عصر انعدام أمن الطاقة

كيف يؤدي النزاع على الموارد إلى قلب الجغرافيا السياسية رأساً على عقب؟

مقال بالغ الأهمية نشر في دورية فورين أفيرز بقلم جيسون بوردوف*  و ميغان إل. أوسوليفان**

قبل مدة لا تتجاوز 18 شهراً، تغنى معظم صانعي السياسات والأكاديميين والمحللين في الولايات المتحدة و أوروبا بالفوائد الجيوسياسية الناجمة عن التحول نحو طاقة أنظف وأكثر اخضراراً في المرحلة المقبلة. وهؤلاء فهموا أن الابتعاد عن نظام طاقة الانبعاثات الكربونية الكثيفة الذي يعتمد على الوقود الأحفوري سيكون صعباً على بعض البلدان، لكن الرأي السائد يفترض، على العموم، أن التحول إلى مصادر جديدة للطاقة لا يساعد على مكافحة تغير المناخ وحسب، بل ينهي الجغرافيا السياسية المزعجة والمصاحبة لنظام الطاقة القديم.

والحق أن هذه الآمال بنيت على أوهام. وكان من المؤكد أن إنجاز الانتقال إلى الطاقة النظيفة لا بد أن تصاحبه فوضى عميمة، ويؤدي إلى صراعات ومخاطر جديدة على المدى القريب. وحين حلّ خريف عام 2021، وفي وسط أزمة الطاقة في أوروبا والارتفاع القوي في أسعار الغاز الطبيعي والنفط، أدرك أشد مؤيدي نظام الطاقة الجديد تفاؤلاً أن التحول سيكون عسيراً في أحسن الأحوال.

وبعدها تبخرت وتبددت بقية المثالية عندما غزت روسيا أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022. فتلك الحرب لم تظهر الطابع الوحشي لنظام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ومخاطر الاعتماد المفرط في مجال الطاقة على الأنظمة الاستبدادية العدوانية، فحسب، بل كشفت عن المخاطر المترتبة على التنافس الحاد، وغير المنسق، على تطوير مصادر طاقة جديدة وفصل العالم عن المصادر القديمة الراسخة.

ومن جملة ما نتج من ذلك الاضطراب كان إعادة إحياء مصطلح بدا أن الزمن عفى عليه خلال العقدين الماضيين اللذين شهدا ازدهاراً في إمدادات الطاقة ورؤى مثالية لمستقبل أخضر، هذا المصطلح هو أمن الطاقة ففي نظر أميركيين كثر، توحي هذه العبارة بسبعينيات القرن الماضي، إذ تستحضر صوراً لسيارات السيدان المربعة الشكل، وعربات ستيشن المكسوة بألواح خشبية وهي تصطف في طوابير تمتد على أميال في انتظار ملء خزاناتها بالبنزين بأسعار مرتفعة للغاية، بسبب حظر النفط العربي عام 1973 والثورة الإيرانية عام 1979، لكن أمن الطاقة لم يمس ذكرى غابرة، وستكون له أهمية حاسمة في المستقبل.

وعرف، أمن الطاقة، تاريخياً، بأنه وفرة إمدادات وافية بأسعار معقولة. إلا أن هذا التعريف البسيط لم يعد يطابق الواقع. فتعاظمت المخاطر التي يواجهها العالم الآن، واشتد تعقيدها قياساً على الأوقات السابقة. وعلى صانعي السياسات، من أجل التعامل مع هذه التحديات الجديدة، إعادة تعريف أمن الطاقة، وتطوير وسائل جديدة لضمانه. وينبغي أن ترعى هذه العملية أربعة مبادئ عامة: التنويع، والمرونة، والتكامل، والشفافية. ورغم أن هذه المبادئ مألوفة، فإن الطرق التقليدية لتطبيقها ليست مناسبة في العصر الجديد ويحتاج صانعو السياسات إلى وسائل جديدة.

وليس هناك ما يدعو إلى اليأس بعد. ففي نهاية المطاف، حفزت أزمة النفط، في سبعينيات القرن الماضي، قدراً كبيراً من الابتكار، بما في ذلك تطوير التقنيات المستخدمة اليوم في توليد الطاقة من الرياح والشمس، وزيادة فاعلية المركبات، وإنشاء مؤسسات حكومية جديدة ومؤسسات متعددة الأطراف تعمل على وضع سياسة الطاقة وتنسيقها. وتلك السياسات والتقنيات التي تبدو الآن قديمة وبالية كانت ذات يوم لامعة وجديدة. وعلى نحو قريب، قد تؤدي أزمة اليوم إلى أفكار وتقنيات مبتكرة، طالما أن صانعي السياسات يدركون تماماً الواقع الجديد الذي يواجهونه.

وصل المستقبل باكراً

ولا ريب في أن حوادث العام ونصف العام الماضيين كشفت بوضوح أن التحول في مجال الطاقة والجغرافيا السياسية متداخلان ومتشابكان على وجوه كثيرة. والديناميكيات التي كان ينظر إليها على أنها افتراضية أو نظرية تجسدت للعيان أمام أنظار المراقبين العاديين.

أولاً، أبرزت الأشهر الثمانية عشر الماضية دينامية “الوليمة قبل المجاعة” التي يختبرها المنتجون التقليديون للنفط والغاز. وتقيس حدة الدينامية ازدياداً في قوتهم وتأثيرهم، يليه انحسار كليهما، القوة والتأثير.

وفي عام 2021، على سبيل المثال، شهدت روسيا، ومنتجو النفط والغاز الآخرون، سنة استثنائية وناجحة من حيث الإيرادات. فساهم الطقس المتطرف، وتعافي العالم من التباطؤ الناجم عن الوباء، في زيادة الطلب على الغاز الطبيعي. وكان لهذه الصدمات تأثير هائل في الأسواق الضعيفة المناعة.

وفي السنوات السابقة، أسهمت العوائد المنخفضة، وضعف تقدير الطلب المتوقع على الطاقة، والحض على ترك الوقود الأحفوري، في تقليص الاستثمارات في النفط والغاز، بالتالي في نقص الإمدادات. واستفادت روسيا من أسواق الطاقة الضيقة والمحدودة تلك [وهي الأسواق التي يكون فيها الطلب كبيراً والعرض منخفضاً، لأن الإمدادات غير كافية] من طريق استنزاف خزانات الغاز الأوروبية، وتقليل مبيعات الغاز الفورية، على رغم وفائها بالتزاماتها التعاقدية الطويلة الأجل. فارتفع متوسط أسعار الغاز الطبيعي ثلاثة أضعاف بين النصف الأول والنصف الثاني من عام 2021. وإلى ارتفاع أسعار النفط، منحت هذه التطورات روسيا دفقاً من إيرادات النفط والغاز السنوية أعلى بنسبة 50 في المئة مما توقعه الكرملين.

وأظهر العام ونصف العام الماضيين أن بعض منتجي النفط والغاز مستعدون لاستخدام قوتهم في مجال الطاقة من أجل تحقيق أهدافهم السياسية والجيوستراتيجية بلا رحمة. وتحطم الأمل في تجاوز العالم مثل هذا السلوك بعد الهجوم الوحشي الذي شنته روسيا على أوكرانيا في فبراير 2022.

وفي الأشهر التي تلت ذلك، قلصت روسيا تدريجاً شحنات الغاز إلى أوروبا عبر خطوط الأنابيب بمعدل يفوق الثلاثة أرباع، فاندلعت أزمة حملت الحكومات الأوروبية على إنفاق مبلغ هائل قدره 800 مليار يورو من أجل حماية الشركات والأسر من ارتفاع كلفة الطاقة.

وفي البداية، أسهم اعتماد العالم على روسيا في توفير الطاقة في إضعاف الردود العالمية على الغزو: وطوال أشهر، ظلت تدفقات النفط الروسي معفاة من العقوبات الأوروبية. وإلى يومنا، لم يفرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على مبيعات الغاز الروسي، بل إن أعضاء الاتحاد ماضون على استيراد كميات كبيرة من الغاز الطبيعي والمسال الروسي. وهكذا، سمحت أسواق الطاقة الضيقة بارتفاع عائدات النفط والغاز الروسية، وأعطت موسكو وسيلة في وسعها تقسيم أوروبا الموحدة حديثاً.

وأدى الفرق بين انخفاض الإمدادات وازدياد الطلب، العام الماضي، إلى تضييق سوق النفط. فقفزت الأسعار، وبلغت أعلى مستوى لها في 14 عاماً، بسبب مخاوف السوق من استحالة تسليم ملايين البراميل من النفط الروسي يومياً، حتى مع ارتفاع الطلب.

وفي بداية الحرب في أوكرانيا، توقعت وكالة الطاقة الدولية (IEA) أن ينخفض الإنتاج الروسي بمقدار ثلاثة ملايين برميل يومياً. وأدت الخشية من انقباض العرض إلى ارتفاع أسعار النفط، وعززت دخل منتجي النفط الرئيسين وثقلهم الجيوسياسي.

وكانت الولايات المتحدة تعتقد أن استجداء زيادة إنتاج النفط من السعودية طويت. إلا أن مواجهة الأسعار المرتفعة فرضت أنماط السلوك القديمة، إذ أطلقت واشنطن مناشدات، غير مجدية في الغالب، تتوسل من السعودية أن تزيد إنتاجها، علماً أنها الدولة الوحيدة التي تملك فعلياً طاقة إنتاجية فائضة للنفط (احتياطي فائض).

حريق منشأة للطاقة في كييف ، نوفمبر 2022، خدمة الطوارئ الحكومية (رويترز)

وتوضح الخضات في الأشهر الثمانية عشر الماضية أيضاً كيف يمكن للبيئة الجيوسياسية أن تؤثر في سرعة الانتقال إلى الطاقة النظيفة ونطاقها. فقبل الغزو الروسي لأوكرانيا، كانت الدول الأوروبية والولايات المتحدة ملتزمة تحويل اقتصاداتها بغية بلوغ صافي انبعاثات كربونية صفري في العقود القادمة، ثم أسهمت الأعمال الوحشية التي ارتكبتها روسيا، والإعلان عن أن عوائد الوقود الأحفوري مولت تلك الأعمال، في تعزيز إصرار كثيرين في أوروبا والولايات المتحدة على الابتعاد عن النفط والغاز والفحم.

وفي واشنطن، من بين النتائج المترتبة على ذلك تشريعات مناخية بارزة في شكل قانون خفض التضخم Inflation Reduction Act. وعجّلت أوروبا أيضاً وتيرة خططها الخضراء، رغم بعض الزيادات القليلة على استخدام الفحم في المدى القريب.

ورغم ذلك، يشعر عدد من المسؤولين الأميركيين بالقلق من أن ينطوي التحول السريع في مجال الطاقة حتماً على تعاظم الاعتماد على الصين، قياساً على هيمنتها على سلاسل إمداد الطاقة النظيفة. وفي هذا السياق، نبه السيناتور الأميركي جو مانشين، وهو ديمقراطي من ولاية فرجينيا الغربية، إلى أنه لا يرغب في الوقوف في طابور لكي يشتري بطاريات شحن صينية للسيارات، على النحو الذي انتظر فيه في طابور السبعينيات لشراء البنزين المشتق من نفط الشرق الأوسط.

ودعت تلك المخاوف الكونغرس إلى إقرار حوافز لإنتاج المعادن الحيوية وتكريرها ومعالجتها محلياً، علماً أن الصين هي اليوم بؤرتها. وعوضاً عن الإشادة بواشنطن لإقرارها أخيراً تشريعات راجحة في مجال تغير المناخ، استاء كثير من الناس في العالم من هذه المبادرات واعتبروها أعمالاً حمائية أميركية، وحروباً تجارية بسبب المناخ.

الأمير عبد العزيز بن سلمان

وأخيراً، أدت أزمة الطاقة في الأشهر الثمانية عشر الماضية إلى توسيع الهوة بين البلدان الغنية والفقيرة. فثمة بلدان كثيرة في العالم النامي تعاظم اعتراضها على إكراهها على تنويع مصادر الطاقة والتخلي عن الوقود الأحفوري، ونددت بارتفاع كلفة الغذاء والطاقة الناجم عن حرب أوروبية.

كذلك، شجبت الدول النامية ما اعتبرته نفاقاً متأصلاً في نحو استجابة العالم المتقدم للأزمة: فبعد سنوات من التذرع بتغير المناخ سبباً لتجنب تمويل البنية التحتية للغاز الطبيعي في البلدان المنخفضة الدخل، على سبيل المثل، تسابقت الدول الأوروبية فجأة من أجل تأمين إمدادات جديدة لنفسها وشيدت بنية تحتية جديدة لتلقي تلك الإمدادات.

