البنك الدولي بين تمويل التنمية والمناخ:
بايدن يعتبر بانغا «القائد التحويلي» (2 من 2)
أوضحنا في الجزء الأول أسباب إصرار أميركا ومجموعة دول السبع على تحويل أنشطة البنك الدولي من تمويل التنمية إلى تمويل المناخ. وكذلك اسباب رفضهم زيادة رأس المال لتمويل النشاطين معاً. كما أوضحنا بالمقابل أسباب رفض الصين والدول النامية تحويل الأنشطة وكذلك إصرارهم على زيادة رأس المال.
بانغا: صمام آمان، أم فتيل تفجير
كانت موافقة مجلس محافظي البنك الدولي، على تولي أجاي بانغا منصب الرئيس، مؤكدة بعد أن رشحه الرئيس جو بايدن. فقد جرت العادة أن يتم «انتخاب» من يعينه الرئيس الأميركي. وحرصت الإدارة الأميركية على تسويق بانغا، «كمرشح توافقي» ومتفهم لمصالح الدول النامية بسبب أصوله الهندية. وكقيادي ناجح نظراً لانجازاته الكبيرة في شركة ماستركارد، دون أن يكون واضحاً ما هي الصلة بين بطاقات الائتمان، وتمويل التنمية ودهاليز السياسة الدولية. ولذلك فقد يكون المطلوب بعض الوقت للتأكد كيف سيدير السيد أجاي بانغا الخلافات المستعصية داخل البنك، وهل سيكون صمام آمان أم فتيل تفجير؟
وزيرة الخزانة الأميركية: إعادة تشكيل البنك الدولي لجعله رائداً في معركة المناخ والديون
ولكن يبدو أن «المكتوب يقراُ من عنوانه»، كما يقال. فقد كان لافتاً إعلان بانغا المبكر موقفه من القضية المفتجرة وهي تحويل الأنشطة وزيادة رأس المال بقوله: «لست مهتماً بقياس حجم البنك الدولي، فأنا مهتم بجعل حياة أحفادي أفضل». وهو قول يتضمن «تكراراً بليغاً» لتصريحات المسؤولين الأميركيين الداعية إلى التركيز على تمويل المناخ بدل التنمية، التي لا تحتمل التأويل أو التفسير. ويبقى أهمها تصريح الرئيس بايدن الذي جاء فيه: أريد أن أهنئ أجاي بانغا، الذي «سيكون قائدا تحويليا» وسيساهم في توجيه المؤسسة لمواجهة التحديات العالمية التي تؤثر بشكل مباشر على مهمتها الأساسية المتمثلة في الحد من الفقر، بما في ذلك تحدي تغير المناخ». وقال «أتطلع إلى العمل مع أجاي ودعم جهوده لتحويل البنك الدولي. وتولت وزيرة الخزانة جانيت يلين تفسير ما قد يكون ملتبساً، بقولها بقولها: «سنقوم بإعادة تشكيل البنك الدولي لجعله رائداً في معركة المناخ والديون». وتراهن الإدارة الأميركية على بانغا لتنفيذ أجندة التغيير بقوة أكبر بكثير من سلفه «المتردد وغير المتعاون» ديفيد مالباس.
بانغا بمواجهة المدراء التنفيذيين
لكن «حسابات حقل» بانغا وأميركا قد لا تكون مطابقة «لحسابات بيدر» كبار موظفي البنك والدول الداعمة لهم. ومعروف ان هؤلاء الموظفين يلعبون دوراً كبيراً في تنفيذ أو عرقلة السياسات والتوجهات. خاصة وان العديد منهم يمثلون توجهات وسياسات الدول النامية أو الدول المعارضة لتفرد أميركا مثل الصين وبعض الدول الأوروبية.
ممثل 23 دولة إفريقية: لنكن واضحين جداً، نعارض تمويل تغير المناخ على حساب التنمية
وبدأت بالفعل تتصاعد الأصوات المعارضة لتغيير نموذج عمل البنك. وكان أبرزها وأكثرها دلالة من حيث القوة التنظيمية، البيان الصادر عن لجنة التنمية في البنك وجاء فيه إن “الإجراءات المقترحة لزيادة الموارد المالية غير كافية لوحدها لتلبية الاحتياجات الهائلة”. وأكد البيان على «ضرورة التركيز على مكافحة الفقر مع معالجة تغير المناخ في الوقت نفسه».
وجاء الرد الحاسم الذي يوحي بحجم المواجهة المرتقبة، على لسان عبدالسلام بيلو ممثل 23 دولة إفريقية في البنك الدولي بقوله: «لا ننكر خطورة مشكلة الاحتباس الحراري، ولكن يجب أن نكون واضحين جداً، نحن نعارض أن يتم تمويل تغير المناخ على حساب التنمية».
