الطاقة المستدامة و «مستقبل النفط»

في عقد السبعينات من القرن الماضي واجه العالم أزمتين نفطيتين: الأولى في العام 1973 بسبب الحرب العربية – الإسرائيلية وقرار الولايات المتحدة في حينه تقديم مساعدات طارئة لإسرائيل بقيمة 2.2 مليار دولار. وهو ما دفع دول منظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول، إلى وقف إمدادات النفط إلى الولايات المتحدة وتخفيض الإنتاج بشكل عام. ما أدى إلى ارتفاع سعر النفط بأربعة أضعاف.

أما الأزمة الثانية التي عُرفت “بصدمة النفط” فجاءت في العام 1979 بعد الثورة الإيرانية وانخفاض إنتاج النفط العالمي. بحيث قفز السعر مرة أخرى بشكل حاد ليقارب 40 دولاراً للبرميل مقابل أقل من 3 دولارات في مطلع السبعينات.

ذروة إنتاج النفط

في ظل الأزمة الثانية صدر في الولايات المتحدة كتاب بعنوان “مستقبل النفط” (The Future of Oil)، تضمن دراسة متعمقة لاحتياطيات النفط والغاز العالمية في حينه وتوقعات لارتفاعها تدريجياً مع استمرار عمليات البحث والتطوير في مختلف أنحاء العالم. وتطوير تكنولوجيا الاستكشاف والاستخراج. وخلص الكتاب بعد تحليل ومحاكاة معقدة لتوقعات نمو الطلب العالمي على النفط واستكشاف لمصادر جديدة للنفط في مختلف أنحاء العالم، إلى توقعات مطمئنة بأن نمو إنتاج النفط على النطاق العالمي سيستمر حتى العام 2033 باحتمالية 50 في المئة وثم باحتمالية 10 في المئة حتى العام 2072، حيث سيصل إلى حده الأقصى. علماً أن هذه التوقعات أرفقت بتحذير من المخاطر الجيوسياسية في العديد من الدول المنتجة. والتوجه نحو التحكم بنشاط الشركات العالمية التي تقوم بعمليات الاستكشاف والتطوير.

توقع كتاب “مستقبل النفط” الصادر في السبعينات وصول إنتاج النفط  إلى الذروة في 2033

تاريخ طويل مضى على صدور هذا الكتاب الذي إعتبر هاماً عند صدوره، حصلت بعده تحولات كبيرة في صناعة النفط سواء من حيث هيكلية وتكنولوجيا الاستكشاف والإنتاج أو ملكية موارد النفط ودخول دول أخرى في نادي الإنتاج والتصدير. إضافة إلى التزايد الكبير في أهمية الغاز الطبيعي وتنامي الاستهلاك العالمي للطاقة. حيث قدرت وكالة الطاقة العالمية أن 90 في المئة من النمو في استهلاك الطاقة في العام 2023 سيكون في الصين والدول النامية غير الأعضاء في منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي (OECD).

الطاقة الأحفورية والمناخ

وفي مقابل ذلك برز متغير جديد هو التطورات المتسارعة في التحول نحو تكنولوجيات الطاقة المستدامة، الهوائية والشمسية وغيرها. والتي تأتي على وقع مخاوف ارتفاع حرارة الكرة الأرضية وذوبان الجليد في قطبي الأرض والتصحر وحرائق الغابات وتلوث الهواء وتوقعات العديد من العلماء بأن طبيعة الأرض قد تتغير نحو الأسوأ في العقود المقبلة وقد تهدد الإنسانية بمخاطر لم تُعرف من قبل.

الطاقة المستدامة هدف المستقبل

بالإضافة إلى ما سبق ذكره، فإن التطورات الحاصلة تأتي في سياق توجه عالمي بالتحول عن الوقود الأحفوري نحو الطاقة المستدامة النظيفة. ويلاحظ في هذا السياق إعلان الدول الأوروبية مضاعفة إنتاج الكهرباء من الطاقة المستدامة خلال الفترة من 2022 إلى 2027، مدفوعة بضرورات تخفيض الاعتماد على النفط والغاز المستورد. وبضرورة العمل السريع لدرء مخاطر التحولات المناخية والبيئية.

وتسهم السياسات المطبقة في أميركا والصين والهند، في إطلاق مشاريع ضخمة للطاقة المستدامة. تشمل على سبيل المثال مشاريع بقيمة 25 مليار دولار في صناعة وتجهيز الواح الطاقة الشمسية. علماً أن حصة الصين من هذه الصناعة تصل حالياً إلى نحو 90 في المئة عالمياً ستنخفض إلى 75 في المئة في العام 2027 بحسب التوقعات الأخيرة مع تطور هذه الصناعة في العديد من الدول الأخرى.

دول الخليج النفطية، تتصدر الجهود الدولية لتطوير الطاقة المستدامة

دول الخليج في الطليعة

اللافت في هذا التوجه، هو الدور الكبير الذي تلعبه دول الخليج العربي، رغم موقعها العالمي في إنتاج الوقود الأحفوري. حيث تم إطلاق وتنفيذ العديد من مشاريع الطاقة المستدامة العملاقة. وبناء على المشاريع قيد التنفيذ، فإنه من المتوقع أن تضيف دول مجلس التعاون الست 40 جيغاواط من الطاقة الشمسية بحلول العام 2030.

ومن المشاريع المهمة نذكر على سبيل المثال، مجمع محمد بن راشد للطاقة في دبي بطاقة 5 آلاف ميغاواط ومشروعين في أبوظبي بطاقة 3500 ميغاواط. علماً أن دولة الإمارات بمجملها تهدف إلى جعل تركيب الألواح الشمسية إجبارياً في جميع الأبنية مع حلول العام 2030. ويشكل ذلك حافزاً كبيراً لصناعة هذه الألواح في الإمارات.

أما المملكة العربية السعودية، فهي تهدف إلى إضافة 10 جيغاواط من الطاقة الشمسية مع حلول العام 2027، وذلك ضمن مخطط أوسع يهدف إلى رفع إنتاج الطاقة المستدامة بنحو 58.7 جيغاواط حتى العام 2030، فيما كان الهدف السابق إنتاج 9.5 جيغاواط حتى العام 2023.

وستشكل الطاقة الشمسية نحو 68 في المئة من الطاقة المستدامة حتى العام 2030. ومن أجل تحقيق هذه الأهداف، أطلقت المملكة مشروعين للطاقة الشمسية بمشاركة القطاع الخاص. الأول بطاقة 1.5 جيغاواط والثاني بطاقة 2.06 جيغاواط، ليكون الأكبر في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

وفي قطر وسلطنة عُمان، تخطط الأولى لأن توفر الطاقة الشمسية 20 في المئة من احتياجاتها للطاقة مع حلول العام 2030. وقد أطلقت في العام 2022 مشروع إنشاء محطة كهرباء مستقلة من الطاقة الشمسية لإنتاج 800 ميغاوات، بحيث تمتد الألواح الشمسية على مساحة 10 كلم2. أما سلطنة عُمان فقد بدأت إنتاج الطاقة النظيفة في العام 2022 من محطة بطاقة 500 ميغاوات.

الملاذ الأخير: الاندماج النووي والهيدروجين

جميع هذه المشاريع وغيرها المخططة والمتوقعة في مختلف أنحاء العالم تؤشر دون شك إلى حقبة جديدة في عصر الطاقة. ولعل القفزة الكبيرة في هذا المجال ستأتي عند النجاح في تطوير انتاج الطاقة من خلال تقنية الاندماج النووي أو ما يعرف بالـ Fusion والتي تتركز الأبحاث التطبيقية عليها الآن. لكن واقع الأمر هو أن الأبحاث لتطوير هذا النوع الهائل من الطاقة بدأت في الخمسينات من القرن الماضي ولا يتوقع العلماء اليوم بأن تصبح قابلة للتطبيق في إنتاج الكهرباء على نطاق واسع قبل منتصف القرن الحالي. علماً أن هناك مجموعة من العلماء من 35 دولة تعمل على بناء وتطوير أكبر مفاعل تجريبي في فرنسا هو مشروع إيتير ETER. ومع اكتمال هذه التكنولوجيا والبدء ببناء المفاعلات التجارية، فإن هذه الطاقة ستكون طاقة المستقبل مع حلول العام 2050 على أبعد تقدير. بحيث أنها ستصبح تدريجياً طاقة ما بعد الطاقة الأحفورية، آخذاً بالاعتبار أنه تكلفة بناء مفاعلات الاندماج  النووي ستكون باهظة بالرغم من أنها ستكون طاقة مستدامة بكل معنى الكلمة.

يبقى الهيدروجين حتى الآن هو المصدر الموثوق لتوفير الوقود للقطاعات ذات الاستخدام الكثيف للطاقة

كما يبرز الهيدروجين كمصدر آخر للطاقة النظيفة كمصدر للوقود في المجالات ذات الاستخدام الكثيف للطاقة، والتي لا يمكنها الاعتماد على الطاقة الكهربائية. فهل يمكن القول أن النصف الثاني من هذا القرن سيشهد تراجعاً كبيراً في دور الطاقة الأحفورية كمصدر أساسي للطاقة في الدول الصناعية أولاً وفي بقية دول العالم بعد ذلك. ولعله يجب النظر اليوم إلى “مستقبل النفط” من هذه الزاوية بغض النظر عن مدى كفاية الاحتياطي العالمي المتبقي من النفط والغاز الطبيعي.

في تاريخها الطويل شهدت الأرض أزمات مناخية هائلة قضت على حضارات عريقة وعلى الملايين من سكانها وغيرت من ملامح الطبيعة. وتطلب التكيف مع آثارها المدمرة مئات السنوات. وكما يقول العديد من علماء الطبيعة، فإن الاحترار المناخي هو من الأزمات المصيرية التي تواجهنا اليوم، التي يزيد من خطورتها النمو السكاني. وقد يكون التحول السريع نحو الطاقة المستدامة من الخطوات الملحة لاستدراك الأمور.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى