أمن الطاقة وأمن المناخ:
بين فضيلة الدمج ورذيلة الفصل (2 من 2)
تبين في الجزء الأول من هذا التحليل أن معاداة أميركا للوقود الأحفوري يمثل تحولاً جذرياً في نظرتها لنظام الطاقة العالمي. وبالتالي في تعاملها مع الجغرافية السياسية المرتبطة بهذا النظام. وسنحاول في الجزء الثاني الإجابة على التساؤلات الثلاثة المطروحة.
هل يمكن التخلي عن الوقود الأحفوري، أم هي مجرد آمال أقرب إلى الأوهام ؟
نستعير الإجابة من رئيس «أرامكو السعودية» أمين الناصر الذي وصف السياسات المتسرعة للتحول من الطاقة الأحفورية إلى المتجددة، بأنها «مجرد قصور من الرمال جرفتها أمواج الواقع». وهذا الواقع بات معروفاً وملموساً. وتكفي الإشارة السريعة إلى بعض المعطيات لارتباطها بالتطورات المرتقبة؛ وأهمها:
- أسقطت حرب أوكرانيا “الأوهام” التي أطلقها معظم السياسيين والأكاديميين في الدول الغربية، بانتهاء عصر الطاقة الأحفورية. وبأن نظام الطاقة المتجددة سيسهم في حل مشكلة تغير المناخ. وسيسهم بإنهاء عصر الجغرافيا السياسية «المزعجة» لنظام الطاقة الأحفورية كما وصفته وسائل الإعلام الغربية.
رئيس أرامكو: السياسات المتسرعة للتحول من الطاقة الأحفورية، مجرد قصور من الرمال جرفتها أمواج الواقع
- واجهت أوروبا أحد أخطر أزمات الطاقة في تاريخها بسبب انقطاع إمدادات الغاز الروسي. وبسبب عدم وجود طاقات فائضة في العالم. وعاشت كافة الدول الأوروبية ومعها أميركا «حالة طوارئ» لتمرير فصل الشتاء الحالي. ولكن بدون حلول جذرية لفصول الشتاء القادمة.
- أعادت الأزمة إحياء هاجس أمن الطاقة الذي ظن الأوروبيون أنه بات من الماضي. واضطروا إلى تقديم تنازلات مهمة على مستويات ثلاثة هي:
- تنازلات سياسية لأميركا ولكل الدول المنتجة للغاز مثل قطر والجزائر وتركيا لتوفير احتياجاتها من الغاز، ولو بأسعار مرتفعة.
- تنازلات اقتصادية واجتماعية نجمت عن ارتفاع الأسعار إلى أعلى مستوى لها في 14 عاماً. تمثلت باعتماد إجراءات قاسية لتخفيض الاستهلاك والتقشف حتى في تدفئة المنازل وفي توفير المحروقات والكهرباء للمصانع والشركات. فتم تخفيض الإنتاج الصناعي وإقفال مئات المؤسسات. واضطرت الحكومات الأوروبية إلى إنفاق حوالي 800 مليار يورو لحماية الشركات والأسر من ارتفاع كلفة الطاقة.
معضلة تركيز إنتاج النفط في دول معدودة، تعتبر بسيطة مقارنة بالتركيز في إمدادات الطاقة النظيفة التي تهيمن عليها الصين
- تنازلات عن التزاماتها بالتغير المناخي والعودة القوية ليس إلى الغاز والنفط بل إلى الفحم الحجري.
- أكدت الأزمة صعوبة تغيير الجغرافيا السياسية لنظام الطاقة القديم. خاصة في ظل صلابة تكتل الدول المنتجة للنفط والغاز على قاعدة حماية مصالحها رغم الخلافات السياسية بينها. كما أكدت لأميركا والدول الغربية أن زمن استرضاء هذه الدول لم ينته.
التساؤل الثاني: هل تكون الصين هي الأقدر على التحكم بالطاقة المتجددة. فتكون أميركا الهاربة من تحكم الدول النفطية، كالمستجير من الرمضاء بالنار؟
لخص السيناتور الديمقراطي الأميركي جو مانشين الإجابة بالقول: «لا أريد الوقوف في طابور لكي أشتري بطارية صينية لسيارتي، يذكرني بطابور السيارات في سبعينات القرن الماضي لشراء محروقات الشرق الأوسط».
يبدو ان الإرتهان للنفط ومعضلة تركيز إنتاجه في دول معدودة، تعتبر بسيطة مقارنة بمعضلات التركيز في إمدادات الطاقة النظيفة. ففي مجال النفط لا تتجاوز حصة أكبر ثلاث دول منتجة مجتمعة (أميركا، السعودية، روسيا) 15 في المئة من الإمدادات العالمية.
سيناتور أميركي: لا أريد الوقوف في طابور لشراء بطارية صينية، يذكرني بطابور شراء محروقات الشرق الأوسط
أما في مجال الطاقة النظيفة، وبمعزل عن التكنولوجيا المحتكرة من قبل دول وشركات معدودة. هناك تركيز شديد للمعادن والأتربة النادرة الضرورية لصناعة البطاريات والألواح الشمسية. ومثال ذلك، احتكار أستراليا وحدها لحوالي 50 في المئة من إنتاج الليثيوم. واحتكار الصين وجمهورية الكونغو الديمقراطية حوالي 70 في المئة من إنتاج الكوبالت. واللافت هنا، قيام الصين في 2016 بشراء أكبر منجم للنحاس والكوبالت في العالم من حكومة الكونغو ما رفع حصتها المباشرة إلى عشر الإمدادات العالمية.
اقرأ: بين أمن الطاقة وأمن المناخ: إرتبكت أميركا وأربكت العالم (1 من 2)
أما الأدهى، فهو هيمنة الصين على معالجة وتكرير وتصنيع، وعلى سلاسل إمداد المكونات الرئيسية للطاقة المتجددة بنسبة تتراوح بين 60 و 90 في المئة. فهي تحتكر مثلاً إنتاج نحو 75 في المئة من بطاريات السيارات الكهربائية، ونسبة مماثلة من الرقائق والخلايا المستخدمة في الطاقة الطاقة الشمسية.
وما ينطبق على طاقة الشمس والرياح، ينطبق إلى حد كبير على الطاقة النووية، التي تشكل الضمانة لاستقرار إمدادات الكهرباء منخفضة الكربون. فيلاحظ ان روسيا تهيمن بشكل كامل تقريباً على إمدادات الوقود النووي لمختلف دول العالم بما فيها أميركا نفسها.
نفاق متأصل
يبدو ان أميركا صدمت بمدى هشاشة نظام الطاقة العالمي الوليد. ومدى عمق الحاجة للوقود الأحفوري لسنوات انتقالية طويلة. ولذلك اندفعت لمعالجة هذه الأوضاع من خلال سلسلة من السياسات والقوانين والإجراءات. تبين سريعاً أنها لم تكن ضعيفة النتائج وحسب بل ساهمت في تعميق المشكلة. ويمكن تقسيم هذه السياسات ونتائجها إلى قسمين:
الصين تحتكر إنتاج 75 في المئة من بطاريات السيارات ورقائق الطاقة الشمسية وروسيا تهيمن على إمدادات الوقود النووي
الأول؛ غض النظر، وأحياناً تشجيع مستتر لزيادة الاستثمارات في النفط والغاز داخل أميركا، وفي دول “حليفة جداً” خاصة في أوروبا. مع مواصلة التشدد ضد دول أوبك بلس والدول النامية الأخرى. وهو ما اعتبرته هذه الدول «نفاق متأصل» على حد تعبير مجلة فورين أفيرز. خاصة وان ذلك تزامن مع تلكؤ بل رفض الدول الغنية مساعدة الدول الأقل نمواً في الانتقال إلى الطاقة النظيفة. وكذلك في الوفاء بالتزاماتها بالتعويض عن أضرار التغير المناخي الذي تسببت به. وتجلى ذلك في معارضة تمويل صندوق الأضرار والخسائر خلال مؤتمر «كوب 27» في مصر.
الثاني؛ حملة شعواء للتخلص من الارتهان للصين في المواد الخام والمكونات الصناعية المرتبطة بالطاقة النظيفة. وكان أبرز ملامح هذه الحملة قانون خفض التضخم الذي ينص على إنفاق حوالي 370 مليار دولار لتعزيز الصناعات الخضراء وخفض انبعاثات غازات الدفيئة وتشجيع إنتاج المعادن النادرة محلياً ونقل الأنشطة المرتبطة بالطاقة النظيفة إلى أميركا. وقد أشعلت هذه الحملة نزعة الحمائية الوطنية. وساهمت في إثارة قلق وغضب أقرب حلفاء أميركا خاصة اليابان وأوروبا. إذ أعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، في يناير الماضي عن قانون أوروبي مماثل لقانون خفض التضخم الأميركي.
يركز القانون على زيادة تمويل وتشجيع الأنشطة المرتبطة بالطاقة النظيفة. كما أعلنت الدول الأوروبية رفضها المطلق للسياسات الأميركية الهادفة لتقييد التعامل مع الشركات الصينية. ويرجع ذلك إلى أن هذه الدول تعتمد بنسبة تتجاوز 95 في المئة على الصين لتوفير احتياجاتها من المعادن النادرة وبعض مكونات تصنيع بطاريات السيارات والألواح الشمسية ومولدات الطاقة.
فوررين أفيرز: الخطر الأكبر على أمن المناخ مصدره الاهتمام غير الكافي بأمن الطاقة
ويرجح ان تتراجع أميركا عن سياستها الحمائية بشكل جزئي لاستيعاب الغضب الأوروبي. وهو ما ألمح إليه الرئيس بايدن بإقراره «وجود بعض الثغرات في القانون التي يمكن معالجتها لتسهيل مشاركة الدول الأوروبية». في حين توقع المستشار الألماني أولاف شولتز «التوصل إلى حل وسط لتبديد المخاوف وتجنب اندلاع حرب تجارية».
هل تؤدي التطورات إلى ترسيخ «اللامركزية الطاقوية»، فتعزز قوة القوى الإقليمية على حساب الصين وأميركا. أم يتم دمج «الأمنين» وإعادة تقاسم العالم .
تتوقف الإجابة على جملة معطيات متغيرة. ومنها
- مدى سرعة وعمق اقتناع الولايات المتحدة بأنها لم تعد القطب الوحيد في العالم. وبأن الصين باتت قطباً ثانياً مكتمل المواصفات. وبأن القوى الإقليمية الكبرى باتت أكثر استقلالية. وهو ما يؤدي تلقائياً إلى وقف استخدام الطاقة بشقيها الأحفورية والمتجددة كسلاح في الصراع الجيوسياسي.
- إعادة الاعتبار لمفهوم أمن الطاقة الذي يشكل النفط والغاز عنصراً أساسياً فيه. وهو ما تؤكده وكالة الطاقة الدولية نفسها، باعترافها أن الوقود الأحفوري سيبقى مكوناً رئيسياً في مزيج الطاقة حتى لو تحقق هدف الحفاظ على زيادة حرارة الأرض بأقل من 1.5 درجة مئوية.
- وقف تدخل الحكومات في عمل أسواق الطاقة. وكان آخر تجلياته حظر استيراد النفط الروسي وفرص سقف للأسعار ومطالبة أوبك بلس زيادة إنتاجها. وعدم التضحية بأمن الطاقة على مذبح الحمائية وأوهام «الاستقلال» الطاقوي.
قال ونستون تشرشل عام 1913: التنوع والتنوع وحده هو الحل لمشكلة تحويل البحرية من فحم نيوكاسل إلى نفط “بلاد فارس”
4. يعتبر تكامل الأسواق وحرية عملها أكثر إلحاحاً بالنسبة للطاقة المتجددة التي تتسم بعوامل صعوبة النقل والتخزين وتعرض الإنتاج لعوامل الطقس. ما يتطلب «حل مشكلة التكامل والربط لمواجهة أي انقطاع أو نقص في أي جزء. فأمن الطاقة لا يتحقق بالاستقلالية وإنما بالمزيد من التكامل» وفقاً لوكالة الطاقة الدولية.
5. إن أمن الطاقة وأمن المناخ يكمل أحدهما الآخر. وتحذر مجلة فورين أفيرز من «النزعة الاستقلالية والحمائية واعتبار امن الطاقة ثانوياً مقارنة بالتغير المناخي… فالخطر الأكبر على أمن المناخ مصدره الاهتمام غير الكافي بأمن الطاقة».
أما الحل، فنستعيره من ونستون تشرشل. وقدمه عام 1913 حين كان اللورد الأول للأميرالية بقوله «التنوع والتنوع وحده يوفر الحل لنقاط الضعف التي نتجت عن قرار تحويل البحرية من الاعتماد على فحم نيوكاسل إلى مصادر النفط من “بلاد فارس” الأقل أماناً ».