الهيدروجين الطبيعي: الثروة المهملة والمجهولة
- هل هناك مخزونات ضخمة ومتجددة من الهيدروجين الطبيعي أو الأبيض، تعمدت الدول الصناعية وشركات النفط إهمالها ؟
- هل بدأ تكوين منظومة معرفية وإيجاد بنية تحتية لاستغلال الهيدروجين ؟
- هل للهيدروجين الطبيعي والأخضر تأثيرات ضارة على البيئة والمناخ؟
هناك شواهد لا تحصى على وجود مخزونات ومكامن اليهدروجين الطبيعي أو الأبيض ويوصف أحياناً بالذهبي، في مختلف أنحاء العالم. ومنها ما هو ظاهر للعيان منذ مئات السنوات، على شكل لهب متصاعد من شقوق الأرض. وربما يكون أكثرها شهرة وطرافة تلك الموجودة في منطقة يانارتاس بجنوب تركيا القريبة من جبل كيميرا. ففي حين جسدت الأساطير اليونانية القديمة، ذلك اللهب على شكل “وحش كيميرا” الشهير الذي ينفث النار. فإن أهل المنطقة يستخدمونه اليوم لتسخين الشاي وطهي الطعام خلال رحلات التنزه.
وإذا كان لهب “وحش كيميرا” ليس هيدروجيناً نقياً بل يحتوي على غاز الميثان وغيره، ، فهناك عشرات الدراسات الجيولوجية والتجارب الموثقة في خزائن شركات النفط والحكومات عن وجود مخزونات وحقول للهيدروجين النقي. من أبرزها حقل ضخم في منجم ملح ليوبولدشال في ألمانيا تم اكتشافه في العام 1910. حيث جرى رصد تدفق متواصل للهيدروجين لمدة خمس سنوات. وبئر آخر للهيدروجين النقي بنسبة 80 في المئة في جزيرة يورك الأسترالية تم اكتشافه في العام 1930. ولكن الشركة التي اكتشفته سارعت إلى إغلاقه لأنها كانت تبحث عن النفط.. وهناك حالياً عشرات المكامن والحقول الموثقة في 15 دولة. من بينها حقل نبراسكا في أميركا المكتشف في 2019. وليبقى حوض ساو فرانسيسكو في البرازيل أكثرها أهمية حيث يتسرب منه الهيدروجين النقي بمعدل مئات الكيلوغرامات يومياً.
أما البئر الأكثر شهرة، فهو بالطبع بئر قرية بوراكيبوغو في مالي. الذي تم اكتشافه صدفة في ثمانينات القرن الماضي خلال حفر آبار للمياه. وتم إهماله حتى العام 2012، حين قررت شركة هايدروما الكندية إعادة فتح البئر وتقييمه. وفوجئت بأن نسبة نقاء الهيدروجين تبلغ 98 في المئة وأن ضغط المكمن ثابت. فقامت ببناء محطة صغيرة لتوليد الكهرباء لا تزال تعمل حتى اليوم.
ما يعيق الاستغلال
أدى الإهمال المتعمد لطاقة الهيدروجين، إلى وجود مشاكل فنية ولوجستية ومعرفية تعيق استغلالها. وللدلالة على ذلك نشير إلى أنه تم خلال القرن الماضي، مراكمة معارف شبه كاملة عن الوقود الأحفوري. يشمل ذلك كيفية التكوين، المكامن والحقول والاحتياطيات، التقنيات والبنية التحتية المتعلقة بالاستكشاف والإنتاج والتكرير والنقل والاستخدام الخ…
أما بالنسبة للهيدروجين الطبيعي، فالبشرية لم تراكم أي معارف بعد. وهناك انقسام بين العلماء والشركات والحكومات حول قضايا بديهية مثل كيف يتكون، وهل هناك مخزونات ثابتة في مكامن مغلقة، وما هو حجم المخزونات. ولكن هناك شبه اتفاق اليوم على أن الهيدروجين الطبيعي أو الأبيض تكون بطرق مختلفة، من بينها:
– تفاعلات الماء مع المعادن المحتوية على الحديد ومعادن أخرى، عند درجات حرارة عالية لتكوين معدن «السربنتين». وقد يحدث ذلك عند التقاء الصخور البركانية بمياه البحر، كما في أيسلندا. وتعتبر مناطق الصخور الغنية بالحديد والمتصلة بالمياه مناطق واعدة كتلك الموجودة في جبال البيرينيه الإسبانية، وسلطنة عمان، وكذوكاليدونيا الجديدة.
– التحلل النووي للماء بفعل إشعاعات اليورانيوم أو الثوريوم.
– تسرب الهيدروجين «البدائي» من اللب الداخلي العميق للأرض أو الوشاح. كما يحدث في يانارتاس بجنوب تركيا وحوض ساو فرانسيسكو في البرازيل.
ولم يتم حتى اليوم إجراء عمليات مسح شاملة لمعرفة مكامن وحقول الهيدروجين الطبيعي. والأهم أنه لم يتم تطوير طرق لفحص وتقييم غاز الهيدروجين. فالطرق المعروفة والمعتمدة، غير حساسة للهيدروجين، لأنه يستخدم أصلاً كغاز حامل في المعدات التحليلية (أي كروماتوغرافيا الغاز).
مشكلة البيئة والمناخ
مع أن الهيدروجين لا يصنف من غازات الدفيئة الضارة بالمناخ. ولكن بدأت تظهر دراسات وتجارب تؤكد وجود تأثيرات متفاوتة. فقد بينت دراسة مولتها شركة Smart Gas Sciences المهتمة بالهيدروجين الجيولوجي، أن تسرب الهيدروجين النقي إلى الهواء يسهم بتغيير كيمياء الغلاف الجوي بطريقة تزيد من عمر الغازات الدفيئة، مثل الميثان. ولذلك يجب الحرص على عدم حدوث تسرب كبير خلال الإنتاج والنقل والاستخدام.
يضاف إلى ذلك عامل مهم وهو أن الهيدروجين الجيولوجي ليس نقياً بالكامل. فهو يحتوي كميات متفاوتة من الميثان والنيتروجين. ويتم عادة إعادة حقن هذه الغازات التي تسمى “غاز النفايات” في الأرض مع استخدام جزء من الهيدروجين المنتج. وفي هذه الحالة، يقدر أن إنتاج كيلوغرام واحد من الهيدروجين المضغوط يؤدي إلى انبعاث ما يعادل 0.4 كيلوغرام من ثاني أكسيد الكربون. كما تتطلب هذه العملية استخدام طاقة غير نظيفة. أما في حال اعتماد خيار حرق “غاز النفايات” بدل دفنه. فإن كثافة الكربون سترتفع إلى 1.2 كجم من مكافئ ثاني أكسيد الكربون لكل كجم من الهيدروجين.
ولكن يبقى الهيدروجين الطبيعي أو الأبيض أو الجيولوجي الأكثر نظافة والأكثر خضرة، مقارنة بالهيدروجين الرمادي المستخرج من الغاز بدون التقاط الكربون. أو الأزرق المستخرج من الغاز مع التقاط الكربون. وحتى من الهيدروجين الأخضر المستخرج من الماء بالتحلل الكهربائي باستخدام الطاقة الشمسية. ولكن روبرت هوارث من جامعة كورنيل في نيويورك لديه رأي مخالف يقول ” أن بصمة غازات الدفيئة للهيدروجين الجيولوجي لا تزال غير معروفة جيداً”.
هل يبقى الهيدروجين الطبيعي أو الأبيض نوعاً من الفضول العلمي والجيولوجي، أم يصبح مكوناً رئيسياً في مزيج الطاقة العالمي؟
الأمر يتوقف على وجود قرار سياسي على مستوى الدول الكبرى والشركات الأكبر. ما يسهم تلقائياً بحل المشاكل المعرفية والتقنية. وبغير ذلك سيكون من الصعب على الشركات الناشئة العاملة في مجال الهيدروجين مواجهة عمالقة صناعة الطاقة. لأنه يصعب على أي مستثمر الإقدام على الاستثمار قبل أن يعرف إذا كانت الآبار ستستمر في الإنتاج لمدة 20 عاماً أو عامين.