وزاد الطين بلة، تعاظم الطلب على الفحم في آسيا، مع قيام أوروبا برفع أسعار الغاز إلى مستويات قياسية. وتركت البلدان النامية والأسواق الناشئة، مثل باكستان وبنغلاديش، تكافح في سبيل توفير الطاقة بأي شكل من الأشكال.

وظهرت هذه التوترات بوضوح في مؤتمر الأمم المتحدة حول تغير المناخ الذي أقيم في مصر في نوفمبر 2022. وكاد بايدن يحتفل بالنصر بسبب إقرار قانون محلي تاريخي للمناخ، لكنه وجد أن ذلك لم يحز على إعجاب الدول الفقيرة.

وعوضاً عن ذلك، سألت تلك الدول: لماذا لا تبذل الولايات المتحدة جهداً أكبر من أجل تمويل التكيف مع تغير المناخ والطاقة النظيفة خارج حدودها، وطالبت نظراءها الأكثر ثراءً بالتعويض عن الضرر الذي ألحقه تغير المناخ بالفعل بمدنها وبالزراعة والنظم البيئية.

وربما تراجعت حدة أزمة الطاقة في الأشهر الأخيرة. ولا يزال الوقت مبكراً جداً قبل أن يحين وقت التراخي. فالانخفاض في الطلب الأوروبي على الغاز العام الماضي نجم في الجزء الأكبر منه عن طقس دافئ بشكل غير عادي واستثنائي، وعن تباطؤ الإنتاج الصناعي، وليس جراء استقرار استهلاك الغاز عمداً.

وعلاوة على ذلك، قد لا تتمكن أوروبا من الاعتماد على كمية كبيرة من الغاز الروسي، في حال توافره، لإعادة ملء خزاناتها العام المقبل. والغاز الروسي الذي تدفق عبر الأنابيب إلى أوروبا طوال عام 2022، ولو بكميات ضئيلة، توقف تدفقه، ويبدو من غير المرجح أن يستأنف. وقد يتعرض الغاز الطبيعي والمسال الروسي الذي ما زال يتدفق إلى أوروبا لضغوط توقفه، وقد تتقلص كميته في الأشهر المقبلة.

وفي الوقت نفسه مع تزايد المخاطر التي تتهدد إنتاج النفط الروسي، من المتوقع أن يرتفع الطلب العالمي ويصل إلى ضعفي المعروض في عام 2023، بحسب وكالة الطاقة الدولية. ويلاحظ أن مخزونات احتياطي النفط الاستراتيجي الأميركي، وهي أداة واشنطن الأولى من أجل ضبط اضطرابات الإمدادات، تقلصت إلى حد كبير.

وإذا بدأت الأسعار في الارتفاع مرة أخرى، فلن يكون أمام الدول الغربية خيار غير اللجوء مرة أخرى، إلى السعودية والإمارات اللتين تتمتعان بمصادر طاقة احتياطية. ومن المفارقات، أنه حين تستضيف الإمارات العربية المتحدة مؤتمر الأمم المتحدة الرئيس المقبل حول تغير المناخ، في نهاية عام 2023، قد يلجأ العالم إلى أبو ظبي لقيادة محاربة تغير المناخ، وللحصول على مزيد من النفط، معاً.

مصادر التوتر

وهناك ثلاثة عوامل رئيسة تؤدي إلى انعدام أمن الطاقة الجديد: عودة التنافس بين القوى العظمى في نظام دولي متعدد الأقطاب ومتعاظم البعثرة، والجهود التي تبذلها دول متعددة من أجل تنويع سلاسل توريدها، وواقع تغير المناخ.

وغزو روسيا لأوكرانيا، ومواجهتها الأوسع مع الغرب، مثال صارخ على بعث طموحات زعيم واحد حالاً من انعدام الأمن في مجال الطاقة تصيب شرائح واسعة من سكان العالم، والحرب في مثابة تذكير بأن سياسات القوى العظمى لم تطو صفحتها بعد.

وقد يتبين أن المنافسة بين الولايات المتحدة والصين أعظم أثراً من المتوقع في نهاية المطاف. فرغبة الولايات المتحدة والصين في عدم اعتماد الواحدة على الأخرى اعتماداً قوياً، تؤدي إلى نظم سلاسل التوريد على شكل جديد، وتنشط السياسة الصناعية في البلدين إلى درجة لم نشهدها منذ عقود.

ورغم مضاعفة الجهود الرامية إلى إنتاج مزيد من الطاقة النظيفة في الداخل، ستبقى الولايات المتحدة، ودول أخرى، ولسنوات قادمة عالة على المصدر الصيني في مجال المعادن الحيوية ومكونات الطاقة النظيفة الأخرى وتقنياتها، وهذا يضعف مناعتها من مبادرات الصين في هذا الحقل.

وأعلنت بكين، في الأشهر الماضية، أنها قد تقيد تصدير التقنيات والمواد والمعرفة [الخبرة الفنية] الخاصة بالطاقة الشمسية كرد فعل على القيود التي فرضتها واشنطن العام الماضي على تصدير أشباه الموصلات والآلات المتطورة إلى الصين. وإذا نفذت بكين هذا التهديد أو قلصت تصدير المعادن المهمة أو البطاريات المتقدمة إلى الاقتصادات الكبرى (تماماً كما قطعت الإمدادات من مواد الأرض النادرة عن اليابان في أوائل عام 2010)، فإن قطاعات واسعة من اقتصاد الطاقة النظيفة قد تصاب بالانتكاس.

وتسدد أقطاب الطاقة التقليدية خطواتها استجابة لتغير المشهد الجيوسياسي على نحو يفاقم من مخاطر أمن الطاقة. وتبدو الرياض أقل اكتراثاً واهتماماً اليوم بالاستجابة إلى التماس واشنطن، العلني أو المضمر، لإمداد أسواق النفط بما يتماشى مع المصالح الأميركية. فرؤية السعودية، على سبيل المثال، إلى مكانتها العالمية مختلفة عن تلك التي كانت سائدة في العقود التي تلت صفقة “النفط مقابل الأمن” الشهيرة التي أبرمها الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت والملك السعودي عبدالعزيز بن سعود.

وفي مواجهة تراجع مفترض أو فعلي في التزام الولايات المتحدة الاستراتيجي تجاه الشرق الأوسط، خلصت الرياض إلى أن الحال يقتضي التوجه نحو تمتين علاقات أخرى، تحديداً مع الصين، أكبر شركائها النفطيين. وقبول السعودية للصين كضامن للتقارب الإيراني – السعودي الأخير يعزز دور بكين في المنطقة ومكانتها العالمية. واكتسبت العلاقات مع موسكو أهمية خاصة في نظر السعودية. وبغض النظر عن غزو أوكرانيا، تظل روسيا شريكاً اقتصادياً أساسياً ومتعاوناً في إدارة تقلبات سوق النفط.

بعض الأقطاب أقل اكتراثاً واهتماماً اليوم بالتماسات واشنطن النفطية

وتلعب المبادرات القوية التي اتخذتها دول كثيرة من أجل توطين سلاسل توريدها الخاصة وتنويعها منذ غزو أوكرانيا، والوباء العالمي، دوراً في إضعاف أمن الطاقة الجديد أيضاً. وتعد إجراءات من هذا النوع أمراً مفهوماً، لا بل حكيماً، في ضوء المخاطر الواضحة والناجمة عن الاعتماد المفرط على بلدان معينة، لا سيما الصين، في العصر الجيوسياسي الجديد.

ويظل نظام الطاقة العالمي المتماسك هو حجر الزاوية في أمن الطاقة، وتبقى الأسواق هي الطريقة الأكثر فاعلية لتوزيع الإمدادات. وقد يؤدي تعاظم الاكتفاء الذاتي إلى إيهام البلدان بقدرة فائقة على الصمود، ولكن قد يعرضها للخطر. ويمكن لسوق عالمية متماسكة أن تخفف الاضطرابات الناجمة عن الطقس المتطرف أو عدم الاستقرار السياسي.

وتحظى أسواق الطاقة الأكثر تجزئة بفرص استفادة قليلة في مثل هذه الظروف. ويهدف قانون تقليص التضخم الأميركي، وخطة الصفقة الخضراء الأوروبية الصناعية، إلى تسريع السعي في بلوغ صافي انبعاثات الكربون الصفرية، كما أنهما يقللان من انعدام أمن الطاقة بشكل ما، من طريق الحد من الاعتماد على الهيدروكربون المتداول عالمياً، والمعرض للمخاطر الجيوسياسية. ولكنهما، في الوقت نفسه يزيدان انعدام الأمن، نظراً لأن تعزيز الصناعات المحلية ينطوي على مخاطر تأجيج الحمائية والتجزئة اللتين قد تقلصان أمن الطاقة في تلك الاقتصادات.

وأخيراً، يشكل تغير المناخ تهديداً كبيراً لأمن الطاقة في العقود القادمة، ويرتب مخاطر على البنية التحتية، القديمة والجديدة. ويعوق ارتفاع حرارة المياه، وأحوال الجفاف الشديدة، تبريد محطات الطاقة، ونقل الوقود، والاعتماد على الطاقة الكهرومائية.

وفي عام 2022، فقدت كاليفورنيا نصف إنتاجها من الطاقة الكهرومائية بسبب الجفاف، واضطرت البرازيل إلى تقنين الكهرباء تقريباً بعد أن فقدت جزءاً كبيراً من طاقتها الكهرومائية. ويشيع هذا النوع من الحوادث مع زوال الكربون لأن نظام الطاقة الذي يعتمد بشكل أقل على الهيدروكربونات يعتمد أكثر على الكهرباء، والطريقة الأقل كلفة لإزالة الكربون من قطاعات مثل النقل والتدفئة تقضي باستخدام الكهرباء عوضاً عن محركات البنزين أو غلايات الغاز الطبيعي.

ووفق تقديرات وكالة الطاقة الدولية، إذا بلغ العالم هدف صافي انبعاثات الكربون في عام 2050، فإن 50 في المئة من استهلاك الطاقة العالمي يفترض أن تلبيه بالكهرباء، مقارنة بـ20 في المئة اليوم. وينبغي أن تكون كل مصادر إنتاج الكهرباء خالية تقريباً من الكربون، وهي زيادة على الـ39 في المئة حالياً.

وهناك جزء كبير من منشآت البنية التحتية المولدة للكهرباء سيتعرض نقلها وتوزيعها لخطر أكبر بسبب تغير المناخ، إذ إن الشبكات الهشة والأسلاك العالية غالباً ما تكون أكثر تعرضاً للطقس المتطرف وحرائق الغابات، والمخاطر المناخية الأخرى. ولتغير المناخ تأثير سلبي على المصادر المتجددة للكهرباء. وفي ذلك الإطار تتوقع الهيئة الدولية المعنية بتغير المناخ IPCC، التابعة للأمم المتحدة، أن ينخفض متوسط سرعة الرياح العالمية بنسبة 10 في المئة، نحو عام 2100، وذلك لأن تغير المناخ يضعف الفرق بين درجات حرارة الغلاف الجوي التي تولد الرياح.

معضلات التنويع

وأحد الحلول لهذه المشكلات مصدره تنويع المعروض. ولا يزال التنويع محورياً لأمن الطاقة بقدر ما كان عليه في عام 1913، عندما أعلن ونستون تشرشل، اللورد الأول للأميرالية آنذاك، أنه “في التنوع والتنوع وحده” تجد المملكة المتحدة حلاً لنقاط الضعف التي نجمت عن قراره تحويل البحرية البريطانية من الاعتماد على فحم نيوكاسل إلى مصادر نفط من بلاد فارس أقل أمناً.

وعلى المدى الطويل، يؤدي التحول إلى الطاقة النظيفة إلى تحسين أمن الطاقة في كثير من الأحوال من خلال تنويع مصادر الوقود والموردين. وعلى سبيل المثال، سيكون قطاع النقل، الذي يعتمد في معظمه حالياً على النفط، أقل عرضة لاضطرابات إمدادات الوقود في عالم يعمل فيه ثلثا المركبات على الطاقة الكهربائية، إذ يمكن توليد الكهرباء من مصادر طاقة متعددة. ولأن إنتاج الكهرباء، في معظمها، قريب من مكان استهلاكها، العالم الذي يعتمد بشكل كبير عليها، أقل عرضة لاضطرابات الاستيراد الناجمة عن النزاعات بين البلدان.

لكن، مع المضي قدماً في عملية التحول الطاقي، وتنويع المستهلكين لمصادر الطاقة التي يستخدمونها وابتعادهم عن الوقود الأحفوري، ستظهر نقاط ضعف وتهديدات جديدة لأمن الطاقة. وحتى مع تراجع استخدام النفط، تزداد المخاطر الجيوسياسية، إذ إن الإنتاج العالمي ينزع إلى التركز في البلدان التي يمكن أن تنتج بكلفة منخفضة وانبعاثات منخفضة، علماً أن كثيراً منها يقع في الخليج العربي.

وفي سيناريو وكالة الطاقة الدولية الذي يبلغ فيه العالم صافي انبعاثات الكربون الصفرية في عام 2050، ترتفع إمدادات النفط العالمية، من منتجي “أوبك” من نحو الثلث اليوم إلى النصف تقريباً. وتتوقع شركة النفط العملاقة “بريتيش بتروليوم” BP اعتماداً عالمياً أكبر على هؤلاء المنتجين، وتقدر أن يتولوا عام 2050، تصدير ما يقرب من ثلثي إمدادات النفط العالمية. وعلى المدى البعيد، ستكون هذه حصة كبيرة من سوق صغيرة، لكن لعقود من الزمن، سيظل الطلب على النفط مرتفعاً جداً، وسيكون له تأثير كبير حتى لو انخفض الطلب السنوي.

وقد يسأل صانعو السياسة في الولايات المتحدة أنفسهم إلى أي مدى يشعرون بالطمأنينة إذا تعاظم تركز إنتاج النفط العالمي في دول “أوبك” فوق مما هو اليوم. في مواجهة ذلك، قد يفكرون في عدد من الخيارات، مثل توسيع مفهوم “الدعم الحليف” الشائع ليشمل النفط، من خلال دعم الإنتاج بشكل أكثر فاعلية في الوطن، وفي بلدان مثل النرويج وكندا التي ينظر إليها على أنها أقل خطورة من إيران وليبيا وفنزويلا، على سبيل المثال. وبعض المسؤولين قد يدعون إلى معاقبة منتجي النفط الأقل وداً من خلال ضرائب الاستيراد أو فرض عقوبات عليها.

منشأة لمعالجة الميثان وتحويله إلى غاز طبيعي في كاليفورنيا، أكتوبر 2019 (مايك بليك رويترز)​​​​​​​

ورغم ذلك، ينطوي اتخاذ مثل هذه الإجراءات لزعزعة السوق، وتعزيز إنتاج النفط في المواقع المفضلة، على مخاطر كبيرة، فمن شأنه أن يقوض الفوائد التي تنتج من إعادة توجيه إمدادات النفط في حالة مواجهة توقف أو انقطاع. وتغامر هذه الإجراءات بإثارة رد عنيف وانتقام من كبار منتجي النفط العالميين في “أوبك”، ما قد يؤدي إلى رفع الأسعار جراء تقييد الإنتاج.

وإلى ذلك، يتعارض دعم الإمداد المحلي مع الجهود الرامية إلى تشجيع المستهلكين على الاستغناء عن الوقود الأحفوري. إذاً، قد يكون النهج الأفضل هو احتضان الأسواق العالمية، وفي الوقت نفسه تعزيز الدفاعات ضد الصدمات والتقلبات الحتمية باستخدام احتياطات نفطية استراتيجية أكبر وليس أقل.

وفي غضون ذلك، تتخطى صعوبة تنويع إمدادات الطاقة النظيفة تنويع إمدادات الوقود الأحفوري. فمصادر التكنولوجيا والمكونات المطلوبة، لا سيما المعادن الضرورية لصناعة البطاريات والألواح الشمسية، أكثر تركزاً من النفط. وأكبر مصدر لليثيوم في العالم (أستراليا)، ينتج نحو 50 في المئة من الإمدادات العالمية، فيما يستأثر الموردان الأساسيان للكوبالت (جمهورية الكونغو الديمقراطية)، ومواد الأرض النادرة (الصين)، بـ70 في المئة تقريباً من هذه الموارد.

وفي المقابل، ينتج كل من كبار منتجي النفط الخام في العالم، أي الولايات المتحدة والسعودية وروسيا، 10 إلى 15 في المئة فحسب من الإمدادات العالمية. ومعالجة هذه المعادن وتكريرها أكثر تركزاً بعد، وتتولى الصين حالياً نحو 60 إلى 90 في المئة من المعالجة. وفي الوقت نفسه تصنع الشركات الصينية أكثر من ثلاثة أرباع بطاريات السيارات الكهربائية، ونسبة مماثلة من الرقائق والخلايا المستخدمة في تكنولوجيا الطاقة الشمسية.

وأدرك صانعو السياسة الأميركيون، أخيراً، مواضع الضعف هذه، وتعاظم حدتها فيما تتقدم مرحلة الانتقال الجارية وتنضج. ويشجع قانون خفض التضخم إنتاج المعادن المهمة في الولايات المتحدة، وأماكن أخرى، ويوفر لها ائتمانات ضريبية، وضمانات قروض للمنتجين المحليين، من بين تدابير أخرى.

ووقعت إدارة بايدن في وقت قريب اتفاقيات مع الكونغو وزامبيا، تضمن زيادة واردات الولايات المتحدة من معادن الطاقة النظيفة. وتدعم مؤسسة تمويل التنمية الدولية الأميركية (DFC) الديون التي تطور تصنيع الخلايا الشمسية خارج الصين.

لكن، في سبيل الحصول على مزيد من المعادن التي تحتاج إليها الولايات المتحدة من مزيد من البلدان الصديقة، لا بد من أن تبرم واشنطن مزيداً من الاتفاقات التجارية الثنائية والمتعددة الأطراف، وتحسن الأدوات المالية على غرار بنك التصدير والاستيراد الأميركي، ويتولى البنك تمويل عمليات التعدين الخارجية في البلدان الحليفة مثل إندونيسيا. وعلى الكونغرس الأميركي تقوية سلطة مؤسسة تمويل التنمية الدولية الأميركية وتعززيها، وتغذية قدرتها على الاستثمار.

وثمة مجال آخر يحتاج إلى مزيد من التنويع وهو اليورانيوم المخصب. ويقدر أن يرتقي دوره مكانة أعلى مع زيادة استخدام الطاقة النووية، على مستوى العالم، وتلبيتها حاجات الكهرباء المنخفضة الكربون. ويعد دور روسيا، كمورد مهيمن لخدمات الوقود النووي إلى كثير من البلدان، بينها الولايات المتحدة، مصدر إزعاج وضعف كبيرين، نظراً إلى الحقائق الجيوسياسية القائمة.

لذا، فإن تعزيز إنتاج اليورانيوم وتحويله وتخصيبه، في الولايات المتحدة وفي بلدان حلفائها الغربيين وتكثيف تصنيعهم لكميات الوقود المستخدمة في المفاعلات الروسية الصنع أمر بالغ الأهمية من أجل الحفاظ على حظيرة المفاعلات النووية الحالية، وبلوغ هدف إزالة الكربون.

بناء قدرة على الصمود

وعلى نظام الطاقة الآمن أن يتمتع بالقدرة على الصمود والتعافي بسرعة من الصدمات والاضطرابات غير المتوقعة. وتعتبر البنية التحتية الموثوقة للطاقة، أولاً، مفتاح هذا النوع من الصمود. ولطالما عملت الحكومات والشركات الخاصة على حماية تلك البنية التحتية من ضروب الأخطار المتفرقة والمترجحة بين الهجمات الإرهابية وبين الأعاصير.

ومع تقدم عملية التحول تحتاج حمايتها إلى تكثيف هذه الجهود. وعلاوة على ذلك، حين تتسع رقمنة اقتصاد الطاقة النظيفة، وتتعاظم حاجته إلى الكهرباء، يعرضه ذلك إلى ازدياد الهجمات الإلكترونية. ولا مناص من توثيق التنسيق والتعاون بين الشركات الخاصة والحكومات في سبيل ردع التهديدات ومواجهتها. ومثال الهجمات الهجوم السيبراني عام 2015 الذي أدى إلى تعطيل الشبكة الكهربائية في أجزاء واسعة من غرب أوكرانيا.

ويحتاج الصمود، من جهة أخرى، إلى بعض المرونة. وتقاس هذه، في قطاع الطاقة، بقدرة الجزء من النظام على التعامل مع الخسائر التي تلحق في الأجزاء الأخرى. ونظراً لأن المصادر المتجددة، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، متغيرة إلى حد بعيد، لا بد من تخزين الطاقة التي تولدها، أو دعم تلك الطاقة بمصادر أخرى، إلى استخدام أنظمة توصيل تجري تعديلات فورية في اللحظة. وهذه مهمة صعبة بالفعل، وتصبح أكثر صعوبة في شبكة كهربائية تستمد مادتها من مصادر طاقة يتواتر تقطعها، وتلبي طلباً على الكهرباء أكثر تنوعاً.

ووفقاً لوكالة الطاقة الدولية، تقاس حاجة نظام الطاقة العالمي إلى المرونة بمقياس درجة التكيف التي تمكن بقية النظام من التعامل مع تغيرات الطلب. ويتوقع أن يتضاعف إنتاج الطاقة الشمسية وطاقة الرياح أربع مرات في عام 2050، إذا التزمت جميع البلدان بتعهداتها المتعلقة بالمناخ. وتطبق هذه التعديلات معظمها في المصانع التي تعمل بالفحم أو الغاز. وفيما تواصل عملية التحول تقدمها، يتقلص عدد هذه المصانع، بالتالي تتردى القدرة على الاستعانة بها كوسيلة دعم.

وعلى صانعي السياسة في الولايات المتحدة، في مواجهة هذه الدينامية، اتخاذ إجراءات تتثبت من أن الحصة المتزايدة من الطاقة المتجددة على الشبكة الكهربائية تقترن بتوازن بين الموارد وبين سعة تخزين. ويقتضي ذلك إنشاء هياكل، على غرار ما يسمى “أسواق منفصلة توفر طاقة كهربائية” capacity markets، تمول المولدات وترعى تلبية ذروة الطلب، ولو لم تكن مستخدمة في معظم الوقت. ويسع هذه الآليات ضمان استمرار الشركات ذات الموارد المتقطعة، وضمان دعمها للمصادر الكهربائية الموثوقة، حتى عندما يؤدي تنظيف الشبكة من الكربون إلى تقليص استخدامها.

لن يتم تعزيز أمن الطاقة من خلال مزيد من الاستقلالية بل من خلال مزيد من التكامل

ويمكن للمسؤولين الاستفادة من أدوات إدارة الطلب الجديدة على الطاقة من دون إزعاج المستهلكين أو التسبب بمشكلات سياسية. وعلى سبيل المثل، يمكن أن تساعد التكنولوجيا الرقمية المستهلكين على نقل الأنشطة التي تتطلب استهلاكاً كثيفاً للطاقة إلى أوقات يتراجع الطلب في أثنائها (مثل تشغيل غسالات الصحون ومجففات الملابس في الليل)، أو تحثهم على توفير الطاقة بضبط درجة حرارة الترموستات على مستوى أقل في الغرف التي لا يأهلونها.

ويؤدي الذكاء الاصطناعي دوراً متعاظماً من طريق تقليل الوقت الذي تتوقف فيه أنظمة الطاقة عن العمل بسبب صيانتها، أو من طريق توقع حجم الطلب، وتحسين التخزين. وكان ممكناً إعمال هذه الأدوات في ديسمبر (كانون الأول) 2022، يوم أساء مشغلو الشبكات الكهربائية في تكساس تقدير كمية الكهرباء التي يحتاج إليها العملاء [توقعوا كمية أقل من تلك التي يحتاج إليها العملاء فعلياً]، وبالكاد تمكنت الولاية من تفادي انقطاع التيار الكهربائي على نطاق واسع. وأخيراً، على المسؤولين تجنب التخلي المبكر عن مصادر الكهرباء العاملة بالوقود الأحفوري والتي في مستطاعها موازنة إمداد الشبكة الكهربائية، وضمان مصدر بديل موثوق قبل أن تجهز البدائل تماماً، وتوفر المستوى اللازم من الخدمة.

وهذا النظام القادر على الصمود يجب تمكينه من تحمل الصدمات غير المتوقعة وانقطاع الإمداد. وعلى مدى عقود، اعتمد صانعو السياسات على نوعين من الاحتياطات الوقائية: الطاقة الفائضة لدى الدول المنتجة للنفط (بخاصة السعودية)، والمخزونات الاستراتيجية التي ينبغي أن يحتفظ بها أعضاء وكالة الطاقة الدولية كجزء من اتفاقية صيغت بعد الحظر النفطي العربي في سبعينيات القرن الماضي. وتبقى تلك الاحتياطات الوقائية مهمة خلال عملية التحول، لا بل تتعاظم أهميتها، على ما تبدو عليه الأمور اليوم، في حال لم يتزامن انخفاض إمدادات واستثمارات الطاقة مع انخفاض الطلب، فيؤدي عدم التزامن هذا، إلى تقليص مرونة تعامل النظام مع الصدمات غير المتوقعة، ويفاقم عدم الاستقرار.

ومع تراجع إنتاج الفحم في الاقتصاد الخالي من الكربون، تتراجع فرص مولدات الطاقة المناوبة بين الغاز الطبيعي والفحم، على ما يفعل كثير منها الآن. وقد يؤدي الأمر هذا إلى مزيد من التقلبات في أسعار الغاز الطبيعي. والحق أن الاضطرابات الأخيرة في قطاع التكرير، وهي أسهمت في الارتفاع الصاروخي لأسعار البنزين والديزل في الولايات المتحدة، ذكرت بأن الاستثمار المحدود في التكرير قد يزعج المستهلكين قبل أن ينجم عن التحول إلى السيارات الكهربائية انخفاض حاد في استخدام الوقود.

ولهذه الأسباب، تتعاظم أهمية المخزونات الاستراتيجية الأخرى من جميع الأصناف، ولا يقتصر ذلك على تلك التي تحتوي على النفط فحسب، بل يشمل تلك التي تحتوي على الغاز الطبيعي ومنتجات النفط مثل وقود الديزل والبنزين.

وتحتاج الولايات المتحدة إلى مخزونات استراتيجية من العناصر الأساسية، وركائز الطاقة النظيفة، والعمل مع حلفائها لتجميع المعادن الحيوية، مثل الليثيوم ومعدن الغرافيت ومواد الأرض النادرة والنيكل. ويعزز هذا التنسيق أداء الوكالة الدولية للطاقة دوراً في التفاوض على الاتفاقات.

وحددت البلدان التي تؤهلها احتياطاتها للمساهمة في التخزين، ورصدت مناسبة المخزونات مع الحاجات الحالية. وأدت وكالة الطاقة الدولية هذا الدور بشكل مثير للإعجاب في ما يتعلق بالنفط ومنتجاته، ويمكنها القيام به مرة أخرى في مجال المعادن الحيوية، إذا اختار أعضاء الوكالة توسيع نطاق صلاحياتها.

التكامل هو الضمانة

وحفزت الرغبة في تعزيز الأمن السعي، المستمر منذ عقود، من أجل “الاستقلال (الأميركي) في مجال الطاقة”، وفي بلدان أخرى. وبسبب ثورة النفط الصخري، أصبحت الولايات المتحدة مكتفية، من حيث القيمة الصافية، ذاتياً، ولكنها لا تزال عرضة للمخاطر الجيوسياسية. ففي السوق العالمية، تؤثر صدمات العرض، في أي مكان، على الأسعار في الأماكن كلها. ولطالما بشر مؤيدو التحول إلى نظام خال من الكربون بتجنب آثار الجغرافيا السياسية في نهاية عصر الوقود الأحفوري. إلا أن ذلك لن يعزز أمن الطاقة من طريق مزيد من الاستقلالية، بل من خلال مزيد من التكامل في العقود القليلة القادمة في الأقل، وعلى ما كانت عليه الحال على الدوام.

وتعمل أسواق الطاقة المترابطة، والجيدة الأداء، على زيادة أمن الطاقة من طريق السماح للعرض والطلب بالاستجابة إلى مؤشرات الأسعار، ويتمكن النظام كله من التعامل على أفضل صورة، مع الصدمات غير المتوقعة. وفي عام 2005، حين تسبب الإعصاران، كاترينا وريتا، في تعطيل كثير من عمليات الإنتاج والتكرير الضخمة في ساحل الخليج الأميركي، وسع شركات الطاقة تجنب نقص الوقود بواسطة استيراد الإمدادات السريع من السوق العالمية. وعلى النحو نفسه، بعد كارثة فوكوشيما النووية في عام 2011، تمكنت اليابان من تجميد قطاع الطاقة النووية موقتاً، واستطاعت أن تستورد الوقود من مصادر السوق العالمية.

اجتماع في محطة للطاقة النووية بالقرب من يوجنوكرانسك، أوكرانيا، يناير 2023، (ناتشو دوسيس، رويترز)​​​​​​​

ولكن الحفاظ على التماسك، وتعزيزه في الظروف الحالية، أكثر صعوبة من أي وقت رسخ في الذاكرة الحديثة. فالبلدان تتبنى، في أنحاء العالم، سياسات صناعية يترتب عليها تعاظم تدخل الدولة في الأسواق. وعلى رغم أن هذه الجهود قد تعود بالنفع على هذه الدول، فتقلل تعرض الأسواق لنزوات الخصوم الجيوسياسيين إلى الحد الأدنى، يرغب عدد من صانعي السياسة في الذهاب أبعد من ذلك، والترويج لمثل هذه السياسات كوسيلة لتنشيط سوق العمل المحلية، وبناء تحالفات سياسية تغذي إقرار إجراءات أقوى في شأن البيئة.

وعلى رغم أن دبلوماسية المناخ ارتكزت طوال سنوات، على افتراض أن التقدم يعتمد على التعاون الدولي، تغامر بعض الجهود المبذولة من أجل إحراز تقدم في سياسة المناخ، بتقويض التعاون على مذبح تأجيج قوى التشرذم والحمائية.

وعانت مسألة تكامل الطاقة الأمرين جراء حاجة أوروبا الملحة إلى الاستقلال عن الطاقة الروسية أثناء الحرب في أوكرانيا. وعلى رغم أن الشعور بالصدمات، في نظام متكامل، أوسع وأعم، فإنه أقل حدة منه في نظام مجزأ. فالتكامل هو شكل من أشكال التأمين الذي يوزع مخاطر انقطاع إمدادات الطاقة على أطراف متفرقة.

وعلى رغم أن الأولوية تعود إلى إنجاز مزيد من الاستقلال الذاتي، وليس لمزيد من التكامل، فليس ممكناً زيادة إنتاج الطاقة النظيفة بالحجم والسرعة اللازمين، إذا سعت كل دولة إلى الإنتاج والاستهلاك داخل حدودها الوطنية فحسب. وتوصي وكالة الطاقة الدولية، بمضاعفة قيمة التجارة العالمية في المعادن الحيوية ثلاثة أضعاف من أجل تحقيق صافي انبعاثات صفرية في عام 2050.

وتحتاج التجارة العالمية في أنواع الوقود المنخفضة الكربون، مثل الهيدروجين والأمونيا، إلى نمو كبير. وترى الولايات المتحدة، أن أمن الطاقة يقتضي عدداً أقل من الحواجز التجارية، ومزيداً من الاتفاقات التجارية مع الحلفاء، ومع الدول الأخرى التي تفي بمعايير بيئية معينة.

ولذا، على واشنطن إلغاء الرسوم الجمركية على السلع والتقنيات التي تحتاج إليها الطاقة النظيفة، والمساعدة على وضع الصيغة النهائية لـ”اتفاقية السلع البيئية” Environmental Goods Agreement التي من شأنها أن تخفض الرسوم الجمركية على السلع المفيدة للبيئة وتقلص كلفتها، وتزيد تداولها.

ما لا تعرفه يمكن أن يضرك

وأحد الأسباب التي حملت الولايات المتحدة وكندا واليابان، وعدداً من الدول الأوروبية، على إنشاء وكالة الطاقة الدولية في عام 1974، هو الافتقار إلى بيانات دقيقة وموثوقة بالأسعار والإمدادات، والحيلولة دون صياغة الحكومات سياسات تستجيب للأزمات. كان الدرس واضحاً: البيانات الجيدة تسمح للأسواق بالعمل، وتمنع الذعر، وتردع المضاربة التي تؤدي إلى تفاقم الارتفاع الحاد في الأسعار والتقلبات والنقص. وعلى مر العقود، عززت بيانات الوكالة الدولية للطاقة، إلى البيانات التي جمعها منتدى الطاقة العالمي، عملية صنع القرار في مسائل مستويات الإنتاج، والإجراءات الموجهة مثل الإفراج المنسق عن النفط المخزن.

ويحتاج اقتصاد الطاقة النظيفة إلى النوع نفسه من الشفافية. وقد تتسبب البيانات غير الكافية في الأسواق الناشئة، الخاصة بالأمونيا الخضراء والهيدروجين الأخضر، في اضطراب الإمدادات، ونقص السيولة، والافتقار على تقويم الأسعار الفورية. وجميعها تؤدي إلى تقلبات حادة في الأسعار.

ويعتمد تحول الطاقة، بشكل كبير، على السوق للحصول على المعادن الحيوية، مثل النيكل. وتذكر المستثمرون كيف يمكن أن يؤدي انعدام شفافية السوق إلى تقلبات شديدة، عندما تضاعف سعر النيكل، في بورصة لندن للمعادن، أربع مرات تقريباً في غضون يومين فقط، في أوائل عام 2022، بسبب بيع علني هائل نجم جزئياً عن صفاقة التسعير.

اعتقدت الولايات المتحدة أن أيام التوسل للسعودية لكي تزيد إنتاج النفط قد ولت

وتمتلك بعض الشركات الخاصة اليوم معلومات جيدة عن الأسعار، ولكن ليس ثمة كيان واحد يجمع بيانات واسعة، على مستوى القطاع كله، ويتيحها للعلن. وتعتبر وكالة الطاقة الدولية المرشح الأبرز للاضطلاع بهذا الدور. وتشترط الوكالة على الحكومات تشارك بيانات الاستهلاك والإنتاج العائدة إلى المعادن، وتقديم استنتاجات موثوقة حول مستويات المخزون.

ويضطلع تبادل البيانات بدور راجح في ضمان الامتثال إذا وافقت الحكومات على إنشاء مخزونات استراتيجية، كما هي حال النفط. ولكي يعمل نظام من هذا النوع على نحو مجد، يتعين على وكالة الطاقة الدولية دمج دول ليست أعضاء في المنظمة، ولكنها تنتج أو تستهلك كميات كبيرة من تلك المعادن في نظامها، وهو أمر يتطلب بدوره إطاراً قانونياً جديداً للوكالة.

وفي الوقت نفسه على المنظمين المحليين، مثل لجنة تداول السلع الآجلة في الولايات المتحدة U.S. Commodity Futures Trading Commission، اشتراط مزيد من الشفافية في تسعير السلع وتداولها، وذلك في سبيل الحيلولة دون المضاربة والتلاعب بالسوق.

الأمن والمناخ

وفي عالم يتمتع بوفرة الطاقة وبأسواق عالمية متكاملة وفعالة، لم تتضاءل أهمية أمنها. وتتاح لصانعي السياسات الآن فرصة النظر في أمن الطاقة، وأمن المناخ من جديد، والإقرار بالأهمية المناسبة لكليهما، وإدراك ترابطهما الوثيق.

ويقتضي هذا الجهد الاعتراف بأن أمن الطاقة ليس مفهوماً ثابتاً، بل هو مفهوم تطور كثيراً منذ أزمات السبعينيات. وعلى صانعي السياسات استيعاب المخاطر الجديدة على أمن الطاقة، وتحديث نظم أدواتهم المستخدمة في مكافحة تلك المخاطر. والقيام بذلك لا يصرف الانتباه عن معالجة تغير المناخ، بل هو أمر محوري فيه. فمن دون هذا التحول، قد تعرقل أزمات الطاقة السعي إلى تحقيق صافي الانبعاثات الصفرية.

وفي أمس قريب، اعتقد المسؤولون والخبراء أن المخاوف المفرطة في شأن أمن الطاقة قد تعوق الكفاح من أجل قضية المناخ. أما اليوم، فالعكس هو الصحيح: ففي ضوء إحراز عملية التحول الجارية تقدماً نحو عالم خالٍ من انبعاثات الكربون، الخطر الأكبر على المناخ مصدره الاهتمام غير الكافي بأمن الطاقة.

*جيسون بوردوف هو المدير المؤسس لمركز سياسة الطاقة العالمية في مدرسة الشؤون الدولية والعامة بجامعة كولومبيا، والعميد المؤسس المشارك في مدرسة المناخ بجامعة كولومبيا. في عهد إدارة أوباما، عمل مساعداً خاصاً للرئيس وكبير المديرين لشؤون الطاقة وتغير المناخ من ضمن موظفي مجلس الأمن القومي.

**ميغان إل. أوسوليفان، مديرة معينة لمركز بلفر للعلوم والشؤون الدولية، وبروفيسورة “كرسي جين كيرباتريك لممارسة الشؤون الدولية” في كلية هارفرد كينيدي. وفي عهد إدارة جورج دبليو بوش، عملت مساعدة خاصة للرئيس ونائبة مستشار الأمن القومي للعراق وأفغانستان.

الترجمة من جريدة إندبندنت عربية 

لقراءة المقال من مصدره باللغة الإنكليزية 

https://www.foreignaffairs.com/world/energy-insecurity-climate-change-geopolitics-resources

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى