الذكاء الاصطناعي «يقنع» أميركا بالعودة إلى الغاز لتوليد الكهرباء
«زقاق مراكز البيانات» في فرجينيا يرفع الطلب على الكهرباء بمعدل 3 أضعاف
… وكان لا بد من الذكاء الاصطناعي لتقتنع أميركا ووكالة الطاقة الدولية و«متطرفو المناخ»، باستحالة التخلص من النفط والغاز. فبدون الغاز وحتى الفحم لا يمكن تلبية الطلب المتصاعد على الكهرباء من قبل مراكز البيانات والعملات المشفرة والذكاء الاصطناعي وبطاريات السيارات والرقائق.
وليكون الحل الوحيد المتاح أمام أميركا وغيرها من الدول الصناعية، هو العودة بقوة إلى محطات الغاز وتأجيل إغلاق محطات الفحم لتدارك الانقطاع المتوقع للكهرباء خلال صيف 2024. خاصة في بعض الولايات الأميركية التي تستضيف حوالي ثلث مراكز البيانات والأنشطة المتعلقة بالذكاء الاصطناعي في العالم.
بدأت بوادر المشكلة بالظهور منذ العام 2021 في أميركا. وبلغت حد الأزمة العام الماضي حين عجزت شركات الكهرباء في بعض الولايات عن تلبية الطلب. وكانت المنطقة التي تعرف بـ «زقاق مراكز البيانات» data centre alley في ولاية فرجينيا هي الأكثر تأثراً. وذلك بسبب النمو الانفجاري في عدد المراكز وفي أحجامها.
لا كهرباء لمراكز البيانات الجديدة
دفع ذلك شركة الكهرباء “دومينيون إنرجي” (Dominion Energy) التي توفر الكهرباء لحوالي 11 ولاية في الساحل الغربي، إلى إيقاف تزويد بعض المراكز بالكهرباء بشكل مؤقت. وإبلاغ كبار عملائها بعجزها عن توفير الكهرباء للمشروعات الجديدة حتى العام 2026. وتتوقع الشركة أن ينمو الطلب على خدماتها بنحو 5 في المئة سنوياً على مدار الأعوام الـ 15 المقبلة.
اقرأ: بين أمن الطاقة وأمن المناخ: إرتبكت أميركا وأربكت العالم (1 من 2)
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الولايات المتحدة يستحيل أن تخاطر بفقدان سيطرتها شبه المطلقة على مراكز البيانات التي تحفظ في خوادمها الضخمة بيانات «وأسرار» مختلف دول العالم. حتى لو أدى ذلك إلى تغليب أمن الطاقة وأمن البيانات على التزامات مواجهة التغير المناخي.
وللدلالة على أهمية هذا الأمر، نذكر أن عدد مراكز البيانات في أميركا قفز في شهر مارس 2024 إلى 5681 مركز أي ما نسبته نحو 53 في المئة من إجمالي المراكز في العالم. مقابل 449 مركز في الصين بنسبة 4.2 في المئة. (راجع الرسم البياني).
انفجار الطلب على الكهرباء
أدى النمو في عدد مراكز البيانات، إلى زيادة كبيرة في الطلب على الطاقة. وتوقع تقرير لمجموعة بوسطن كونسلتينغ Boston Consulting Group أن يرتفع استهلاك الكهرباء في مراكز البيانات الأميركية بحلول العام 2027 بمعدل ثلاثة أضعاف عن مستوياته في 2022. ليصل إلى 390 تيراواط ساعة. وهو ما يعادل نحو 7.5 في المئة من الطلب الإجمالي المتوقع على الكهرباء.
وأشار التقرير إلى أن مراكز البيانات استهلكت كمية من الكهرباء في العام 2023 تعادل تقريباً مجموع الكمية التي استهلكتها ولايتي أوهايو ووست فرجينيا.
ويعود سبب ارتفاع الطلب على الكهرباء إلى التوسع السريع والمتصاعد في مجالين: الأول هو مراكز البيانات وتشفير العملات الرقمية، والذكاء الاصطناعي، والثاني هو الصناعات المرتبطة بمكونات الطاقة المتجددة مثل بطاريات السيارات الكهربائية والرقائق. وهي الصناعات التي تم تأسيسها أو نقلها من الصين إلى أميركا. إذ جرى منذ تولي الرئيس بايدن لمنصبه إنشاء مصانع بقيمة 465 مليار دولار. وكان الكثير منها مدفوعاً بقوانين أقرها الكونغرس تمنح العديد من الحوافز والإعفاءات للاستثمار في هذه المجالات.
لا كهرباء في أميركا
مشكلة عدم توافر الكهرباء لا تقتصر على ولاية فرجينيا، فقد تم تصنيف أكثر من 15 ولاية بأنها «عالية المخاطر» بالنسبة للطاقة الإنتاجية للكهرباء. وتشمل على سبيل المثال أركنساس، إلينوي، كنتاكي، لويزيانا، ميشيغان، ميسيسيبي، ميسوري، مونتانا، داكوتا الشمالية والجنوبية، وتكساس.
مسؤول أميركي: أرقام مذهلة لنمو الطلب لم نكن نتوقعها، ونشعر بالصدمة من وصولنا إلى هذا الوضع
رغم غرابة هذه التطورات، يمكن القول أن الجهات المعنية في أميركا فوجئت بحجم الطلب الضخم وغير المسبوق. وجاء أدق توصيف للوضع على لسان سام ألتمان الرئيس التنفيذي لشركة Open AI التي أطلقت «تشات جي بي تي»: بقوله «نحتاج لكمية من الكهرباء أكبر بكثير مما توقعنا سابقاً، والحقيقة نحن لا نعرف على وجه الدقة كمية الاحتياجات المستقبلية”.
أما رئيس لجنة الخدمة العامة في جورجيا، وهي الهيئة المسؤولة عن تنظيم قطاع الكهرباء، فكان أكثر صراحة بالتعبير عن صدمته من «الأرقام المذهلة» لنمو الطلب. وقال في حديث لصحيفة واشنطن بوست «هذه تحديات لم نكن نتوقعها، ونحن نتساءل كيف انتهى بنا الأمر إلى هذا الوضع. كيف كانت التوقعات بعيدة إلى هذا الحد؟
ماذا عن بقية دول العالم ؟
تتوقع وكالة الطاقة الدولية أن يشهد الطلب العالمي على الكهرباء زيادة بنسبة 3.5 في المئة حتى عام 2027. ويشير تقرير للوكالة إلى أن استهلاك الكهرباء في قطاع مراكز البيانات وتكنولوجيا المعلومات يتوقع ان يرتفع بنسبة 100 في المئة في العام 2027 مقارنة بالعام 2022.
ومن بين الدول المرشحة لمواجهة أزمة خانقة بالإضافة إلى أميركا، تأتي في المرتبة الأولى إيرلندا. ويرجع ذلك إلى اعتماد الحكومة خطة طموحة لتصدر سباق استضافة مراكز البيانات والذكاء الاصطناعي. حيث قفز عدد المراكز الموجودة فعلاً إلى 82 مركزاً. تضاف إلى 14 مركزاً قيد الإنشاء. وهناك 40 مركزاً جديداً في طور الاستعداد لبدء التنفيذ بعد الحصول على الموافقات اللازمة.
أميركا تؤجل إغلاق أكثر من 30 محطة لتوليد الكهرباء تعمل بالغاز والفحم
وينطبق ذلك أيضاً على الدانمارك، التي يتوقع أن ينمو استهلاك مراكز البيانات فيها إلى إجمالي الاستهلاك من 1 في المئة حالياً، إلى 15 في المئة في العام 2030. وذلك في حال تنفيذ المشاريع المعلن عنها فقط، بدون احتساب المشاريع التي قد يتم الترخيص لها.
كما ينطبق هذا الوضع بدرجة أقل حدة على مناطق أخرى في العالم أيضاً. إذ تشير التوقعات إلى أن احتياجات الصين من الكهرباء ستنمو بنحو 6 في المئة خلال العام 2024. مدفوعة بالتوسع الكبير في صناعة المنتجات المرتبطة بالطاقة المتجددة مثل السيارات الكهربائية ومعدات الطاقة الشمسية. وبالمثل فإن نمو الطلب في الهند مهيأ لأن يتضاعف تقريباً حتى العام 2032. كما تواجه شبكة الكهرباء المتقادمة في بريطانيا صعوبات كبيرة لتوفير الطاقة اللازمة لمزيد من مراكز البيانات.
حلول آنية: طاقة متجددة وفحم
أخذ التصدي لهذه المشكلة مسارات متنوعة. تضمنت حلولاً آنية وأخرى مستدامة. وتراوحت الحلول الآنية بين استخدام محطات الطاقة الشمسية والرياح. أو تأجيل تنفيذ بعض مشاريع تكنولوجيا المعلومات حتى يتم توفير الكهرباء اللازمة. إضافة إلى تأجيل إغلاق محطات الكهرباء العاملة بالغاز وحتى الفحم. والسعي لاستصدار موافقات تسمح للمشاريع الجديدة باستخدام مولدات الديزل خلال فترات الذروة لتخفيف الأحمال على الشبكة وتدارك انقطاع الكهرباء.
الكونغرس يوافق على خط لأنابيب للغاز بعد تجميده لعدة سنوات
ففي كنساس سيتي مثلاً، بادرت شركة “إيفرجي” (Evergy) إلى تأجيل إيقاف محطة تعمل بالفحم لمدة خمس سنوات. وذلك بهدف توفير الكهرباء لمركز بيانات تديره «ميتا بلاتفورمز» المالكة لعلامة فايسبوك وغيرها . ومصنع لبطاريات السيارات الكهربائية تملكه “باناسونيك هولدينغز”
وقد تم حتى الآن تأجيل إيقاف العمل في حوالي 30 محطة كهرباء تعمل بالفحم في بعض الولايات مثل كنتاكي وداكوتا الشمالية.
… وحلول مستدامة: محطات نووية صغيرة وغاز
لما كانت الولايات المتحدة هي التي تضع «السياسات الدولية» وترسم الاتجاهات، فإن رصد بعض التطورات تكشف المسارات المرتقبة. فقد وافق الكونغرس مؤخراً على مشروع خط أنابيب «ماونتن فالي» لنقل الغاز من جبال الأبلاش إلى الولايات الوسطى. وهو المشروع الذي تم تجميده لسنوات طويلة لتعارضه مع سياسة مواجهة التغير المناخي التي وضعتها إدارة بايدن. وأيضاً بسبب معارضة السكان تخوفاً من مخاطره البيئية.
مايكروسوفت وغوغل و ميتا تدرس إنشاء محطات نووية صغيرة قرب مراكز البيانات
وسيؤمن هذا الخط الغاز اللازم لتشغيل محطات الكهرباء القائمة وكذلك للمحطات التي ستبنى. وجاءت موافقة الكونغرس تحت ضغط الحاجة لتوفير الكهرباء للمراكز الجديدة في «زقاق مراكز البيانات». وكذلك الحاجة لتجنب انقطاع الكهرباء وهو ما حذر منه مؤسس شركة «غريد ستراتيجيز» الذي قال ان بعض الولايات ستشهد خلال هذا الصيف انقطاع الكهرباء لعدة ساعات يومياً.
وهناك حلول مستدامة أخرى، تدرسها شركات كبرى مثل مايكروسوفت وغوغل وميتا وغيرها. تتعلق بإنشاء محطات صغيرة للطاقة النووية في مواقع قريبة من مراكز البيانات. ومع أن هذا الحل يبدو مستغرباً حالياً. لكن قد يتم اعتماده مستقبلاً بعد فشل محطات الطاقة الشمسية والرياح في تلبية الطلب الكبير. وليكون البديل المقبول كرديف وليس كبديل للمحطات العاملة بالغاز.