الحل.. يعرضه موظفو البنك بالإعلام
لما كان «أهل مكة أدرى بشعابها»، فإن الحل تضمنه تقرير بالغ الأهمية لثلاثة من كبار المدراء التنفيذيين الحاليين في البنك الدولي. والمفارقة ان التقرير نشر الشهر الماضي في دورية بوليتيكو بالتزامن مع اجتماعات الربيع. ما يؤشر إلى انتقال الخلاف من المكاتب إلى وسائل الإعلام. وما يؤشر أيضاً إلى غياب الديمقراطية والتفرد بالقرارت وبرسم السياسات في البنك. وهو ما أشار إليه صراحة الكاتب المعروف هوارد فرانش Howard French في دورية فورين بوليسي في أبريل الماضي، بقوله: «إن جهود البنك الدولي لترويج الديمقراطية الغربية في دول الجنوب، لا تتوافق مطلقاً مع الممارسة غير الديمقراطية في عمله».
ثلاثة من كبار مدراء البنك ينشرون تقريراً في دورية بوليتيكو ينتقدون فيه التوجهات الجديدة ويطرحون الحل
على أي حال، ذكر التقرير أن مجموعة البنك الدولي مجهزة بشكل فريد لتعبئة التمويل اللازم لمواجهة التحديات العالمية. لكن ذلك يتطلب إجراء إصلاحات جدية وتطوير الاستراتيجيات وآليات التمويل لتتماشى مع احتياجات البلدان النامية. وحدد التقرير أربعة مجالات على الأقل تحتاج إلى مزيد من العمل لإصلاحها قبل الاجتماعات السنوية في أكتوبر المقبل وهي:
أولاً: إعادة تأكيد الالتزام بتعزيز النمو الاقتصادي المستدام والشامل والمرن. باعتباره أفضل وسيلة لتحقيق هدفي البنك المتمثلين في إنهاء الفقر المدقع وتعزيز الرخاء. خاصة بعد أن أثبت البحث الذي أجراه البنك استحالة تحقيق هدف إنهاء الفقر المدقع بحلول عام 2030.
ثانيًا: ضمان ممارسة البلدان منخفضة الدخل دوراً أكبر في صياغة أجندة التنمية. وعدم فرض أجندات جاهزة عليها كالحد من انبعاثات غازات الدفيئة، من خلال حرمانها من القروض أو اعتماد شروط مشددة ومرهقة. وكذلك ضمان توزيع عادل للقروض والمعونات الإنمائية بين الدول منخفضة الدخل والدول متوسطة الدخل.
ثالثاً: لا يستقيم الحديث عن زيادة القدرة المالية للبنك لتمويل أنشطة التغير المناخي والطاقة النظيفة، بدون تنفيذ الدول الغنية لالتزاماتها في هذا المجال. ومنها على سبيل المثال مبلغ الـ 100 مليار دولار سنوياَ للتخفيف من آثار تغير المناخ والتكيف معه. والتزامات القطاع الخاص بتعبئة تريليون دولار للعمل المناخي. والتزام مجموعة السبعة بجمع 600 مليار دولار لاستثمارات البنية التحتية العالمية. كما يجب أن يترافق توسيع زيادة القدرة المالية سواء بزيادة رأس المال أو بتعديل معيار كفاية رأس المال، بإصلاح شامل لنموذج تمرير التكلفة لضمان عدم تحميل البلدان المستفيدة أعباء ديون لا يمكن تحملها.
وزير المناخ الدنماركي: يجب التأكد أن لا تضر “خضرنة البنك” بجهود مكافحة الفقر
رابعاً: تطوير سياسات مرنة للموازنة بين هدفي مكافحة الفقر والتغير المناخي. إذ أن السماح لجهود المناخ أن تلقي بظلالها على الأهداف الأوسع للبنك الدولي سيكون بمثابة ظلم خطير، وهو ليس الإستراتيجية الأكثر كفاءة. ويمكن مثلاً أن يتم توجيه تمويل التغير المناخي للدول ذات الدخل المتوسط الأعلى. وفي المقابل التركيز على تمويل مكافحة الفقر في دول الدخل المنخفض، مع التغاضي عن معايير المناخ. خاصة وان البحث الذي أجراه البنك الدولي، أوضح أنه إذا تمت مضاعفة انتاج الكهرباء المولدة بالغاز في دول أفريقيا جنوب الصحراء بمعدل 3 مرات، فإن انبعاثات الكربون العالمية لن تزيد بأكثر من 0.6 في المئة. وذلك ما أكده وزير سياسة المناخ الدنماركي بقوله: « يجب التأكد أن لا تضر “خضرنة البنك” بجهود مكافحة من الفقر».
وليبقى السؤال قائماً، هل تكون أهداف التغير المناخي «كلمة حق أريد بها باطل» وهو توظيف موارد البنك الدولي في الصراعات السياسية وفي معركة شيطنة الوقود الأحفوري؟