غاز لبنان : أوهام المليارات والانتصارات.. وحقائق الأرقام والتحديات
يطلق مسؤولون لبنانيون و “خبراء” تقديرات مبالغ فيها لحجم ثروة النفط والغاز المُحتمل وجودها. وهي تقديرات لا تستند إلى واقع علمي، ولا إلى نتائج حفر وتنقيب. وهو ما يحاصر غاز لبنان بأوهام المليارات والانتصارات.
الوهم الأول يتعلق بحجم الثروة. وأحد المسؤولين الكبار لم يتورع عن تقديرها بأكثر من 300 مليار دولار. فيما قال آخرون أنها ضعف هذا المبلغ وتنقل لبنان من حالٍ إلى آخر.
الوهم الثاني، الذي يتولّى ترويجه “خبراء” الاستراتيجيا والجغرافيا السياسيّة للطاقة، يتمثّل في القول إنّ أوروبا، ومن ورائها أميركا، تسعى إلى استبدال الغاز الروسي بغاز لبنان وشرق المتوسّط. الذي سيغيّر المعادلة في أسواق الطاقة. ويصل “ضخ” الوهم إلى مداه بالتأكيد أنّ أميركا وأوروبا وإسرائيل ستضطرّ تحت ضغط الحاجة إلى غاز لبنان وشرق المتوسط، إلى الانصياع للمطالب اللبنانية في ترسيم الحدود. وإلى الإيعاز للشركات النفطية ببدء عمليات الحفر والتنقيب. وما على لبنان سوى الثبات والصبر، فالفرج قريب.
ثروة الغاز تحتاج إلى قيادات سياسية وإدارية لاستغلالها، وليس إلى مسؤولين يمتهنون “بث” الأوهام وإطلاق الشعارات
الحقيقة بالأرقام والمعطيات
أمّا الحقيقة فهي أنّ المسوحات السيزميّة الثنائية والثلاثية الأبعاد أثبتت امتلاك لبنان عدداً كبيراً من المكامن الهيدروكرونية المحتملة. من بينها عدد من المكامن المقفلة التي يرتفع فيها احتمال وجود المخزونات. وأثبتت أيضاً أنّ كثافة هذه المخزونات ترتفع في المكامن القريبة من الساحل، وهو ما يعزّز إمكانية وجود نفط فيها إلى جانب الغاز. وأثبتت أيضاً تركيزاً شديداً للمكامن في البلوكات الجنوبية. وإذا كانت الشركات والدول تعتمد على هذه المسوحات لاتّخاذ قرار بالاستثمار ومباشرة الحفر والتنقيب. فإنّه يستحيل تقدير حجم المخزونات وعوائدها الماليّة إلا بعد حفر أكثر من بئر في كلّ مكمن محتمل. وذلك للتأكّد من وجود المخزونات. ولتقدير حجمها وجدوى استخراجها. وهناك آلاف المكامن المحتملة في العالم أثبتت عمليّات الحفر عدم جدوى استخراج مخزوناتها.
وعليه، لا يجوز ولا يمكن الاستناد إلى المسوحات الزلزالية، لإطلاق الأرقام والأوهام. والإمعان في تطويع الرقم والعلم وجعله سلعة في “بازار” التنصّل من المسؤوليّات وفرض السياسات والتوجّهات.
غاز لبنان: ملايين وليس مليارات
لإعطاء صورة واقعية لحجم ثروة الغاز في لبنان، وبانتظار عمليّات الحفر، يمكن القياس على أساس حجم الثروة في كلّ من مصر وإسرائيل مع استبعاد قبرص التي لم يتمّ اكتشاف احتياطيات كبيرة فيها على الرغم من كثافة عمليّات الاستكشاف والتنقيب، على مدى 15 عاماً. فنلاحظ ما يلي:
– صادرات متواضعة: بلغ إجمالي صادرات دول شرق المتوسط في العام 2021 حوالي 13.6 مليار متر مكعب، موزّعة بين إسرائيل بنحو 10.3 مليارات متر مكعب، ومصر بنحو 3.3 مليارات متر مكعب، ومن المعروف أنّ بقيّة الإنتاج المصري البالغ حوالي 66.2 مليار م3 يُستهلك محلّياً. وفي المقابل بلغ استهلاك أوروبا حوالي 540 مليار م3، توفّر روسيا حوالي 200 مليار م3 منها.
احتياطيات متواضعة
– احتياطيات متواضعة: تُقدّر الاحتياطيات المثبتة في إسرائيل بحوالي 950 مليار م3 تشكّل أقلّ من 0.5 في المئة من الاحتياطي العالمي. ويُقدّر احتياطي مصر بتاريخها العريق في الصناعة النفطية بحوالي 1.8 تريليون م3. مقابل حوالي 37.5 تريليون م3 لروسيا مثلاً. أمّا احتياطيات الغاز في الحوض الشرقي للمتوسط (يضمّ إسرائيل ولبنان وسوريا والجزء الغربي من المياه القبرصية) فتُقدّر كما جاء في التقرير الأوّل لهيئة المسح الجيولوجي الأميركية بحوالي 3.5 تريليونات م3. وتمّت زيادتها إلى حوالي 8 تريليونات م3 (285 تريليون قدم مكعب) في التقرير الثالث الذي نُشر في تموز الماضي، بعد إضافة أجزاء من المياه المصرية والقبرصية والتركية. وتشكّل هذه الاحتياطيات بالحدّ الأقصى حوالي 2.5 في المئة من الاحتياطيات العالمية.
– بلغت عائدات صادرات الغاز المصرية في العام 2021/2022، حوالي 1.7 مليار دولار. في حين قفزت الصادرات الإسرائيلية إلى حوالي 370 مليون دولار مقارنة بحوالي 150 مليون دولار فقط في 2020. والحديث هنا عن قيمة الصادرات، علماً أنّ الجزء الأكبر من الإنتاج يُخصّص للسوق المحليّة في البلدين.
عن أي مليارات الدلاورات، وعن أي احتياطيات تغير المعادلات يتحدثون، ومتى يتوقف بيع الوهم لشراء الوقت و”حقن البنج”؟
حقائق التحدّيات
بعيداً عن أوهام المليارات واستناداً إلى وجود ثروة هيدروكربونية مؤكّدة، هناك تحدّيات فعليّة تواجه استغلال هذه الثروة في لبنان وبقيّة دول شرق المتوسط باستثناء مصر، وأهمّها:
– أوّلاً: تحدّيات تجاريّة وفنّية:
تتمثّل في ضعف القدرة التنافسية بسبب وجود المخزونات في أعماق سحيقة (حوالي 5 كلم)، وهو ما يعني اقتصار القدرة على استخراجها على بعض الشركات الكبرى. وارتفاع التكلفة التي تصل إلى حوالي 4 دولارات لكلّ مليون وحدة حرارية بريطانية، عند رأس البئر. أي قبل إضافة تكاليف المعالجة والنقل والربح. يُضاف إلى ذلك صعوبة التصدير لعدم وجود بنية تحتية من خطوط أنابيب ومحطات تسييل باستثناء محطّتي إدكو ودمياط في مصر اللتين تعملان بكامل طاقتهما تقريباً. أمّا خطّ الغاز العربي فلا يبدو أنّ هناك إمكانية لإيصاله إلى تركيا في المدى المنظور.
– ثانياً: تحدّيات سياسيّة وتنظيميّة:
هذه التحديات هي الأخطر، لأنّه لا قدرة للشركات على التحكّم بها أو تحمّل نتائجها. وتتمثّل في ضعف الأطر التشريعية والحوكمة والفساد. إضافة إلى الصراعات السياسية والنزاعات الحدودية التي تؤدّي إلى إحجام الشركات عن ضخّ مليارات الدولارات للتنقيب عن مخزونات جديدة أو لاستخراج المخزونات المكتشَفة. وذلك ما يؤكّده تلكّؤ الشركات عن المشاركة في دورات التراخيص في لبنان وقبرص وإسرائيل. وكذلك تلكؤها عن البدء في عمليات الاستخراج، كما يحدث في قبرص. حيث لم يتمّ حتى الآن مباشرة العمل في حقلَيْ غلاوكسو وكاليبسو المكتشفَيْن في 2018 و 2019. ولا حتى في حقل أفروديت المكتشَف في 2010. وكذلك الأمر في حقل ليفياتان الإسرائيلي حيث تأخّر بدء الإنتاج لمدّة تسع سنوات.
التجربة المصريّة نموذجاً
لا يعني كلّ ذلك التقليل من أهميّة ثروة الغاز الموجودة ولا من اهتمام الشركات الدولية والدول الأوروبية باستغلالها. لكنّه يعني ضرورة العمل على حلّ المشاكل السياسية والتنظيمية لتشجيع الشركات على مواجهة التحدّيات الفنية وتحمّل المخاطر التجارية. وخير دليل على ذلك مصر التي أرست نموذجاً في الإدارة السياسية والتجارية والفنّية لملفّ الغاز. وتمكّنت خلال فترة قياسية من تحقيق الاكتفاء الذاتي. ثمّ استعادت دورها كدولة مصدِّرة. ورسّخت موقعها كمركز إقليمي للغاز. ولكن سبق كلّ ذلك أو مهّد له، قيام مصر بإنهاء النزاعات الحدودية مع جيرانها. مع تأجيل بتّ أمر بعض المساحات مع اليونان وإسرائيل. إضافة إلى تطوير إطار تشريعي وتنظيمي متكامل شمل تحرير سوق الغاز، وإعادة تأهيل وتشغيل وتطوير البنية التحتية من خطوط أنابيب ومرافق تسييل.
“شمّاعة” محاصرة لبنان
ننطلق من التجربة المصرية لنتساءل بكثير من “سوء النيّة”: إلى متى سيبقى ملفّ ثروة النفط والغاز وترسيم الحدود البحرية الجنوبية والشمالية والغربية أسير الصراعات الداخلية والإقليمية والتقديرات والسياسات العشوائية؟
وإذا كانت الدولة هي التي تدير هذا الملف وليس الأحزاب والطوائف، فأين الفريق الحكومي الذي يضمّ الوزارات والهيئات المعنيّة؟ وإذا استثنينا خبراء الجيش اللبناني، فمَن هم الخبراء الذين يتولّون ملفّ الترسيم والثروة النفطية؟ وهل هناك من بينهم مَن تولّى ترسيم أيّ حدود بحرية في العالم أو عَمِل في قطاع النفط واقتصاديات الطاقة في الدول العربية والأجنبية؟
نشر في موقع أساس بتاريخ 23 آب 2022