الخليج وأميركا: اختزال العلاقة «بالتريليونات» تبسيط خاطئ للتحولات والشراكات

كيف يُفسَّر التركيز على البُعد المالي والتعهدات التريليونية لجولة الوفد الأميركي على دول الخليج؟ ولماذا يُصوَّر ذلك وكأنه إحياء لمعادلة «شراء الأمن بأموال النفط»؟ والتغاضي عن مؤشرات ومعطيات واضحة بأنه تأسيس لمرحلة شراكات استراتيجية بين الخليج وأميركا.
ويعد هذا التركيز، تبسيطاً خاطئاً، و«قراءة كسولة بكتاب التاريخ» لتطورات الحاضر السياسية والاقتصادية، والتحولات في التوازنات الإقليمية والدولية. فأميركا اليوم لا قادرة ولا راغبة في توفير الحماية لأحد. ودول الخليج ليست ضعيفة وفقيرة ومعزولة، بل قوة اقتصادية وجيوسياسية صاعدة إقليمياً ودولياً.
إقرأ أيضا: أميركا والخليج: من الحماية إلى الشراكة الاستراتيجية
وتوخياً لتحديد الفارق الكبير بين دفع المال «لشراء الود السياسي والحماية»، وبين ضخ الاستثمارات لبناء الشراكات، تجدر الإجابة على سؤالين:
الأول، هل «الأرقام التريليونية» المعلنة والتي تم التركيز عليها، هي التزامات مالية مستحقة الدفع. أم تعهدات مبدئية بضخ استثمارات مباشرة وغير مباشرة على مدى عدة سنوات؟ وهل التوجه للاستثمار الكثيف في أميركا يقتصر على دول الخليج، أم يشمل دولاً كبرى مثل اليابان وألمانيا وكندا… وحتى الصين؟
والسؤال الثاني، هل هذه الاستثمارات هي باتجاه واحد من الخليج إلى أميركا، أم هي بالاتجاهين؟
تفاهمات واستثمارات لا دفعات مباشرة
يُظهر التدقيق في طبيعة الاتفاقيات ومذكرات التفاهم الموقعة بين دول الخليج وأميركا، أن أغلب التعهدات المعلنة تتعلق باستثمارات متبادلة. ويُستثنى منها الالتزامات الخاصة بصفقات روتينية لشراء الأسلحة والطائرات المدنية التجارية. ومعروف أن هذا النوع من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم لا تُعدّ اتفاقيات تنفيذية مباشرة، بل تمثل خطوة أولى على مسار طويل لإقامة المشاريع وتأسيس شراكات طويلة الأجل في قطاعات إستراتيجية كالدفاع، الطاقة، التكنولوجيا، والصناعة. وهي تُوقّع غالباً خلال القمم الرئاسية أو المنتديات الاستثمارية لتعكس إرادة سياسية متبادلة، وتُطلق مسارات التعاون. على أن يليها تثبيت آليات الدراسة والتقييم والتخطيط التنفيذي لتحويل التعهدات إلى مشاريع ملموسة. وهو ما يؤكد أن الزيارة والتعهدات الناجمة عنها تمثّل تأسيساً لشراكة استراتيجية، وليس التزامات مالية.
وتجدر الإشارة هنا إلى ضرورة عدم تغييب البعد السياسي أو «الدعائي»، لتجميع الأرقام بهذه الطريقة من قبل الإدارة الأميركية. ربما لإعطاء إشارة قوية لثقة المستثمرين العالميين ببيئة الاستثمار في أميركا. وربما لاستخدامها كأداة سياسية لإبراز نجاح السياسات الاقتصادية لهذه الإدارة.
استثمارات متبادلة
خلافاً لما يُروَّج ولِما ترسّخ في الأذهان، فإن الاتفاقيات ومذكرات التفاهم الموقعة تشمل طيفاً واسعاً من الاستثمارات المشتركة، في كلا الاتجاهين، بمشاركة صناديق سيادية وشركات أميركية كبرى. ففي مقابل التعهدات بضخ استثمارات خليجية ضخمة في مشاريع داخل الولايات المتحدة، كان هناك تعهدات مماثلة بضخ استثمارات أميركية في السعودية والإمارات وقطر. وفي مجالات حساسة مثل التكنولوجيا المتقدمة ومراكز البيانات، والطاقة والتصنيع.
