نزاعات الحدود البحرية في شرق المتوسط وتحديات استغلال مصادر الطاقة
يعدّ شرق البحر الأبيض المتوسط، بتاريخه الغني وموقعه الإستراتيجي، مسرحاً للصراعات الجيوسياسية الكبرى. وتصاعدت الصراعات على ترسيم حدود المناطق الإقتصاديّة الخالصة، الصراعات بعد اكتشاف الموارد الكربوهيدرونية .
يقع حوض شرق المتوسط عند نقطة إلتقاء استراتيجية تجمع بين ثلاث قارات. ويشمل كل من اليونان، مصر، سوريا، لبنان، فلسطين، تركيا، قبرص وإسرائيل. وهو يمتد على مساحة 320 ألف كم2. وبدأ هذا الحوض يثير إهتمام الدول والشركات بعد أن تبين أنه يحتوي على احتياطات لا بأس بها من النفط والغاز. وقد رفع التقرير الثاني لهيئة المسح الجيولوجي الأميريكية الصادر في العام 2022 تقديراته لهذه الإحتياطات من حوالي 3.45 تريليون م3 إلى حوالي 8 تريليون م3. وذلك بعد أن تم توسيع المساحة المشمولة بالمسح لتشمل بالإضافة إلى سوريا، لبنان، إسرائيل، فلسطين، والجزء الغربي من المياه القبرصية، أجزاء من المياه المصرية والتركية والقبرصية.
ثروة النفط بين التنمية …
إنّ احتياطات الغاز الطبيعي في شرق المتوسط سيكون لها تأثيراً مهماً على اقتصاديات دول الحوض. وستشكل أفق الطاقة في هذه المنطقة. حيث تم اكتشاف حقول مهمة في إسرائيل وقبرص. وطبعاً في مصر التي حققت الإكتشافات الأكبر في مجالي الغاز والنقط. ومن أبرزها حقل ظهر العملاق. أما في لبنان، فتشير تقديرات الشركات الجيوفيزيائية (…PGS, Spectrum, NOOS) المبنية على مسوحات سيزمية ثنائية وثلاثية الأبعاد، إلى وجود احتياطات هيدروكربونية ملحوظة.
وهذه الاكتشافات ستثري، بشكل كبير، احتياطيات الطاقة في منطقة شرق المتوسط وسيكون لعملية استثمارها الأثر الكبير على الواقع الاقتصادي والاجتماعي في المنطقة. وسيكون لهذه الكنوز الموجودة تحت البحر، تأثيراً كبيراً على التوازن الإقتصادي الإقليمي في العقود القادمة من خلال ضمان أمن الطاقة. وهو شرط أساسي لدفع النمو الاقتصادي والتنمية الاجتماعية من جهة. ولتحصين موقع المنطقة على خريطة الطاقة العالمية، من جهة أخرى.
… وبين التوترات الجيوسياسية
إنّ حجم هذه الاحتياطيات ولّد توترات جيوسياسية بسبب الخلافات على ترسيم حدود المناطق الإقتصاديّة الخالصة. ولا شك أنّ طريقة إدارة هذه الخلافات والتحدّيات ستكون حاسمة لمستقبل الطاقة في شرق البحر الأبيض المتوسط.
على الرغم من أن إتفاقيّة الأمم المتحدة لقانون البحار (UNCLOS) تضع الإطار القانوني لترسيم حدود المناطق الإقتصاديّة الخالصة، إلا أن هناك تضارباً في التفسيرات والاجتهادات لبعض المواد. الأمر الذي خلق مئات النزاعات الحدودية والدعاوى القضائية أمام المحاكم الدولية المختصة. ومن المتفق عليه أن الحل الوحيد الناجع لهذه النزاعات هو عبر التفاوض وإبرام إتفاقيات رضائية. وفي حوض شرق المتوسط، هناك نزاعات حدودية متشابكة بين كل من اليونان وتركيا وقبرص وإسرائيل ومصر ولبنان. يضاف إلى ذلك إهتمام وتنافس شركات الطاقة الدولية على الموارد الهيدروكربونية للحوض. علماً أنّ هذه الشركات تتموضع بدورها في محاور جيوسياسية دولية متضاربة. ومن هذا المنطلق، إبتليت منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط بصراعات جيوسياسية واقتصادية مختلفة.
أحد أكثر النزاعات وضوحاً في المنطقة هو النزاع بين اليونان وتركيا. فللبلدين مطالبات متنافسة حول المنطقة الاقتصادية الخالصة لكل منهما في بحر إيجه، وفي البحر الأبيض المتوسط. وخاصةً حول الجزر اليونانية القريبة من تركيا. وقد أدّت هذه المطالبات إلى توترات حادّة وحوادث ومناوشات بحرية بين البلدين. وتشكل الجزر اليونانية في بحر إيجه، القريبة من البر التركي، مصدراً رئيسياً للخلاف بين البلدين إذ يؤدي وضع هذه الجزر تحت السيادة التركية إلى توسيع كبير للمنطقة الإقتصادية الخالصة التركية، ويضمن حصولها على المزيد من الموارد.
الرؤية التركية للمنطقة الاقتصادية الخالصة
وبالمثل، تقع قضية قبرص في صميم صراع معقّد بين تركيا واليونان. فالجزيرة مقسّمة بين جمهورية قبرص في الجنوب وجمهورية قبرص التركية في الشمال غير المعترف بها دولياً. وتسعى جمهورية قبرص لإستغلال موارد الطاقة الموجودة في منطقتها الإقتصادية الخالصة التي تتنازع عليها مع تركيا. وقد أدّت محاولات التنقيب التي قامت بها هذه الأخيرة في المياه التي تعتبرها قبرص حق خالص لها، إلى تصعيد التوترات بين البلدين وإثارة ردود فعل قوية من قبل كل من قبرص واليونان وبعض الدول الأوروبية.
سوريا-تركيا:صراع تاريخي
فيما يتعلّق بسوريا، فهي منخرطة في نزاعين منفصلين لهما آثار مهمّة على القضايا الإقتصاديّة والجيوسياسيّة الإقليمية. النزاع الأول مع لبنان حول البلوكين 1 و 2 في المنطقة الإقتصادية الخاصة للبنان. وتقدّر المساحة المتنازع عليها بحوالي 750 كم2. ومع أن هذه مسألة معقّدة وحسّاسة، إلاّ أنّ النزاع بين البلدين ليس عدائياً في طبيعته. وهناك مساع للتوصّل إلى حل يرضي الطرفين من خلال الوسائل السياسيّة والدبلوماسيّة.
أما النزاع الثاني فهو مع تركيا حول لواء الإسكندرون (هاتاي). وهذه المنطقة ذات أهميّة خاصّة بسبب موقعها الإستراتيجي وإمكاناتها الإقتصاديّة الكبيرة. حيث يدور النزاع حول السيادة عليها، وبالتالي على المنطقة الإقتصادية الخالصة في البحر المتوسط لكلّ من سوريا وتركيا.
ومن المهم الإشارة إلى أنّ النزاع بين سوريا وتركيا معقّد للغاية وسيعتمد حلّه على مفاوضات سياسيّة ودبلوماسيّة صعبة بين الجانبين. وقد يتطلّب مشاركة جهات دولية فاعلة لإيجاد حلول مستدامة. حتّى الآن، لا يزال الوضع ضبابياً وسيكون لهذا النزاع تداعيات بعيدة المدى على الجغرافية السياسيّة والإقتصاديّة في شرق المتوسط.
لبنان-إسرائيل:حل مقبول
شهد ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل نزاعاً طويلاً، وتفاقم بسبب التوترات التاريخية والحروب بين البلدين. وقد قامت الولايات المتّحدة بوساطة بين البلدين أدّت إلى توقيع إتّفاق لترسيم الحدود البحريّة بينهما. ومع أن بعض الجهات اللبنانية تعتبر الاتفاق مجحفاً بحق لبنان، لكنه بات من وجهة نظر القانون الدولي قائماً ونهائياً. وهو ينص على مقاربة مبتكرة تقضي بتقاسم المكامن المشتركة في البلوك رقم 9. على أن يتحمّل الكونسورتيوم الحائز على رخصة الإستكشاف والإنتاج، دفع الحصة التي تعود لإسرائيل.
وفيما يتعلّق بدولة فلسطين، فإنه من المهم الإشارة إلى أنّ المنطقة الإقتصاديّة التابعة لها والتي تقع مقابل ساحل غزّة، تتداخل مع المنطقتين الإقتصاديتين الخالصتين لكلّ من مصر وإسرائيل. ولا بد أنّ تأخذ المفاوضات النهائيّة لقيام دولة فلسطين، بعين الإعتبار استغلال الموارد البحرية والهيدروكربونية في شرق المتوسط. علماً أنه تم اكتشاف حقل كبير نسبياً للغاز في العام 2000 هو حقل “غزة مارين”. وتمكنت إسرائيل من عرقلة بدء الإنتاج فيه حتى الآن. ولا يستبعد أن تكون أحد الأهداف الغير المعلنة للحرب الإسرائيلية الحالية على غزة وضع اليد على الثروة النفطيّة والغازيّة في المنطقة الإقتصادية الخالصة لفلسطين.
صراعات إثنية
يبدو واضحاً أن الصراعات على المناطق الإقتصاديّة الخالصة في شرق المتوسط هي نتيجة لتفاعل عوامل معقّدة ومترابطة. وتعتمد المطالبات الإقليمية المتنافسة على تفسيرات مختلفة للقانون الدولي بما في ذلك إتّفاقيّة الأمم المتّحدة لقانون البحار. هذا الأمر يترك الحدود البحرية بين الدول المتنازعة غامضة وعرضة للخلاف. كما أنّ المنافسات التاريخية والأثنية بين بلدان المنطقة والنزاعات الإقليمية الطويلة الأمد تساهم أيضاً بتأجيج هذه التوترات. وقد تؤدي بدورها إلى نزاعات سياسية وربما عسكرية تهدّد الاستقرار الإقليمي. كما قد تؤدي إلى مفاقمة تدخلات الجهات الدولية الفاعلة مثل الولايات المتّحدة وروسيا والإتّحاد الأوروبي. ما يضيف طبقة من التعقيد الجيوسياسي، ويزيد من صعوبة حل هذه الصراعات.
إنّ التحديات الإقتصادية الكبيرة المتعلّقة بالموارد الهيدروكربونيّة في المنطقة تشكّل أيضا ًعنصراً رئيسياً ضاغطاً على أمن الطاقة والنمو الإقتصادي في المنطقة. ومن ناحية أخرى تشكل النزاعات الحدودية وحالة عدم اليقين القانوني فيما يتعلق بالمناطق الإقتصادية الخالصة، عقبة أمام تدفق الإستثمارات الدولية إلى قطاع النفط والغاز في حوض شرق المتوسط.
بانتظار الحلول السلمية
إنّ الحل السلمي للنزاعات المستمرّة المتعلّقة بالمناطق الإقتصادية الخالصة في شرق البحر الأبيض المتوسط أمر بالغ الأهميّة لمنع حدوث أزمات أكثر خطورة. وفي هذا السياق، تصبح الجهود الدبلوماسيّة والوساطات الدولية والتعاون الإقليمي أكثر أهميّة لتجنّب التصعيد الخطير وتعزيز الإدارة المتوازنة والمستدامة للموارد الحيوية. لذلك، فمن الضروري رصد التطورات عن كثب خلال السنوات القادمة.
* دكتور في العلاقات الدولية والدبلوماسية، أستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية