بعد فشل التنقيب في قبرص ومصر: لا غاز.. أم لا قرار بالاستثمار




شهدت الأشهر الأولى من عام 2025 نشاطاً مكثفاً للاستكشاف والتنقيب في قبرص ومصر. ولكن سرعان ما غادرت سفن الحفر دون تحقيق نتائج تُذكر رغم التوقعات المتفائلة جداً. وهو ما يبرر إعادة طرح السؤال: لا يوجد غاز فعلاً، أم لا يوجد قرار بالاستثمار، في ظل الخلافات على الحدود البحرية والتوترات المرتبطة بها، وذلك بانتظار إما تفاقم الخلافات أو حصول التسويات.

التنقيب في قبرص: توقعات متفائلة وحقائق صادمة

نبدأ من قبرص، حيث ترافق الإعلان عن عزم شركة «إكسون موبيل» مباشرة حفر بئر «إلكترا» في البلوك رقم 5، بموجة مستغربة من التوقعات المتفائلة. وضجّت وسائل الإعلام طوال الأشهر الثلاثة الماضية، بأخبار وتحليلات عن وجود كميات شبه مؤكدة تقارب 30 تريليون قدم مكعب. ما يجعل هذا الحقل الموعود مساوياً لأكبر حقل في المتوسط، وهو حقل ظهر المصري.

إقرأ أيضاً: حقل ضخم للغاز في قبرص:هل يفتح باب تسوية النزاعات؟

أما الحقيقة التي لم تُعلن بشكل رسمي حتى كتابة هذه السطور، فقد بدأت تتضح في تسريبات إعلامية قادتها نشرة «ميس» التي تصدر من قبرص والمقرّبة من السلطات القبرصية. وتتمثل تلك الحقيقة بأنه لم يتم اكتشاف رواسب غاز قابلة للاستغلال. وأن المكمن الذي اكتُشف على عمق نحو 6500 متر تحت سطح البحر، لا يحتوي كميات كافية من الغاز. ورغم مواصلة الحفر حتى عمق 6800 متر، وهو رقم قياسي. فيبدو أن الوضع لم يتغير.

وكانت شركة «إكسون» قد أعلنت وقف العمل «مؤقتاً لتأمين البئر». ربما لتخفيف صدمة الإعلان عن عدم وجود غاز، أو لتأجيل بدء الاستخراج إلى حين توفر الظروف الملائمة. وقد أردفت ذلك بالإعلان أنها تخطط لمواصلة التنقيب في البلوك رقم 10، بالقرب من حقل غلاوكوس الواقع شرق بئر «إلكترا».

جيولوجيا أم جيوبوليتيك؟

يَصح وضع التطورات والملابسات في بئر «إلكترا» في سياق التداخل بين الجيولوجيا والجغرافيا السياسية. فالبلوك رقم 5 القبرصي، حيث يقع البئر، هو موضع نزاع بين قبرص وتركيا. إذ تعتبر أنقرة أن جزءاً من البلوك يقع ضمن منطقتها الاقتصادية الخالصة التي قامت بترسيمها من جانب واحد، وأودعتها لدى الأمم المتحدة. ولا يُعتد كثيراً بأن بئر «إلكترا» بعيد عن الخط المرسوم على سطح الماء للفصل بين المياه القبرصية والتركية. لأن مكامن الغاز قد تكون ممتدة بين المنطقتين، وهو ما يعقّد أي استغلال منفرد للموارد.

وفي مقابل تردد وتريّث الشركات، فإن قبرص تدفع باتجاه تسريع الاستكشافات في هذه المنطقة الحساسة، لتثبيت ما تعتبره حقوقاً سيادية. وهي بذلك توظّف أدوات الجغرافيا النفطية كوسيلة لتثبيت حدود منطقتها الاقتصادية الخالصة بحكم الأمر الواقع، المدعوم بمصالح الشركات النفطية الكبرى، بدلاً من انتظار الحلول الدبلوماسية المؤجّلة.

مشهد مكرر في مصر ولبنان

ما حدث بالنسبة للتنقيب في قبرص يتكرر بشكل أو بآخر في مصر. فقد أعلنت شركة «شيفرون» عن عدم تحقيق اكتشاف تجاري في «بئر خنجر 1» ضمن امتياز شمال الضبعة. ما أدى إلى انسحاب مبكر لسفينة الحفر«ستينا فورث». بينما تُبقي «إكسون موبيل» نتائج الحفر في بئر «نفرتاري» في شمال مراقيا طي الكتمان. أما شركة (بي بي) فتواصل عملياتها في امتياز شمال الإسكندرية.

قد لا يكون ما يحدث في قبرص ومصر مختلفاً عمّا حدث في لبنان أواخر عام 2023. حين قام تحالف شركات «توتال إنرجيز»، «إيني» و «قطر للطاقة»، بحفر بئر استكشافية في البلوك رقم 9. فقد أنهت الحفارة أعمالها بدون أن يصدر التحالف تقريراً عن النتائج حتى اليوم.

لماذا تحفر الشركات وتتكبد التكاليف؟

عند هذا الحد يُثار سؤال مشروع، وهو: إذا كانت الشركات غير مقتنعة بالاستثمار، فلماذا تتكبد تكاليف الحفر؟ وكيف نُفسر توافد الحفارات إلى شرق المتوسط منذ مطلع العام؟

الحقيقة قد تكون أكثر تعقيداً. إذ أن وجود هذه الحفارات لا يعكس دائماً حماسة للاستثمار. بل أحياناً يُعبّر عن واجب تعاقدي ثقيل الكلفة تؤديه الشركات الدولية احتراماً لالتزاماتها بموجب اتفاقيات الاستكشاف والإنتاج الموقعة مع الدول المضيفة. ولا تُقدم هذه الشركات على التنصل من التزاماتها، حتى لو كانت النتائج الجيولوجية غير مضمونة أو البيئة الاستثمارية غير ملائمة. فالانسحاب من هذه الالتزامات يُضعف من مصداقية الشركة ويُعرّضها لاحقاً لفقدان فرص الدخول في جولات جديدة للتراخيص أو عدم تجديد العقود الحالية وهو العامل المهم في حالة قبرص.

إقرأ أيضا: لا غاز في قبرص ولبنان قبل حل النزاع الحدودي مع تركيا

لذلك، قد تضحي هذه الشركات بعشرات ملايين الدولارات للحفاظ على مصداقيتها، وللاحتفاظ بمناطق الامتياز والتنقيب ضمن محفظة أصولها. وذلك بانتظار أن تنضج الظروف السياسية والاقتصادية لاحقاً، ويُتاح استغلال هذه الحقول في بيئة أقل اضطراباً وأكثر ربحية.

خسائر الانتظار مقابل أرباح الاستقرار

بالنسبة للشركات الدولية الكبرى، لا تُقاس جدوى الاستثمارات في شرق المتوسط بالمعايير التقليدية لتقييم الجدوى (حجم الاحتياطات، تكلفة الاستخراج، البنية التحتية). بل باتت المنطقة تمثّل مساحة معقّدة، تتداخل فيها عوامل الجيولوجيا و”البيزنس” بعوامل التحولات الإقليمية والاصطفافات.

وتُدرك هذه الشركات أن الانسحاب أو التباطؤ المفرط في تنفيذ الالتزامات التعاقدية، قد يضعها خارج الترتيبات طويلة الأمد التي تتشكّل حالياً. سواء كانت تلك الترتيبات تجارية ونفطية، أو سياسية وأمنية. ولكنها في المقابل لا تملك ترف المغامرة المفتوحة. فهي اليوم أكثر ميلاً إلى الحذر، وتحليل المخاطر، والتفكير الاستراتيجي بعيد المدى. خصوصاً في ظل تقلب الأسواق العالمية، والضغط المتزايد من مساهميها لتحقيق الأرباح والالتزام بالمعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة (ESG).

ولذلك، فقد يكون الحل هو الإمساك بالعصا من الوسط. أي تحمّل خسارة تكاليف الحفر اليوم، على أمل الفوز بأرباح الغد حين “تنضج طبخة” التسوية السياسية. فهي لا تبني حساباتها على وجود الغاز وبكميات تجارية فقط، بل على أي دولة ستمتلك هذا الغاز، وفي ظل أي نظام سياسي واقتصادي ستتم إدارته، ووفق أي إطار تنظيمي وتشريعي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: