سؤال متسرع:
هل يكون «إعلان جدة» بيان تأسيسي لـ «آسيان عربية»

أما بعد… أن هدأت العاصفة السياسية التي أثارتها الاختراقات السياسية المهمة لقمة جدة في “لملمة أشلاء الوطن العربي”. هناك سؤال قد يبدو متسرعاً يتعلق بالجانب الاقتصادي والتنموي. وهو هل يصح اعتبار القمة منعطفاً في العمل الاقتصادي العربي لجعله معتمداً على المصالح المشتركة بدل الاعتبارات والولاءات السياسية. ما يجعل «إعلان جدة» أقرب إلى بيان تأسيسي لتكتل عربي شبيه بمنظمة «آسيان»؟

بدون تحميل الأمور أكثر مما لا تحتمل، فإن مؤتمر جدة كان بمثابة نقلة نحو مرحلة جديدة في العمل العربي المشترك تستند إلى ركيزتين؛ الأولى، ترسيخ الانتماء للهوية العربية على قاعدة المصالح المشتركة وليس الشعارات و الاصطفافات السياسية. والثانية «التعامل الواقعي مع الأمر الواقع». وليشكل التعاون الاقتصادي جوهر التوجه الجديد “ورافعة” تحقيقه في آن واحد.

توجه جديد في العمل العربي المشترك، يشكل التعاون الاقتصادي جوهره “ورافعة” تحقيقه في آن واحد

وبهذا المعنى، فالقمة لم تضع حلولاً لأي أزمة من أزمات المنطقة والإقليم، وهو أمر لم يكن متوقعاً أو حتى مطروحاً على أي حال. ولكنها قدمت بالشكل والمضمون نموذجاً في كيفية إدارة الأزمات يمكن أن يمهد لوضع الحلول.

ففي الشكل كان لافتاً النجاح في إدارة الصراعات والتجاذبات الإقليمية والدولية في ملفات متفجرة. ومثال ذلك مشاركة الرئيس السوري في أعمال القمة، معطوفاً على تجميد الصراع مع إيران وتعميق التفاهمات مع الصين وروسيا في ظل معارضة علنية من أميركا وبعض الدول الغربية. واستضافة الرئيس الأوكراني لامتصاص العتب او الغضب الأميركي وإيصال رسالة واضحة للصين وروسيا وإيران، بشأن «التعامل بواقعية مع الأمر الواقع». وينطبق هذا «الأمر الواقع» على الصراعات أو الخلافات بوجهات النظر بين الدول العربية نفسها.

وهم الضمانات الدولية، والفتن المذهبية

قد يقول قائل ان كل ذلك كان مجرد تغطية للخلافات من قبل السعودية بهدف إنجاح القمة وتعزيز أجواء التهدئة مع إيران ما يسمح لها بالانصراف لتنفيذ برامجها التنموية الطموحة. وذلك كلام صحيح ولكنه نصف الحقيقة. فالنصف الآخر هو أن غالبية الدول العربية والقوى السياسية فيها وقبلهم إيران، باتوا على قناعة بضرورة تجميد الصراعات ووضعها على سكة الحلول. خاصة بعد أن تأكد الجميع أن أن الركون إلى دعم القوى الكبرى سواء كانت أميركا أم الصين هو مجرد وهم. والاعتداءات بالصواريخ والمسيرات على منشآت أرامكو كانت خير دليل. كما تأكدت إيران بالمقابل ان إحكام السيطرة والنفوذ من خلال الفتن المذهبية والعرقية والسلاح هو الوهم الأكبر.

اتقوا الله في دماء شعوبكم وأرزاقها، قبل ان يكفروا بكم هم والدول الداعمة لكم

والتسويات تبدأ باعتماد سياسة «التعامل الواقعي مع الأمر الواقع» والبدء ببلورة حلول واقعية بين دول المنطقة وتنفيذها بالتدريج وفقا مبدأ خطوة مقابل خطوة، بدون انتظار مباركة وموافقة الدول الكبرى سواء كانت في المحور الأميركي أو الصيني. فهذه الدول لا تبلور تسويات وحلول إلا وفق مصالحها. وذلك ينطبق على القوى السياسية في الدول المأزومة من اليمن إلى لبنان. وبالمناسبة هل يصدق عاقل ان انتخاب رئيس الجمهورية اللبنانية يتطلب قراراً بالإجماع من قادة مجموعة الدول السبع يزكيه قرار مماثل من مجموعة العشرين ومباركة بالإجماع من الجمعية العامة للأمم المتحدة. تواضعوا بربكم، واتقوا لله في دماء شعوبكم وأرزاقها، قبل ان يكفروا بكم هم وحتى الدول الداعمة لكم.

قراءة في بيان جدة

… وقد يقول قائل آخر هذا مجرد “كلام طوباوي ورومنطيقي”، وذلك صحيح ولكنه نص ربع الحقيقة. وبمعزل عن الأقوال والقائلين، فالقول اليقين يمكن قراءته في «إعلان جدة». وأول ما يلفت في البيان هو اللغة غير المعهودة في بيانات الجامعة العربية وقرارات القمم. والتي اتسمت بوضوح الربط بين المقدمات والخيارات والتوجهات ويتضح ذلك من الفقرات الثلاثة الأولى التي مهدت لطرح الخيارات ونقرأ فيها ما يلي:

الفقرة الأولى: نصت على نهائية الهوية العربية، وذلك من خلال ثلاثة ثوابت هي: “تعزيز العمل العربي المشترك”، الاستناد إلى “القيم والمصالح المشتركة والمصير الواحد” والثالثة، “حماية سيادة دولنا وتماسك مؤسساتها”.

الفقرة الثانية: حددت خريطة الطريق، وتتضمن محطتين الأولى؛ «تعزيز الشراكات والتفاهمات على أساس المصالح المشتركة»، والثانية “تحقيق التنمية المستدامة وتنفيذ الرؤى التنموية الطموحة”.

الفقرة الثالثة: رسمت الثوابت وأهمها ان  «يكون المواطن العربي ركناً متيناً في الاستقرار والبناء». وأن «الأمن هو مفتاح الاستقرار».

خريطة الطريق؛ «تعزيز الشراكات والتفاهمات»، و”وتنفيذ الرؤى التنموية الطموحة”

وتمت ترجمة هذه الخيارات والمقدمات في بنود البيان الـ 11. ولا شك ان أبرزها كان البند الأول المتعلق بالتأكيد على مركزية القضية الفلسطينية كعامل رئيسي للاستقرار في المنطقة، وعلى تحقيق السلام من خلال حل الدولتين بإقامة دولة فلسطين كاملة السيادة ضمن حدود العام 1967. إضافة إلى البند السادس المتعلق «بوقف التدخلات الخارجية في الشؤون الداخلية للدول العربية والرفض التام لدعم تشكيل الجماعات والميليشيات المسلحة الخارجة عن نطاق مؤسسات الدولة».

المصالح بدل الولاءات

والاستثمارات بدل الإعانات

أبرز ما يميز المقاربة الاقتصادية، هو ترسيخ مبدأ التعاون المستند إلى المصالح المشتركة والاستثمارات، وإلى تحقيق منافع واضحة لكل الدول والأطراف بما فيها القطاع الخاص. وهي مناقضة للمقاربة التي سادت خلال العقود الماضية التي اعتمدت مبدأ العون الإنمائي. أي تقديم دول الخليج الغنية القروض والمساعدات لبقية الدول العربية مباشرة أو من خلال صناديق التنمية الوطنية والعربية. وهي مقاربة اثبتت عقمها لأنه غلب عليها الاعتبارات والولاءات السياسية في توزيع القروض على الدول لتثبيت أنظمة الحكم فيها. وذهب جزء كبير من هذه الأموال في مزاريب الفساد أو الهدر في مشاريع غير مجدية أو غير ذات اولوية.

ويتظهر التعامل الواقعي، في وضع أهداف ومشروعات قابلة للتحقيق وذات أولوية في مجال التنمية والاستقرار، ومتوافقة مع التوجهات الاقتصادية والاستثمارية الدولية. فيلاحظ ان حزمة المبادرات الاقتصادية ركزت على الأمن الغذائي والمائي وسلاسل الإمداد، والبيئة والاقتصاد الأخضر.

ففي مجال الأمن الغذائي أعلن وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان أن بلاده «تعتمد فكراً اقتصادياً حديثاً لتحقيق الأمن الغذائي العربي من خلال تطوير الإنتاج وسلاسل الإمدادات». أما وسيلة تحقيق هذا الهدف فحددت باعتماد مجموعة من الأنشطة وتوفير فرص استثمارية مجدية اقتصاديا وماليا. وتم رفد هذا التوجه بإعلان وزير المالية السعودي محمد الجدعان خلال اجتماع المجلس الاقتصادي والاجتماعي التحضيري للقمة عن إطلاق حزمة تمويلية بقيمة 10 مليارات دولار لتعزيز الأمن الغذائي العربي.

مشاريع لتحلية المياه بدل هدر الموارد على مشاريع سدود على «جدول لا ماء فيه»

وتنطبق هذه المقاربة على الأمن المائي والذي يعتبر الأكثر خطورة على الاستقرار السياسي والأمني في المنطقة. حيث تم إطلاق مبادرة تقوم أيضاً على خلق فرص استثمارية تنقل هذا النشاط من إطار الشعارات ومشاريع الهدر لإقامة السدود على «جدول لا ماء فيه» إلى إطار مشاريع مجدية اقتصاديا ومالياً وبيئياً لتحلية مياه البحر ولخلق صناعة استراتيجية للدول العربية. وهناك شركات عربية بمستوى دولي في هذا المجال مثل شركة أكوا باور مثلا التي تتجاوز قيمة محفظة استثماراتها 60 مليار دولار.

الاقتصاد الأخضر

استكمل هذا التوجه بطرح بدعم جهود السعودية في مبادرة الثقافة والمستقبل الأخضر الهادفة إلى «رفع مستوى الالتزام تجاه أهداف التنمية المستدامة والممارسات الصديقة للبيئة». ومعروف ان تطوير الطاقة النظيفة ومواجهة التغير المناخي، هو مجال الاستثمارات المستقبلية في العالم وفي المنطقة. ويشكل بالتالي ميداناً رحباً لمئات الفرص الاستثمارية المجدية في مجالات طاقة الشمس والرياح، والهيدروجين بكافة ألوانه. وهي مشاريع ترسخ العمل العربي المشترك. وتجد أساساً صلباً لها في عدة مبادرات “الشرق الأوسط الأخضر”، التي أطلقتها السعودية بالشراكة مع دول مجلس التعاون لزراعة 40 مليار شجرة تُضاف إلى 10 مليارات شجرة في السعودية.

وإذا كانت السعودية استطاعت إدارة القمة وفقاً لتوجهاتها استناداً إلى مكانتها وإلى كونها الدول المضيفة، فإن تحقيق هذه النقلة في العمل العربي المشترك او تعثرها، يبقى خاضعاً لاعتبارات ومتغيرات لا يمكن التحكم بها.

زر الذهاب إلى الأعلى