تركيا ـ مصر: تنازلات و«تشريفات» مقابل ترسيم الحدود البحرية

ربما تساءل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، أثناء تحليق طائرته فوق مياه البحر المتوسط، متى سيطرح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ملف ترسيم الحدود البحرية المصرية التركية. ويطالب برد «تحيات وتنازلات» تركيا إلى مصر، في ملفات الإخوان المسلمين، والاقتصاد، وإثيوبيا، وفلسطين وليبيا، وإيران الخ.. بتحية واحدة، هي الموافقة ولو الجزئية على الرؤية التركية للترسيم.

أردوغان يسابق العمر والتطورات الجيوسياسية، لتحقيق حلم تعديل اتفاقية لوزان واستعادة «البحر التركي»، فيخلّده التاريخ إلى جانب أتاتورك الذي استعاد «البر التركي»

إذا كان مرجحاً أن تتواصل «التحيات» التركية، والتي لن يكون آخرها خرق البروتوكول الرئاسي واستقبال الضيف المصري الكبير في المطار. فالمؤكد أن ملف الترسيم سيكون بنداً رئيسياً على جدول أعمال «القمم» المقبلة. فالرئيس أردوغان يسابق الزمن والعمر والتطورات الجيوسياسية، لتحقيق حلمه وحلم الأتراك باستعادة ما يرونه «البحر التركي» من خلال تعديل اتفاقية لوزان. فيخلّده التاريخ إلى جانب أتاتورك الذي استعاد «البر التركي» بتوقيع هذه الاتفاقية عام 1923. حيث فرضت موازين القوى حينذاك التنازل عن أجزاء من المياه البحرية وجزر بحر إيجه.

تركيا تنتظر تحية الترسيم

ليس مبالغة القول أن التحية التي تنتظرها تركيا من مصر مقابل كل «التحيات والتنازلات»، هي ترسيم الحدود البحرية معها. لأنه ببساطة يقلب المعادلات والتوازنات في النزاعات الحدودية بينها وبين اليونان وقبرص. ويشكل الورقة الرئيسية في سلسلة أوراق القوة التي تراكمها منذ سنوات، لوضعها على طاولة المفاوضات حين تزف ساعة التسويات.

الترسيم البحري مع اليونان، ملف متفجر محكوم بأحقاد التاريخ ومرارة الهزائم، وإضيف إليه حالياً وقود الغاز

وقد بذلت تركيا جهوداً كبيرة خلال حكم حسني مبارك لإنجاز الترسيم البحري، دون نتيجة بسبب معارضة أوروبا. كما بذلت جهوداً مماثلة مع ليبيا خلال حكم القذافي. ويقال أن أحد اسباب تمسك تركيا بحكم محمد مرسي والإخوان هو المراهنة على إنجاز الترسيم العتيد. تماماً كما فعلت مع حكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السراج بتوقيع مذكرة التفاهم الشهيرة لترسيم حدودها البحرية مع ليبيا.

إقرأ أيضاً: مذكرة التفاهم التركية الليبية تعيد رسم الحدود البحرية لشرق المتوسط

ما أهمية ترسيم الحدود التركية المصرية؟

تواجه تركيا معضلة حقيقية في مقاربة ملف ترسيم حدودها البحرية. تتمثل بأنها لم تنجح حتى اليوم بترسيم هذه الحدود مع أي من جيرانها. ويسهم ترسيم حدودها مع مصر بحل العقدتين أو نقطتي الضعف الرئيسيتين لديها. وهما المسألة القبرصية وجزر بحر إيجه القريبة من البر التركي.

أولاً: المسألة القبرصية، قامت قبرص بترسيم منطقتها الاقتصادية الخالصة مع مصر وإسرائيل ولبنان (لم يصدق الاتفاقية). وترى تركيا أن الترسيم القبرصي يتناقض مع أحكام قانون البحار. باعتبارها جزيرة تقع بين مصر وتركيا اللتين تمتلكان أطول السواحل. ما يجعل شرق المتوسط هو ولاية قضائية لكل منهما. ويكون لقبرص منطقة اقتصادية تتناسب مع وضعها كجزيرة وليس كدولة ساحلية متقابلة مع مصر كما هو الوضع القائم حالياً.

تركيا رسّمت حدودها مع جمهورية شمال قبرص، ما خلق مناطق شاسعة متنازع مع قبرص، وبدأت التنقيب فيها بحماية البوارج

يضاف إلى ذلك مشكلة جمهورية شمال قبرص، التي بادرت تركيا في سياق تجميع أوراق القوة إلى الاعتراف بها كدولة مستقلة. وقامت بتوقيع اتفاقية لترسيم الحدود البحرية معها، وتم إيداعها لدى الأمم المتحدة. ويقتطع هذا الترسيم مساحات شاسعة من المياه البحرية التركية، ما يجعلها مناطق متنازع عليها بحكم القانون الدولي. وعززت ذلك «بممارسة حقها» بالحفر والتنقيب في هذه المناطق. وبمنع قبرص والشركات النفطية الدولية من العمل فيها مستخدمة البوارج الحربية والتهديد بالحرب. وذلك ما يفسر إحجام هذه الشركات عن بدء استخراج الغاز من الآبار المكتشفة في المياه القبرصية. ومن بينها أحدأضخم حقول شرق المتوسط، وهو حقل افروديت المكتشف عام 2011. وينطبق ذلك على لبنان حيث تعتبر البلوكات الغربية من مياهه البحرية موضع نزاع بحكم الترسيم التركي.

معضلة جزر بحر إيجه

ثانياً: جزر بحر إيجه: وهي أكثر أهمية بالنسبة لتركيا. كما أنها أكثر سهولة بالنسبة لمصر في مراعاة وجهة النظر التركية. ويرجع ذلك إلى قوة الموقف القانوني التركي بالنسبة لمجموعة جزر دوديكانيسيا الجنوبية. التي وضعت بعد الحرب العالمية الثانية تحت السيادة اليونانية، في مخالفة صريحة للمادة 12 من معاهدة لوزان لأنها محاذية للبر التركي. وقامت اليونان بترسيم منطقتها الاقتصادية الخالصة انطلاقاً من تلك الجزر. ومن الأمثلة الصارخة في هذا السياق، جزيرة «كاستيلوريزو» أو «ميس» بالتركية التي تبعد حوالي 3 كلم عن الساحل التركي ونحو 580 كلم عن البر اليوناني. وإعادة هذه الجزيرة إلى السيادة التركية أو عدم إعطائها أي تأثير في ترسيم الحدود البحرية، يؤدي تلقائياً إلى زيادة مساحة المنطقة الاقتصادية التركية بحوالي 100 ألف كلم2.

عندما رسّمت مصر حدودها مع اليونان في أوج القطيعة مع تركيا، تركت المنطقة المتأثرة بالجزر بدون ترسيم، صوناً للحقوق التركية

والمفارقة ذات الدلالة، في هذا السياق، أن مصر حين قامت بترسيم حدودها البحرية مع اليونان في أوج القطيعة مع تركيا، تعمدت ترك المنطقة المتأثرة بجزيرتي «رودوس» و«كاستيلوريزو» بدون ترسيم. وكانت تلك الخطوة موضع ترحيب علني من قبل وزير الخارجية التركي قائلاً «احترمت مصر حقوقنا ولا أريد أن أبخّسها حقها لأن العلاقات السياسية بيننا ليست جيدة للغاية».

مجموعات جزر بحر إيجه التي تطالب بها تركيا

الملف على نار حامية مخفية

مع أن ملف النزاعات الحدود البحرية في شرق المتوسط، قد يكون الأقل ضجيجاً في هذه المرحلة. لكنه الأكثر تفجراً في مسار التسويات أو الصدامات. ويعتبر المراقبون أنه موضوع على نار حامية ولكن على «موقد خلفي في مطبخ» إعادة تشكيل الجغرافية السياسية في المنطقة.

ويدرك جميع اللاعبين الدوليين والإقليميين أنه الملف الأكثرأهمية وحساسية لكافة الأطراف السياسية التركية. وهو موضع إجماع بين الموالاة والمعارضة. لأنه يرتبط بداية، بأحقاد التاريخ، و«مرارة» الهزائم العسكرية والسياسية مع اليونان وأوروبا. كما يرتبط حالياً بـ «حلاوة» وآمال ثروة النفط والغاز. التي تسهم بحل مشكلة الطاقة المستعصية في تركيا. وتسهم أيضاً بتعزيز موقعها ودورها الإقليمي والدولي.

أكبر من رغبة تركيا وموافقة مصر

ولكن بالمقابل، يعتبر هذا الملف، الأكثر أهمية وحساسية بالنسبة لليونان وقبرص ومن ورائهما غالبية الدول الأوروبية وفي مقدمتها فرنسا. وذلك ما يفسر رفض تقديم أي تنازل ولو بسيط، لانجاز ترسيم الحدود البحرية. على الرغم من تعدد المحاولات والوساطات. وعلى الرغم من تسببه بتوتر دائم في العلاقات اليونانية ـ الأوربية مع تركيا، وصل في أكثر من مناسبة إلى حد المواجهات العسكرية والتهديد بحرب شاملة. كما أدى إلى تعطيل استغلال موارد النفط والغاز في شرق المتوسط عموماً وفي تركيا واليونان وقبرص ولبنان تحديداً.

ختاماً… ربما أسر الرئيس المصري وهو في طريق عودته، إلى مساعديه أن ترسيم الحدود المصرية  التركية وفقاً للمنظور التركي، لا يتوقف على رغبة أنقرة وموافقة القاهرة. فهو يعني إعادة رسم الخرائط في المنطقة وذلك لن يتم إلا في إطار تسوية كبرى. وتلك التسوية تطلب اصطفافاً دقيقاً للكواكب الدولية من أميركا إلى أوروبا وصولاً إلى الصين. وأصطفافاً أكثر دقة للكويكبات الإقليمية مثل روسيا، تركيا، مصر، السعودية، وإسرائيل إضافة إلى اليونان بالطبع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى