معادن أوكرانيا النادرة: هل تفتح معركة انتقال روسيا إلى الخندق الأميركي؟

… وأخيراً وضعت المبادرة الأميركية المثيرة للجدل، الحرب الأوكرانية على سكة الحل. وليتحقق ما كان متوقعاً بتسجيل روسيا انتصاراً عسكرياً هزيلاً يتمثل بابتكار «صيغة ما» تكفل احتفاظها بالمقاطعات الشرقية التي احتلتها. وليتحقق أيضاً ما كان مخططاً له بتحملها هزيمة سياسية مدوية، تتمثل بانتهاء «حلم الدولة العظمى»، والقطب الثالث في عالم متعدد الأقطاب. والتسليم بأنها مجرد دولة إقليمية كبرى في عالم ثنائي القطب. ولتواجه بالتالي الاختيار بين البقاء في المحور الصيني أو الانتقال تدريجياً إلى المحور الأميركي ـ الأوروبي. وليكون الخلاف الأميركي الأوروبي الناجم عن المبادرة، مجرد أضرار جانبية collateral damage. ولتكون «همروجة» إتفاقية معادن أوكرانيا النادرة مجرد مكاسب جانبية collateral benefits.

إقرأ أيضاً: أين سليجأ بوتين بعد إنتصاره ؟

يمكن القول أن الاندفاعة الأميركية بغض النظر عن الأسلوب غير المألوف لطرحها، والأشبه بآلية «الصدمة والترويع»، تستهدف إنهاء الحرب الأوكرانية بعد أن حققت أهدافها. وأبرز تلك الأهداف: أولاً، إنهاك روسيا وكشف مواطن ضعفها الاقتصادية والسياسية وحتى «درة تاج» عناصر قوتها أي القوة العسكرية. ما يسمح بتحقيق الهدف الأكبر وهو إلحاقها بالمحور الأميركي ـ الغربي، كقوة إقليمية وليس كدولة عظمى كما كانت تقدم نفسها. ثانياً، «ترويع» أوروبا بما يكفل موافقتها على تحمل أعباء حماية نفسها والإنفاق على حلف الناتو، ما يسمح لأميركا بالتركيز على مواجهة الصين. حيث يفترض أن تلعب روسيا دوراً كبيراً بعد التحاقها بالمحور الأميركي. ولكن بعد «فترة سماح» طبعاً، تلعب خلالها خلالها دور «بيضة القبان» بين المحورين.

تناقض التوجهات والسياسات بين الصين وروسيا

مع أن الأهداف الأميركية هذه، تبدو ضرباً من الوهم والخيال، كما وصفها بعض المحللين ووسائل إعلام مرموقة. لكن يمكن القول أن المسعى الأميركي لفك التحالف بين  روسيا والصين لا ينطلق من فراغ. بل يستند إلى تضارب مصالح بنيوي بينهما. كما يستند إلى الصراع المكتوم الكامن تحت «التحالف الإستراتيجي» المستجد. ويتجلى ذلك في عدة مجالات من أهمها:

الصين وروسيا تتفقان على ما ترفضانه، وتختلفان بالعمق على كل ما تريدانه

–  تعارض في المنطلقات والتوجهات بشأن النظام العالمي. فالدولتان تتفقان على ما ترفضانه، وهو تفرد وهيمنة الولايات المتحدة في قيادة العالم. وتختلفان بالعمق على ما تريدانه. فالصين تسعى إلى ترسيخ استقرار النظام القائم مع ضمان لعب دور القطب الثاني فيه. في حين تلعب روسيا على حافة الهاوية وتخوض مغامرات عسكرية غير محسوبة، لعل وعسى تحقق هدفها بإقامة نظام متعدد الأقطاب.

–  تعارض بنيوي في الملف الاقتصادي، فالصين تمتلك اقتصادا حديثاً وقوياً ومتكاملاً، يحتل المرتبة الأولى أو الثانية عالمياً. مقابل اقتصاد روسي متهالك يعتمد على تصدير المواد الخام بشكل أساسي. فهناك اختلال بالشراكة، بين شريك ضخم وآخر ضئيل، تذكر بالشراكة بين الاتحاد السوفياتي والصين في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. فالصادارت الروسية إلى الصين لم تتجاوز في العام 2023 نسبة 2 في المئة من تجارة الصين، والجزء الأكبر منها بحدود 70 في المئة، عبارة عن نفط وغاز ومواد خام.

–  التنافس والصراع المكتوم في مختلف المناطق المتاخمة للبلدين من القطب الشمالي إلى آسيا الوسطى والمحيطين الهندي والهادئ . حيث تشكل المنافسة وديناميكيات القوة المتغيرة عوامل سلبية في العلاقة، مع تناقص النفوذ الروسي وزيادة النفوذ الصيني.

–  تعاظم دور الصين في دول الاتحاد السوفياتي السابق وهو ما تعتبره روسيا تدخلاً في محيطها الحيوي، وخاصة في كازاخستان وطاجيكستان. ووصل الأمر إلى تعهد الرئيس الصيني خلال زيارته إلى كازاخستان «بالحفاظ على استقلالها». وجاء التصريح بعد  أجراء مناورات عسكرية مشتركة معها، وفي ظل أزمة متفاقمة بين روسيا وكازاخستان.

اتفاقية المعادن النادرة والحرجة، استخدام مبتكر لسياسة العصا والجزرة مع روسيا ومع أوكرانيا

… وتعارض المصالح

–  ضآلة وحتى انعدام الاستثمارات الصينية في روسيا خلال العامين الماضيين بعد أن كانت وجهة رئيسية لاستثمارات مبادرة الحزام والطريق. وحتى قبل ذلك، كانت حصة روسيا من الاستثمارات الصينية خلال الفترة 2016 – 2022، أقل من نصف حصة كازاخستان.

–  تخوف الصين من الارتهان إلى النفط والغاز الروسي. وتجسد ذلك برفضها المتواصل لمشروع خط أنابيب الغاز «قوة سيبيريا 2» رغم المطالبات المتكررة من روسيا.

–  تنامي التكنولوجيا العسكرية الصينية وتقلص الحاجة للتكنولوجيا الروسية، ما يثير قلق روسيا من تراجع صادرات السلاح إلى الصين وإلى دول آسيا الوسطى وهي آخر أوراق نفوذها في تلك المنطقة.

–  صراع حدودي وسياسي متوارث منذ أيام الصراع المرير بين النظامين الشيوعيين. وهو لا يزال كالجمر تحت الرماد.

ويرى بعض المراقبين أن التحاق روسيا بالمحور الأميركي ـ الغربي بعد تخليها عن حلم الدولة العظمى، يحقق مصالحها الاقتصادية في أوروبا ودول آسيا الوسطى. كما يحقق درجة مقبولة من النفوذ الجيوسياسي خاصة في منطقة الشرق الأوسط، لناحية تحقيق الهاجس التاريخي بالوصول إلى المياه الدافئة. حيث يمكنها لعب دور قوة التوازن مع تركيا والسعودية، ومع إيران إذا قبلت بالتسوية المعروضة عليها.

معادن أوكرانيا النادرة (الصورة من S&P GLOBAL)

صفقة معادن أوكرانيا النادرة

يصح اعتبار طرح صفقة المعادن النادرة والحرجة «ضربة معلم» بعكس كل ما قيل عنها. خاصة وأنها غير قابلة للتنفيذ في ظل الظروف الحالية. ولكنها تشكل تجسيداً مبتكراً لسياسة «العصا والجزرة» في تحقيق الأهداف السياسية، ورسالة متعددة العناوين. أولها إلى أوكرانيا بأن لا تقاوم المفاوضات والتسوية المقترحة لإنهاء الحرب. فالاتفاقية قد تكون «عصا غليظة» تتمثل بمطالبتها بدفع 500 مليار دولار. وقد تكون «جزرة شهية» تتمثل في توفير الضمانة الأمنية المطلوبة من خلال الوجود القوي للشركات والاستثمارات الأميركية والشراكة مع روسيا.

أما العنوان الثاني فهو إلى روسيا، بأن لا تقاوم التسوية، وأن لا تعارض كثيراً الالتحاق التدريجي بالمحور الأميركي. ومعروف أن أكثر من 75 في المئة من معادن أوكرانيا النادرة موجود في المناطق الشرقية. وبهذا المعنى فإن الاتفاقية قد تكون الجزرة الأولى من سلة مليئة بالجزر. حيث يمكن استغلال هذه الثروة التي تقدر قيمتها بحوالي 11 تريليون دولار بالشراكة مع روسيا باعتبار أنها موجودة في «مناطق ضمتها روسيا». أو يمكن أن تكون العصا الأولى من حزمة عصي، باعتبار هذه الثروة المملوكة لشركات أميركية موجودة في «مناطق تحتلها روسيا».

إقرأ أيضاً:

حرب معادن الأعماق: هل يكون صدع كليبرتون، إقليم دونباس نرويجي (2 من 2)

إقرأ أيضا: معضلة المعادن النادرة: إطفاء الطاقة المتجددة وإشعال الإضطرابات (1 من 2)

اتفاقية مؤجلة التنفيذ

ويكتمل وصف الاتفاقية بأنها ضربة معلم بالنظر إلى أنها مؤجلة التنفيذ بحكم الوقائع والمعطيات وأهمها: أولاً عدم وجود مسوحات ومعلومات مؤكدة حول الاحتياطات الموجودة. إذا تعود المعلومات المتوافرة إلى حقبة الاتحاد السوفياتي قبل أكثر من 40 عاماً كما قال المدير العام السابق للمسح الجيولوجي الأوكراني. ثانياً، يتطلب استخراج وتكرير معادن أوكرانيا النادرة استثمارات ضخمة وطويلة الأجل. ويصعب إقناع الشركات والمستثمرين بضخ الاستثمارات اللازمة في ظل المخاطر السياسية والقانونية والعسكرية، وقبل التأكد من التحاق روسيا بالمحور الأميركي ـ الغربي. يضاف إلى ذلك أن استخراج وتكرير المعادن يعتبر من أكثر القطاعات استهلاكاً للطاقة. ويتطلب الأمر استثمارات ضخمة لإعادة بناء قدرة التوليد المدمرة بنسبة تقارب 80 في المئة.

ولذلك فإن اتفاقية معادن أوكرانيا النادرة، تشكل مكاسب جانبية ولكن مهمة، لأنها تسهم في حل المشكلة المستعصية التي تواجهها أميركا في توفير هذه المعادن التي تتحكم الصين في انتاجها وتكريرها وسلاسل إمدادها. كما يبقى الخلاف الأميركي ـ الأوروبي مجرد أضرار جانبية ومؤقتة. ولتبقى المكاسب الحقيقية والدائمة هي النجاح في فك التحالف الروسي ـ الصيني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: