سباق الاندماج النووي: متى يغادر العرب مقاعد المتفرجين؟

هل حان الوقت ليترك العرب مقاعد المتفرجين، ويدخلوا سباق الاندماج النووي؟

ما يبرر السؤال، ويشجع على الإجابة بـ”نعم”.. التسارع الكبير في خطوات تحقيق الاندماج التجاري. وهو تطور من شأنه إحداث انقلاب في نظام الطاقة العالمي، ينعكس مباشرة على التوازنات الجيوسياسية. وليصبح الانتظار أشبه بمقايضة خاسرة بين كلفة مالية معقولة للدخول في السباق ولعب دور الشريك. وكلفة ضخمة مالياً وجيوسياسياً وتنموياً لعدم الدخول ومواصلة لعب دور المستهلك والمتفرج. ولتقتصر المشاركة العربية على جهود بحثية مبعثرة في بعض الجامعات، ومبادرات رائدة ولكنها معزولة وتفتقر للدعم اللازم.

يمكن رصد أبرز التطورات التي لها تأثير مباشر على تسهيل وتشجيع الانخراط العربي المبكر بصناعة الاندماج كما يلي:

د. سالم حمدي رئيس الهيئة العربية للطاقة الذرية

أولا: لا محاذير سياسية

التأخر في دخول الدول العربية ميدان الطاقة النووية التقليدية (الانشطار النووي) كان مفهوماً ومبرراً، بسبب المعايير الصارمة وأحياناً الحظر الكامل لانتشار التكنولوجيا النووية. ولكن ذلك لا ينطبق مطلقاً على الاندماج النووي. لأنه تم صرف النظر عن استخداماته العسكرية كما سنبيّن لاحقاً.

ولاختصار الشرح في هذا المجال نشير إلى تطور بالغ الدلالة. وهو مبادرة الولايات المتحدة العام الماضي إلى وضع صناعة الاندماج النووي ضمن الإطار التنظيمي للأبحاث النووية والأجهزة الطبية. وليس ضمن الإطار التنظيمي للانشطار النووي الذي يخضع لمعايير صارمة. كما يُلاحظ أن وزارة الطاقة، وليس وزارة الدفاع، هي التي تتولى الإشراف على أنشطة الاندماج النووي. وهناك حالياً عمل دؤوب على المستوى الدولي لتطوير وبلورة أطر تنظيمية ومعايير خاصة بالاندماج النووي لفصلها عن معايير وأطر الطاقة النووية التقليدية.

يعني ذلك أن المحاذير السياسية للدخول العربي في صناعة الاندماج غير موجودة. بل على العكس، قد يكون هذا الدخول مرحباً به ومطلوباً. وكترجمة عملية لهذه المسألة، نشير إلى أن الشركات الخاصة والجامعات في أميركا والدول الغربية وحتى في الصين، هي التي تلعب الدور الأساسي في تطوير صناعة الاندماج النووي.

ثانياً: رفع السرية عن أبحاث الاندماج

بعكس أبحاث وتقنيات الانشطار النووي، تم التوافق عام 1958 بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة على رفع السرية عن أبحاث الاندماج النووي، بعد أن تبيّن أن استخداماته العسكرية ممكنة نظريًا، لكنها غير مجدية عملياً. فتفجير القنبلة الهيدروجينية يتطلب طاقة هائلة لا تقل عن تفجير قنبلة نووية. في وقت كانت فيه الترسانات النووية كافية لتدمير العالم مراراً. وبذلك بات تطوير الاستخدامات العسكرية للاندماج النووي ضرباً من الترف التقني أو «لزوم ما يلزم». ويقتصر استخدامه العسكري اليوم على اختبارات لفحص صلاحية مخزون القنابل النووية، باستخدام أجهزة ليزر مثل (آلة زد) Z-MACHINE.

إقرأ: طاقة الاندماج النووي: تعاون دولي لتبادل الأسرار والمعلومات

أقرأ: سباق الاندماج النووي: هل توفقت الصين ببناء «آلة Z» الخارقة؟

ولتأكيد هذا المسار المدني، أطلقت الوكالة الدولية للطاقة الذرية عام 1960 مجلة “الاندماج النووي” لتبادل نتائج الأبحاث. وشهد هذا التوجّه نقلة نوعية في يونيو 2024، حين نظّمت منظمة ITER  التي تضم 35 دولة بينها الصين وأميركا، ورشة عمل تاريخية كشفت فيها عن جميع نتائج أبحاثها. حضر الورشة 350 مشاركًا من العلماء ومديري الشركات، وتم خلالها التشديد على ضرورة رفع السرية حتى بين الشركات، نظراً لضخامة التكاليف واستحالة أن تتحملها جهة واحدة، كما أوضح المدير العام للمنظمة بيترو باراباسكي.

ثالثاً: الاختراقات التكنولوجية الباهرة

شهدت السنوات القليلة الماضية تسارعاَ لافتاَ في الاختراقات التقنية المرتبطة بطاقة الاندماج النووي، شمل مختلف الجوانب مثل: أنواع المفاعلات، تصميم مواد ومكونات ومغناطيسات حبس البلازما، طرق التصنيع والاعتماد على مكونات موجودة بدل تصنيعها، انواع الوقود وطرق ضخها، الصيانة عن بعد، وأنظمة معالجة النفايات الخ…

د. خالد طوقان رئيس هيئة الطاقة الذرية الأردنية

ونكتفي بالإشارة إلى اختراقين مهمين للدلالة على حجم التطور المحقق. الأول حققته شركة كومنولث فيوجن سيستمز Commonwealth Fusion Systems الأميركية، عبر مفاعل توكاماك صغير الحجم يُدعى سبارك SPARC   يعمل بالحصر المغناطيسي. ويتميز المفاعل باستخدام مغناطيسات فائقة التوصيل في درجات حرارة مرتفعة (HTS)، ما يقلل من تكلفته وحجمه مقارنةً بالمفاعلات التقليدية. كما اعتمد تصنيعه على مكونات جاهزة من شركات أخرى. ويشكل هذا الجهاز الذي سيتم تشغيله العام المقبل، مرحلة انتقالية بين المفاعلات البحثية والمفاعلات التجارية. وأعلنت الشركة في هذا السياق عن استئجار الأرض لبناء أول محطة لطاقة الاندماج النووي في ولاية فيرجينيا الأميركية، بطاقة إنتاجية قدرها 400 ميغاواط.

إقرأ: الاندماج النووي: مفاعل صيني خارق وفوز مستحق على أميركا

إقرأ: طاقة الاندماج النووي: أنواع المفاعلات وطرق الاندماج

في المقابل، كشفت شركة صينية ناشئة تُدعى Energy Singularity عن مفاعل مشابه أطلقت عليه اسم  HH70، يتميز بحجمه الصغير الذي لا يتجاوز 2 في المئة من حجم المفاعلات التقليدية مثل ITER، وتكلفة لا تتجاوز 1.5 مليار دولار، مقارنة بحوالي 23 ملياراً لمفاعل إيتر حتى الآن (لأنه لم يكتمل بعد).وقد تم تصميمه وإنجازه خلال عامين فقط، مقابل، 20 ـ 25 سنة للأجهزة التقليدية.

تُعد هذه الاختراقات مؤشرًا حاسمًا على أن تقنية الاندماج تنتقل من مرحلة البحث إلى التطبيق، وأن السباق نحو إنتاج الكهرباء تجارياً بات أقرب من أي وقت مضى.

كيف يمكن للدول العربية دخول السباق؟

استعراض المعطيات السابقة يقود إلى نتيجة واضحة: المشاركة العربية في سباق الاندماج النووي ممكنة، بل مطلوبة، خاصة من قبل الشركات الساعية لحشد التمويل وتعزيز فرصها في الوصول إلى خط النهاية.

من أبرز المسارات العملية المتاحة، استقطاب الشركات العاملة في مجال الاندماج النووي، سواء تلك التي تطوّر المفاعلات أو المصنّعة للمكونات أو المزوّدة للخدمات. ويكون ذلك من خلال توفير الحوافز مثل الأرض، والتراخيص، والتمويل، والتسهيلات التشغيلية. هذا التوجّه سيضع الدول العربية على خريطة البحث والتطوير، كما سيرسّخ حضورها ضمن سلاسل الإمداد لهذه الصناعة، التي يُتوقع أن تشهد نموًا هائلًا في العقود المقبلة.

إقرأ: طاقة الاندماج النووي: فورة استثمارات خاصة تعجل “موسم الحصاد” (2 من 5)

كما يمكن تشجيع رجال الأعمال والمستثمرين العرب على تأسيس شركات ناشئة بخبرات محلية أو عبر شراكات مع كيانات دولية. وهنا يمكن الاستفادة من غياب السرية، والاعتماد على الأبحاث والتقنيات المتاحة، للانطلاق من حيث انتهى الآخرون. كذلك، يتيح التنافس القائم بين الشركات الغربية والصينية فرصة التفاوض على أفضل الشروط، خصوصًا في ما يتعلق بنقل التكنولوجيا أو توطين التصنيع في المنطقة.

لكن كل ذلك يتطلب بنية مؤسسية، تبدأ باستحداث هيئات وطنية مختصة، أو توسعة صلاحيات القائمة، إلى جانب تأهيل الكوادر البشرية من مهندسين وفنيين، وتطوير البرامج الجامعية المرتبطة بالاندماج، كما هو الحال في الدول الرائدة.

لا ننطلق من فراغ

الحديث عن انخراط عربي في سباق الاندماج النووي لا ينطلق من العدم، بل يستند إلى جهود علمية قائمة، أبرزها ما يجري في عدد من الجامعات العربية، وفي مقدمتها الجامعة الأميركية في بيروت، التي أنشأت جهاز البلازما الخطي (بولاريس)، الفريد من نوعه في المنطقة.

وفي عام 2022، قامت الجامعة الأميركية التي ترتبط بعلاقات تعاون وثيقة وتاريخية مع أميركا وأوروبا، بتوقيع اتفاقية تعاون مع معهد فيزياء البلازما التابع للأكاديمية الصينية للعلوم، في مجال علوم البلازما والانصهار المغناطيسي، ما يعكس وجود اهتمام دولي فعلي بإقامة شراكات بحثية مع مؤسسات عربية.

إقرأ أيضاً: شركة عبد اللطيف جميل السعودية تدخل نادي الاندماج النووي

ومن المبادرات الجديرة بالتنويه في هذا السياق، هي «المبادرة العربية لطاقة الاندماج النووي» (AFEI) التي أُطلقت في العام 2023 من قبل نخبة من العلماء والمهندسين والخبراء. ويقول د. غسان عنتر، البروفيسور في الجامعة الأميركية في بيروت، وهو من مؤسسي المبادرة: إنها حظيت باهتمام ورعاية عربية ودولية فور إطلاقها.

د غسان عنتر

البرنامج العربي للطاقة الاندماجية

ويضيف د. عنتر ان هذا الاهتمام تجلّى بالموافقة بالإجماع من قبل المجلس التنفيذي للهيئة العربية للطاقة الذرية على اقتراح من المبادرة بإنشاء كيان مستقل للطاقة الاندماجية. وقرر المجلس في اجتماعه المنعقد في مايو 2024 تأسيس «البرنامج العربي للطاقة الاندماجية» (AFEP) تحت مظلة الهيئة.

ويشدد د. عنتر، الذي كان له الفضل في بناء وتشغيل جهاز البلازما في الجامعة الأميركية، أن هذه المبادرة تعمل اليوم عبر مسارين متكاملين هما: البرنامج العربي للطاقة الاندماجية (AFEP) الذي يعتبر كيان حكومي عربي مشترك. ويهدف إلى تطوير القدرات العربية في الأبحاث والتطوير ووضع السياسات الخاصة بالطاقة الاندماجية. والثاني؛ «المبادرة العربية لطاقة الاندماج النووي» (AFEI) كذراع بحثي وأكاديمي، تستضيفها الجامعة الأميركية في بيروت، وتركز على نشر المعرفة العلمية، وتعزيز الوعي، وبناء قاعدة بشرية مؤهلة في المنطقة العربية.

وينوّه د. غسان عنتر بالدعم الذي تحظى به المبادرة من قبل شخصيات وهيئات عربية ودولية. من بينها الديوان الملكي الأردني برعاية الأمير الحسن بن طلال، والهيئة العربية للطاقة الذرية برئاسة د. سالم حمدي، وهيئة الطاقة الذرية الأردنية برئاسة د. خالد طوقان الذي يرأس أيضاً منظمة سيسامي SESAME. وكذلك من قبل مشروع ITER الدولي، ووزارة الطاقة الأميركية، وEUROfusion، وجمعية صناعة الاندماج (FIA).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: