاقة الانتاجية إلى 4 م/ب/ي. ومن ثم إلى 7 م/ب/ي. ولكنه سارع للإعلان  صراحة استحالة تحقيق ذلك بدون رفع العقوبات وفتح صناعة النفط أمام الشركات الدولية والمستثمرين الأجانب. خاصة وأن إيران تفتقر إلى التقنيات اللازمة ليس لتطوير مكامن جديدة وحسب. بل لصيانة وتأهيل الحقول العاملة. والتي تدهورت إنتاجيتها إلى حوالي ربع الطاقة الانتاجية.

بزكشيان: العقوبات كارثة

وقبل انتخابه، انتقد الرئيس بزشكيان بشكل مباشر أسلوب «الالتفاف على العقوبات بمنح حسومات على الأسعار ما «يتسبب بأضرار كبيرة لأننا نبيع نفطنا بسعر رخيص، و نشتري احتياجاتنا بسعر مرتفع». معتبراً أن الحل هو بالعمل على رفع العقوبات التي وصفها بالكارثة. بل ذهب بعيداً في توضيح الشروط اللازمة للنجاح. فطالب بالعمل على رفع إيران من القائمة السوداء لمجموعة العمل المالي (FATF). واعتبر أن هذه المجموعة مثل «الاتحاد الدولي لكرة القدم الدولي (الفيفا)، إذا لم نعترف بها وننضم إليها، فلن نتمكن من دخول المباريات الدولية، والبنوك لا تتعامل معنا بسبب ذلك»”.

إقرأ أيضاً: واردات الصين من النفط الروسي والإيراني: أرقام قياسية بموافقة أميركا!

وعليه، فإن الخلاصة الأولى هي أن الرئيس الإصلاحي لن يستطيع إصلاح قطاع النفط ما لم يتم رفع العقوبات بعد تسوية الخلافات مع أميركا والدول الغربية ومع دول المنطقة.

خبرة إيران بالالتفاف على العقوبات

الخلاصة الثانية هي ترجيح نجاح إيران في ظل الرئيس الإصلاحي بالحفاظ على القدرة الانتاجية الحالية وربما زيادتها بشكل جزئي. وذلك بالاعتماد على قدراتها الذاتية وعلى مساعدة جزئية وخفية من الصين. كما سيكون بإمكانها الحفاظ على صادراتها الحالية في حال واصلت الصين التزامها بشراء النفط الإيراني. وهذا الالتزام يخضع لعاملين، الأول هو «غض نظر» أميركي عن خرق العقوبات. والثاني هو استمرار إيران بمنح حسومات مرتفعة لا تقل عن 20 دولاراً للبرميل عن سعر السوق. على أن يرتفع الحسم أو ينخفض تبعاً لظروف المنافسة مع النفط الروسي.

وهذه الخلاصة تستند إلى حقائق ومعطيات ملموسة. إذ هبطت صادرات إيران النفطية بعد إلغاء الاتفاق النووي إلى الصفر تقريباً. ولكنها تمكنت بعد ذلك ورغم تشديد وتوسيع العقوبات من زيادة إنتاجها وصادراتها تدريجياً لتصل إلى حوالي 1.5 مليون برميل يومياً وهو الحد الأقصى المتناسب مع طاقتها الانتاجية ومع تلبية احتياجات السوق المحلية. ونجحت إيران خلال السنوات الماضية بتطوير بنية أساسية متشابكة ومتكاملة للالتفاف على العقوبات. تشمل هذه البنية تملك وتشغيل أسطول ضخم من سفن الأشباح وشبكة من الشركات في مختلف الدول. وباتت إيران خبيرة في هذا المجال وتقدم المشورة والتدريب لدول كبيرة مثل روسيا.

«أباريق الشاي» الصينية

وتجدر الإشارة هنا إلى بعض المراقبين يتوقعون ان تستجيب الصين لتوجه أميركا نحو تشديد العقوبات على إيران. وهو التوجه الذي ظهر منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة. والمتوقع أن يتعمق ويشتد مع تعثر المفاوضات وإذا فاز ترامب بمنصب الرئاسة. وذلك ما يفسر جزئياً اندفاع المصافي الخاصة المعروفة بـ ” أباريق الشاي” إلى زيادة مشترياتها من شحنات النفط «مجهولة المصدر» خلال الربع الأول من العام الحالي. ووفقا لبيانات شركات تتبع ناقلات النفط مثل كبلر، فقد استجابت الصين فعلاً للضغوط الأميركية. إذ هبطت صادرات النفط الإيرانية من معدل وسطي قدره 850 ألف برميل يومياً خلال شهري مارس وأبريل إلى حوالي 400 ألف برميل في شهر حزيران.

حكي سياسة

إذا كانت علاقة التأثر بين النفط الإيراني والرئيس الإصلاحي لا عظيمة ولا معدومة، بل مرهونة بالسياسة وتشعباتها. فهل يصح اعتبار فوز المرشح الإصلاحي على مرشح المحافظين، بداية تحول في التركيبة السياسية الإيرانية. ما يمهد للتسوية العتيدة مع أميركا ومع دول المنطقة؟ يبدو أن ذلك احتمال وارد بالطبع، ولكنه ضعيف الإسناد.

وصو ل رئيس إصلاحي تم بمباركة المرشد ويشكل رسالة طمأنة للداخل ورسالة تهدئة مع الخارج بمحاولة «لهضم» الانتصارات الإقليمية والتخفيف من التنازلات عندما تزف ساعة التسويات

أما الاحتمال الأقرب للمنطق ولطبيعة السياسة الإيرانية المعقدة والمتشابكة، فهو أن يكون فوز الرئيس الإصلاحي، عملية سياسية مركبة وأشبه ما تكون بـ “ضربة معلم” حمالة أوجه. وجهها الأول يأخذ شكل رسالة أو مناورة داخلية. تستهدف استيعاب الغضب الشعبي المتراكم والمتصاعد بسبب تردي الاوضاع الاقتصادية والمعيشية والحريات. خاصة وان الرئيس قدم خطاباً متقدماً جداً على مستوى التوجهات الاقتصادية والموقف من الحريات. كما تستهدف استدرار تعاطف الأقليات العرقية. فالرئيس بزشكيان هو من خارج المؤسسة الدينية. وينتمي إلى القومية الأذرية وأمه من القومية الكردية. وقد حقق نصراً ساحقاً بنسبة وصلت إلى 80 في المئة في مناطق تلك الأقليات وفي الأطراف.

أما الوجه الثاني فهو رسالة لأميركا، وبخاصة إذا فاز ترامب. ومفادها أن إيران مستعدة للحوار والتسويات. وهو ما يؤمن حالة من الهدوء النسبي أو ضمان عدم التصعيد، خلال الفترة الانتقالية التي تسبق الانتخابات الأميركية. وتمتد عادة للمئة يوم الأولى من عهد الرئيس الجديد. ويفترض ان تسعى إيران خلال هذه الفترة إلى تثبيت تسويات محلية في العراق واليمن ولبنان تضمن هضم بعض المكاسب التي تحققت. او تخفيف حدة التنازلات المطلوبة عندما تزف ساعة التسويات.

كله بأمر المرشد

ويمكن القول في هذا السياق ان فوز بزكشيان لم يكن انتصاراً للإصلاحيين على المحافظين والحرس، بل كان بأمر المرشد ومباركته. وإلا كان تم منعه أصلاً من الترشح عن طريق مجلس صيانة الدستور، كما حصل في العام 2021. وكما حصل مرة ثانية في فبراير الماضي، عند منعه من خوض الانتخابات البرلمانية بسبب «عدم التزامه بمبادئ الثورة». وذلك قبل أن يتدخل خامنئي شخصياً لتغيير القرار.

إقرأ أيضاً: غسيل النفط الروسي: «مصابغ» صينية و«سفن أشباح» إيرانية (1 من 2)

وتجدر الإشارة هنا إلى أنه رغم مواقف الرئيس بزشكيان المتقدمة في القضايا الاقتصادية والعلاقات الخارجية. والعالية السقف في القضايا الاجتماعية والحريات. ورغم أنه من خارج المؤسسة الدينية، إلا أنه يبقى الإبن الوفي للنظام. والأهم من ذلك، أنه الإبن الموثوق والمطواع. والذي لا يلعب أي دور فعلي في الحياة السياسية وخاصة في اختيار خليفة المرشد.

…وكله بأمر أميركا

الكرة الآن في الملعب الأميركي. ويبدو واضحاً أن أميركا لا تريد اللعب. فقد دخلت في «وقت مستقطع» قد يطول إلى ما بعد الانتخابات طبعاً. وذلك ما يفسر الرد البارد بل السلبي لخطوة فوز رئيس إصلاحي بعكس كل التوقعات. فقد أعلنت بإسم المتحدث باسم مجلس الأمن القومي جون كيربي صراحة أنها غير مستعدة لاستئناف المحادثات النووية في ظل الرئيس الجديد. وشرح  المتحدث باسم وزارة الخارجية ماثيو ميلر التنازلات المطلوبة قبل المفاوضات بقوله «لا نتوقع أي تغيير في سياسة إيران في عهد بزشكيان. فالمرشد هو من يتخذ القرارات في القضايا الرئيسية المتعلقة بالبرنامج النووي ووقف تمويل الإرهاب والأنشطة المزعزعة للاستقرار في المنطقة».

ولتبقى الخلاصة النهائية، هي أن التحدي الكبير الذي على الرئيس الإصلاحي مواجتهه ليس تحرير وإصلاح قطاع النفط. بل الحفاظ على الطاقة الانتاجية الحالية وعلى حجم الصادرات. وتلك ليست بالمهمة السهلة في ظل تشديد العقوبات الأميركية. والأخطر في ظل صفقة محتملة بين الصين وأميركا لاستبدال النفط الإيراني الرخيص بالنفط الروسي الأرخص.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى