النفط في سوريا: النموذج العراقي أم الليبي… أو النرويجي ؟

يعتبر قطاع النفط في سوريا من أكثر الملفات صعوبة وتعقيداً التي تواجه الحكم الجديد، ومن ورائه القوى الإقليمية والدولية الداعمة والمعادية. فغالبية حقول النفط البرية تخضع حالياً لقوى الأمر الواقع. إذ تسيطر قوات سورية الديمقراطية «قسد» على غالبية الحقول وبخاصة أكبر 3 حقول. في حين تسيطر إيران وروسيا على بقية الحقول.

ولا شك ان حل معضلة حقول النفط يتوقف على طبيعة الحل السياسي والتسوية الإقليمية الكبرى. التي سيتقرر في ضوئها استعادة سوريا لوحدة أراضيها تحت حكم مركزي ديمقراطي فيكون النفط السوري نسخة عن النموذج النرويجي. أو تذهب نحو الفدرلة فتتم محاكاة نموذج إقليم كردستان العراق. أو تذهب إلى الفوضى فيكون مصير النفط السوري نسخة عن مصير النفط الليبي.

تجدر الإشارة بداية إلى أن سوريا كانت قبل العام 2011، تنتج نحو 383 ألف برميل يومياً من النفط ما جعلها مصدراً صافياً للنفط باعتبار أن حاجة السوق المحلية كانت بحدود 100 ألف برميل يومياً. ويتم تأمين المحروقات للسوق المحلية من خلال مصفاتين للنفط. الأولى في حمص بطاقة 107 الآف برميل يومياً، والثانية في بانياس بطاقة 120 ألف برميل. وكانت شركة «شل» وشركة «توتال إنرجيز» أكثر الشركات نشاطاً.

مواقع آبار النفط في سوريا

مرحلة «داعش» و«قسد»

تراجع الانتاج ليصل إلى حوالي 40 ألف برميل في العام 2015، حين سيطرت داعش على المنطقة. والتي كانت تقوم بتهريب الانتاج إلى الدول المجاورة وتجني حوالي 500 مليون دولار سنوياً. ما جعلها أغنى منظمة إرهابية في العالم، كما ذكر تقرير اصدرته  S&P Global Commodity Insights

لكن الانتاج عاود الارتفاع بعد أندحار داعش ليصل في العام 2023، إلى ما بين 100 و 150 ألف برميل يومياً وفقاً لتقديرات إدارة معلومات الطاقة الأميركية ومعهد الطاقة. كما كانت سوريا تنتج حوالي 8.7 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي في العام 2011. ثم تراجع الإنتاج إلى حوالي 3 مليارات متر مكعب في 2023، وفقًا لتقديرات شركة «بي بي» ومعهد الطاقة.

ومع هزيمة داعش، وضعت قوات سوريا الديمقراطية يدها على معظم حقول النفط. وسيطرت على أكبر 3 حقول وهي: السويدية، رميلان، العمر. إضافة إلى نحو 11 حقلاً في محافظتي الحسكة ودير الزور. في حين توزعت الحقول الباقية بين الشركات الروسية والإيرانية.

مشكلة الحقول الروسية

ويبدو واضحاً ان الحقول التي تسيطر عليها «قسد» ستبقى في وضع التشغيل والإنتاج وحتى التصدير من قبل الشركات الأجنبية. وبدعم سياسي وعسكري أيضاً من قبل الولايات المتحدة الأميركية. وذلك بانتظار جلاء الصورة في سوريا. فإما تستعيد السلطة المركزية سيطرتها على كامل الأراضي السورية والموارد الطبيعية. وإما يتم تقاسم الأراضي والموارد بين قوى الأمر الواقع ورعاتهم الإقليميين والدوليين.

أما حقول النفط والغاز الواقعة تحت السيطرة الروسية، فيرجح أن تواصل الإنتاج تحت حماية الجيش الروسي الذي تولى هذه المهمة بشكل مباشر في العام 2018 بعد إزاحة شركة «إيفرو بوليس» التي كان يسيطر عليها يفغيني بريغوجين رئيس «فاغنر». وكانت تتقاضى مقابل توفير الحماية نسبة 25 في المئة من الانتاج خاصة في حقول «إيبلا». ولكن هذه الحقول ستكون بالطبع قيد المراجعة الفورية عقب انتظام الحكم الجديد. مع ترجيح إعادة هيكلة الحقوق في هذه الحقول لضمان حصة للشركات المرتبطة بروسيا.  فمعروف مثلاً ان شركة «صنكور إنرجي» الكندية تمتلك أصولاً رئيسية في مشروع «إيبلا» الواقع في حوض الغاز السوري الأوسط والذي تبلغ مساحته نحو 1251 كيلومتراً مربعاً. وقد علقت الشركة نشاطها في سوريا في العام 2011. وينطبق ذلك على مجموعة «غلف ساندز بتروليوم» البريطانية التي تمتلك أصولاً مهمة في «المربع 26» شمال شرقي سوريا. وأعلنت الشركة أن مرافق الإنتاج في «حالة جيدة وملائمة لإعادة التشغيل فور رفع العقوبات».

 … ومعضلة الحقول الإيرانية

يرجح أن تكون مراجعة العقود الموقعة مع شركات إيرانية، في مقدمة أولويات الحكم الجديد. ولكن إلغاء تلك العقود لن يكون مهمة سهلة. وقد يتطلب الأمر انتظار جلاء صورة التوازنات وحدود النفوذ والمصالح للقوى الإقليمية بعد التسوية المرتقبة. وسيتوقف مصير هذه العقود على قبول إيران بالحدود المرسومة لها من قبل أميركا. فإما يتم إعطاء الشركات الإيرانية حصة معينة ضمن كونسورتيوم من الشركات الأجنبية وربما الروسية. وإما يتم استبعادها بالكامل. وفي كلتا الحالتين سيكون هناك معضلة قانونية لأن العقود المبرمة مع شركات إيرانية هي عبارة عن اتفاقيات دولية صادرة بقوانين رئاسية بعد مصادقة مجلس الشعب عليها.

ونسوق مثالاً على ذلك في البلوكين 21 و 12 في حمص والبوكمال اللذين تم توقيع اتفاقيات بشأنهما في العام 2020. فالبلوك 21، تقدر مساحته بحوالي 3200 كيلومتر مربع. وتم توقيع عقد تلزيمه للشركة الهندسية الإيرانية للدراسات والمراقبة (بترو تدبير). وصادق عليه مجلس الشعب السوري في فبراير 2020. وتصل مدة العقد إلى 30 عاماً. وبوشرالإنتاج في حقلي خشابية 1، و توينان، بعد ثلاثة أشهر فقط من تحويل الملكية. وبلغ الانتاج  بين أغسطس 2020 ومارس 2023، حوالي 65 ألف برميل يومياً، وكان العمل يجري لترميم ثلاثة حقول أخرى بحماية حوالي 3 آلاف  عنصر من الحرس الثوري والميليشيات الإيرانية.

وأبرز ما ينص عليه العقد، أن تستثمر الشركة الإيرانية ما لا يقل عن 300 مليون دولار لتطوير الحقول خلال 5 سنوات. مقابل ان يخصص الجزء الأكبر من حصة سوريا في الإنتاج لتسديد  3.4 مليار دولار من الديون المستحقة لإيران.

أما البلوك 12، فتبلغ مساحته حوالي 6 الآف كيلومتر مربع، وتم تلزيم حوالي 1000 كلم مربع منه في منطقة البوكمال لشركة خاتم الأنبياء المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني. وجاء ذلك كتعويض عن سيطرة الشركات الروسية على المناطق الغنية بالنفط من هذا البلوك. وقد صادق مجلس الشعب على الاتفاقية في 10 يونيو 2020. ورغم حساسية الموقع الجغرافي قرب معبر القائم على الحدود العراقية وقاعدة التنف الأميركية، فقد استكملت عمليات التجهيز وبوشر الإنتاج في سبتمبر 2023، واستمر بشكل متقطع ومتعثر بسبب الأعمال العسكرية.

بين حقل إيران وبيدر أميركا

يبدو واضحاً أن إيران أعدت العدة لاحتمال تغير النظام في سوريا، وسعت إلى تحصين «استثماراتها» السياسية والاقتصادية والعقارية وحتى المذهبية. والأمثلة لا تحصى على ذلك. ولكن من المؤشرات ذات الدلالة في سياق الحديث عن النفط، هي البنود الواردة في العقود التي تربطها بالديون المستحقة لإيران على سوريا. ويجدر التذكير هنا بالتساؤلات التي أثيرت حول الوثيقة المصنفة «سرية جدا» التي نشرت في أغسطس 2023. والتي تبين لاحقاً انه تم تسريبها عمداً من قبل الرئاسة الإيرانية. وهي تتعلق باعتبار مبلغ الـ50 مليار دولار الذي تدعي إيران أنها انفقته على الحرب في سوريا، بمثابة «ديون» على الدولة السورية. مشددة على ضرورة مواصلة الجهود لتسديدها على شكل استثمارات في مختلف القطاعات وبخاصة في قطاع الموارد الطبيعية مثل الفوسفات والنفط وغيرها.

وليبقى السؤال؛ هل تقبل إيران بالتسوية المعروضة عليها، فتتطابق حسابات حقلها مع حسابات بيدر أميركا، أم تواصل الرفض فتخسر الحقل والبيدر؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: