لا غاز في قبرص ولبنان قبل حل النزاع الحدودي مع تركيا

البحرية التركية تقصف حقل أفروديت وتمنع بالقوة شركة «إيني» من الحفر

يثير إعطاء قبرص مهلة ستة أشهر لكونسورتيوم تقوده شركة شيفرون لتعديل خطة تطوير حقل أفروديت، سؤالاً كبيراً وهو: لماذا يتعثر استغلال الغاز في قبرص ولبنان وينطلق في مصر وإسرائيل. وما مدى صحة أن السبب الخفي والحقيقي، هو النزاعات الحدودية مع تركيا وعدم وجود إمكانيات للتصدير؟

تسعى قبرص كما لبنان، للتهرب من مواجهة هذه المشكلة «بالتنقيب» عن مختلف أنواع التبرير والتعمية. فتروج قبرص مثلاً ان السبب هو جشع الشركات وسعيها لفرض شروط «تتعارض مع المصالح الوطنية». وفي لبنان المنقسم عامودياً، يرجع محور الممانعة السبب إلى «مؤامرات لتركيع لبنان المقاوم». في حين يرجعه محور المعارضة إلى «رفض الشركات العمل في دولة يحكمها حزب الله». والأمر في كلتا الحالتين تعمية للحقيقة وتوظيف سياسي. وتوضح الصورة المرفقة حجم التداخل بين المناطق الاقتصادية الخالصة والنزاعات بشأنها.

إقرأ أيضاً: لبنان: ملابسات وتساؤلات حول دورة التراخيص الثالثة

شواهد وحقائق

هناك شواهد لا تحصى على عزوف الشركات عن العمل في دول لديها نزاعات حدودية. أو لا تمتلك مرافق وسبل للتصدير. ومنها على سبيل المثال:

لبنان: لا تنقيب قبل حل النزاعات

قام الكونسورتيوم الوحيد الذي «غامر» بدخول دورة التراخيص الأولى بالانسحاب من البلوكين 4 و 9. وذلك بعد سنوات من التلكؤ في تنفيذ التزاماته. وحتى عملية الحفر في البلوكين، كانت بمثابة «إخلاء مسؤولية» بتنفيذ الحد الأدنى من تلك الالتزامات. بما يحمي مصداقية الشركات الثلاثة (توتال إنيرجيز، إيني، قطر للطاقة). وتم الإعلان عن عدم وجود غاز حتى قبل استكمال الحفر. ولم تنفع كل المحاولات لجذب أي شركة. بما في ذلك «مناورة» عدم تمديد دورة التراخيص الثانية وفتح دورة تراخيص ثالثة.

والمشكلة المسكوت عنها هي أن البلوكات الشمالية موضع نزاع مع سوريا. والبلوكات الغربية موضع نزاع مع قبرص أولا ومع تركيا ثانياً (الرسم رقم -1 -). أما البلوكات الجنوبية فمصيرها معلق على نتيجة الصراع مع إسرائيل والتسويات الإقليمية.

رسم -1 –  البلوكات اللبنانية موضع نزاع مع ثلاث دول

إسرائيل: اتفاقيات التصدير أولاً

رغم الدعم و«الاحتضان» من قبل الدول والشركات الكبرى، فلم تقبل الشركات النفطية البدء باستغلال حقول الشمال، إلا بعد التوصل إلى اتفاق لترسيم الحدود مع لبنان. والذي وضعت أميركا كل ثقلها لإنجازه. ومارست مختلف أنواع الضغوط والمساومات مع الأطراف المحلية والقوى الإقليمية وفي مقدمتها إيران. كما لم تستطع إسرائيل إقناع الشركات النفطية باستغلال حقول الوسط وفي مقدمتها أكبر حقولها وهو لفياثان، إلا بعد إبرام اتفاقيات لتصدير الغاز إلى الأردن. وكان أولها في العام 2014. إضافة إلى اتفاقيات تصدير الغاز إلى مصر لتسييله وإعادة تصديره أو للاستهلاك المحلي.

إقرأ أيضاً: غاز شرق المتوسط أسير أحقاد التاريخ ونزاعات الجغرافيا

مصر: اكتشافات بالجملة بعد الترسيم

مع أنها الدولة الوحيدة في المنطقة التي تمتلك مرافق ضخمة للتصدير تتمثل بمحطتين لتسييل الغاز وخطوط أنابيب. إلا أن الاكتشافات الفعلية في شرق المتوسط، لم تبدأ إلا بعد التوصل إلى اتفاقيات نهائية لترسيم الحدود مع إسرائيل وقبرص واليونان. وكان لافتاً الإصرار عند ترسيم الحدود مع اليونان ترك المساحة التي قد تكون موضع نزاع مع تركيا، بدون ترسيم. وقد لاقت هذه الخطوة ترحيباً علنياً من قبل كبار المسؤولين الأتراك رغم القطيعة بين الدولتين في ذلك الوقت.

في لبنان «توتال» تعلن، قبل استكمال الحفر، عدم وجود غاز. وفي مصر «شل» تعلن جفاف حقول «امتياز شروق»، لكن «إيني» تكتشف فيه حقل ظهر العملاق، بعد ترسيم الحدود

أما أكثر الاكتشافات دلالة على الترابط مع ترسيم الحدود، فهو حقل ظهر العملاق في منطقة «امتياز شروق».  وقد اكتشفته شركة «إيني» الإيطالية في العام 2015. علماً ان عدة شركات دولية عملت لسنوات طويلة في هذه المنطقة. من بينها شركة «شل»، التي تعاملت مع اتفاقية الاستكشاف والإنتاج تماماً كما تعامل كونسوتيوم «توتال» مع اتفاقيات قبرص ولبنان. فقامت بحفر عدة  آبار بعد سجالات طويلة مع الجهات المصرية المعنية. ولتعلن عاماً بعد آخر عدم وجود غاز أو وجود كميات بسيطة غير تجارية. وقد تنازلت عن الامتياز بعد ثورة يناير. وليتبين بعد ذلك وجود عدة حقول كبيرة نسبياً في هذه المنطقة إلى جانب حقل ظهر.

… وتتكرر الحكاية مع قبرص

السيناريو ذاته يتكرر في قبرص منذ العام 2011، حين تم الإعلان عن اكتشاف حقل أفروديت كأحد أكبر الحقول في شرق المتوسط. ولكن الحكومات المتعاقبة في قبرص لا تزال تصر على تجاهل المشكلة المزدوجة وهي الصراع الحاد على الحدود مع تركيا. وعدم وجود سبل للتصدير مقروناً بمحدودية السوق المحلية.

قبرص تمعن بتجاهل النزاع مع تركيا، وتمهل كونسورتيوم «شيفرون» ستة أشهر، للموافقة غير المشروطة على خطة التطوير، المؤجلة تكراراً منذ 2011 !

وكان آخر فصول هذا التجاهل، الرسالة الحادة التي وجهتها الحكومة القبرصية مطلع مايو الجاري إلى الكونسورتيوم (شيفرون، نيوميد إنرجي، بي جي قبرص «شل»). والتي تفيد بأن الخطة المعدلة لتطوير الحقل المقدمة في 28 مارس 2024، غير مقبولة.  وأنه «يتعين التأكيد خطياً وفوراً على الموافقة غير المشروطة لتنفيذ خطة التطوير الأصلية في غضون ستة أشهر».

والجواب على الرسالة معروف سلفاً، فالخلاف مع «شيفرون» وقبلها مع «نوبل إنيرجي»، ليس الأول ولن يكون الأخير. فقد بلغ الخلاف أكثر من مرة حد التهديد بنقض اتفاقية الاستكشاف والإنتاج. وتدخلت الولايات المتحدة باتصالات مباشرة مع رئيس الجمهورية لتهدئة الأمور. وهذا الخلاف ينطبق على بقية الشركات (إيني، إكسون موبيل، توتال إنيرجيز، شل، وقطر للطاقة الخ…). وقد أضطر الرئيس القبرصي الأسبوع الماضي، لاستدعاء رئيس شركة «إيني» إلى القصر الرئاسي لحثه على مباشرة العمل في استغلال الغاز، بعد فشل المحاولات المتكررة لوزراء النفط.

وتجدر الإشارة إلى اكتشاف قبرص عدة حقول كبيرة بمقاييس شرق المتوسط مثل: كاليبسو في 2018 باحتياطيات تتراوح بين 6 و 8 تريليون قدم مكعب. وغلاوكسو في 2019، (5 إلى 8 تريليون قدم مكعب). وحقول أصغر مثل كرونوس وزيوس باحتياطيات تُقدر ما بين 2 و 3 تريليونات قدم مكعب لكل منهما. وللتوضيح فإن حجم كل منهما يعادل ضعف حجم حقل كاريش الإسرائيلي.

نيوميد إنيرجي وحقيقة حقل أفروديت

وبدون الدخول في تفاصيل التأجيل والتسويف المتكرر لبدء عمليات استخراج الغاز. فإن الأسباب المعلنة تتعلق غالباً بمسائل فنية مثال عدد الآبار هل تكون خمسة أو ثلاثة كما في حالة أفروديت. أو هل يتم بناء منصة عائمة لمعالجة الغاز، أم مصنع للتسييل على البر القبرصي، أم خط أنابيب لنقل الغاز إلى محطات التسييل المصرية.

ر رسم -2 – المنظور القبرصي ـ اليوناني للحدود البحرية

وكانت شركة نيوميد إنيرجي المشاركة في كونسورتيوم حقل أفروديت الجهة الوحيدة التي أشارت إلى السبب الحقيقي في تقريرها السنوي لعام 2022، والذي جاء فيه أنه «بالإضافة إلى الخلاف بين الكونسورتيوم والحكومة القبرصية، فإن التدهور في العلاقة بين تركيا وقبرص،  قد يؤدي إلى إخراج المشروع عن مساره».

تركيا هي المشكلة والحل

تتمثل مشكلة قبرص في النزاع التاريخي مع تركيا. ما أدى إلى قيام قبرص بترسيم حدودها البحرية مع تركيا من جانب واحد. وقامت باعتماده، لترسيم حدودها البحرية مع مصر وإسرائيل ولبنان. وردت تركيا بعنف متصاعد على ذلك. بدأ بإيداع ترسيم مضاد لدى الأمم المتحدة. ومن ثم دفع جمهورية شمال قبرص التي لا تعترف بها أي دولة غير تركيا، لأن تودع لدى الأمم المتحدة ترسيماً لحدودها البحرية مع جمهورية قبرص أو «قبرص الرومية» كما تطلق عليها تركيا. (راجع الرسمين: رقم 2 و 3)

البحرية التركية قصفت المنطقة الفاصلة بين حقلي أفروديت ولفياتان، ومنعت بالقوة شركة إيني من مباشرة الحفر

ونجم عن ذلك تحويل مساحات واسعة من المنطقة الاقتصادية القبرصية إلى مناطق متنازع عليها. وتشمل البلوكات التي تم اكتشاف حقول الغاز فيها. وحصنت تركيا موقفها القانوني بإبرام اتفاقية مع جمهورية شمال قبرص لتحديد الجرف القاري والمنطقة الاقتصادية الخالصة بينهما. وعززتها بتوقيع اتفاقية للتنقيب عن النفط والغاز وتقاسم الإنتاج بين قبرص التركية وشركة البترول التركية.

رسم – 3 – المنظور التركي للحدود البحرية

حرب بالبوارج والحفارات

لتوضيح جدية وخطورة التهديدات التركية التي تؤدي عملياً إلى إحجام الشركات عن المخاطرة بتوظيف مليارات الدولارات، نشير إلى حقيقة معروفة وهي توافق كل القوى السياسية في تركيا على استعادة ما تراه حقوقها التاريخية والطبيعية في البحر المتوسط وبحر إيجه. والتي حرمت منها بموجب اتفاقيتي لوزان وسيفر. وهي تخوض حرباً على المستويات القانونية والسياسية وحتى العسكرية لتعديل حدودها البحرية.

ونفذت تركيا تلك التهديدات أكثر من مرة. إذ قامت القوات البحرية والجوية بمناورات واسعة النطاق حول قبرص بالتزامن مع بدء الحفر في حقل أفروديت. كما قامت البوارج التركية بقصف الشريط الضيق (2 كلم) بين حقلي أفروديت القبرصي ولفياتان الإسرائيلي، قبيل إعلان  الرئيس القبرصي بشرى اكتشاف حقل أفروديت. وتدخلت البحرية التركية في فبراير 2018، لمنع سفينة الحفر «سايبيم» التابعة لشركة «إيني» من مباشرة الحفر في البلوك رقم 3 المحاذي للحدود اللبنانية. يضاف إلى ذلك تكثيف أنشطة سفن المسح الزلزالي والحفر التركية في البلوكات المتنازع عليها.

لا غاز في حقل أفروديت

الخلاصة: لا غاز في حقل أفروديت وفي كل حقول قبرص ولبنان، قبل مواجهة وحل المشكلة الرئيسية وهي النزاع الحدودي بين تركيا وقبرص واليونان. الأمر الذي يفضي إلى حل تلقائي للمشكلة الثانية وهي إيجاد مرافق وسبل للتصدير سواء عبر محطات التسييل او عبر إنشاء خط للأنابيب من حقول قبرص ولبنان وربما إسرائيل إلى ميناء جيهان التركي.

Related Articles

Back to top button