ويُوضح التدقيق في الاتفاقيات ومذكرات التفاهم وجود نشاط استثماري أميركي ـ خليجي موجه إلى دول الخليج في تلك المجالات الحساسة، ما يعكس تحوّل المنطقة إلى مركز إقليمي للتقنيات المتقدمة والطاقة المتكاملة.
وتقود هذا النشاط شركات مثل “هيوماين” السعودية لتطوير البنية التحتية الرقمية في المملكة. وتشارك فيها شركات أميركية كبرى مثل “إنفيديا” و”إيه إم دي” و”كوالكوم”. وينطبق ذلك على الإمارات، حيث تم الإعلان عن مشروع ضخم مع “أمازون ويب سيرفيسز” لتطوير منصة سحابية وطنية، يُتوقع أن تُضيف 181 مليار دولار للاقتصاد الرقمي.
يُضاف إلى ذلك المشاريع الضخمة التي تقودها شركتا “أرامكو” و”أدنوك” لإقامة مشاريع استثمارية مشتركة في أميركا وفي السعودية والإمارات بالشراكة مع شركات كبرى مثل “إكسون موبيل” و”أوكسيدنتال”. وتشمل هذه الاتفاقيات مجالات الطاقة التقليدية، تكنولوجيا احتجاز الكربون، الذكاء الاصطناعي في مجال التصنيع، البتروكيميائيات، وحلول الطاقة منخفضة الانبعاثات، إضافة إلى تطوير مشاريع الطاقة النووية في السعودية.
توجه دولي تقوده اليابان وألمانيا
ما يلفت النظر أن هذا التوجه للاستثمار في أميركا لا يقتصر على دول الخليج. فاليابان، على سبيل المثال، تعهدت بضخ نحو تريليون دولار كاستثمارات في السوق الأميركية. ومن أبرز المشاريع المعلنة مشروع “ستارغيت” للبنية التحتية للذكاء الاصطناعي بقيمة 500 مليار دولار. كما أعلنت شركات ألمانية مثل “سيمنز” عن مشاريع تصنيع ومراكز بيانات بمئات ملايين الدولارات في الأراضي الأميركية.
وذلك يُوضح أن الاستثمار في الولايات المتحدة هو توجه عالمي لا يقتصر على دول الخليج، وهو توجه مرتبط بسياسات «الأمركة» و شعار «أميركا أولاً»، ويهدف إلى جذب الاستثمارات الأجنبية وإعادة توطين الشركات الأميركية في أميركا.
تحوّلات وشراكات
بناءً على ما سبق، لا يصح اختزال زيارة الرئيس الأميركي إلى الخليج بكونها مجرد صفقات تجارية أو مالية. بل تجدر قراءتها في سياق التغيرات والتحولات الحاصلة دولياً وإقليمياً، والتدقيق أكثر في كونها خطوة مفصلية على طريق الانتقال من منطق الرعاية والحماية إلى مرحلة الشراكة التي تقوم على المصالح المتبادلة والاستثمارات الاستراتيجية.
وهذه القراءة لا بد أن تأخذ بالاعتبار متغيرين رئيسيين: الأول هو صعود دول الخليج كقوى اقتصادية وسياسية مستقلة باتت تمتلك خياراتها وتفرض أولوياتها على طاولة الشراكة مع أميركا كما مع الصين وروسيا وغيرها من الدول. والمتغير الثاني هو انتهاء مرحلة العولمة التي ارتكزت على نظام أحادي القطب بقيادة الولايات المتحدة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. لتحلّ محلها عولمة جديدة تُعيد رسم النظام العالمي وفقاً لمنطق الأمن القومي الأميركي وشعار «أميركا أولاً».
وهذا الواقع الجديد يفرض بالضرورة إقامة شراكات متعددة المستويات تشمل الاقتصاد، والأمن، والتكنولوجيا، وتعكس توازنات القوى المتغيرة في النظام العالمي.