«بريكس»: تجمعها كراهية أميركا… وتفرقها كراهية الصين

أشعلت خطوة توسعة “بريكس”، التكهنات والتوقعات. بين من رأى فيها عنصر تفجير للتناقضات الكامنة والمصالح المتضاربة، ما يهدد باضمحلال المجموعة. وبين من رأى فيها بذور نظام عالمي ثنائي القطب. بحيث يقسم العالم بين معسكر “أهل الجنوب” بقيادة الصين، بمواجهة معسكر “أهل الشمال” بقيادة أميركا.

بعيدا عن تهافت تلك التكهنات والتوقعات، فإن توسعة “بريكس”، لا يشكل أي تغيير جدي أو حتى مؤشراً على تغيير في تركيبة التحالفات الدولية. ولكنه يؤمل أن يشكل جرس إنذار يؤدي إلى استفاقة أميركا من “سكرة عالم القطب الواحد”. فتبادر إلى “تحسين سلوكها” مع حلفائها وشركائها. كما يؤدي إلى تنبيه الصين من “سكرة تقسيم العالم إلى معسكرين”، فتبادر إلى التخلي عن فكرة بناء وقيادة تكتلات معادية لأميركا.

يصح اعتبار “الانتساب” إلى «بريكس» حالة تعبير رمزية لرفض نموذج «الزعامة الأميركية».

يلاحظ أن “بريكس” هي واحدة من عشرات المجموعات والتكتلات في العالم التي نمت كرد فعل على مرحلة القطب الواحد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. والتي عكست جميعها حقيقة واحدة هي رفض الهيمنة الأميركية وتسلط مجموعة السبع على مقدرات دول العالم. ومع أن غالبية هذه التكتلات تكون الصين قطباً رئيسياً فيها، فهناك تكتلات أخرى وجدت لتشكل بديلاً ثالثاً بين أميركا والصين مثل «ميكتا» MIKTA التي تأسست في 2013. وتضم المكسيك وإندونيسيا وكوريا الجنوبية وتركيا وأستراليا. وكلما تلاشى أحد التكتلات، مثل إتحاد دول أميركا الجنوبية، يحل مكانه تكتل آخر، مثل”بروسور”، وهو منتدى تقدم أميركا الجنوبية. ويمكن القول أن مجموعة “بريكس” لديها قواسم مشتركة أقل بكثير من بقية التكتلات المندثرة أو المعطلة.

كراهية نموذج الزعامة الأميركية

بدون التقليل من المصالح الاقتصادية المشتركة بين دول “بريكس”. ولا من قوتها التفاوضية بمواجهة مجموعة السبع. فإن أهم ما يجمع دول المجموعة هو “كراهية” هيمنة أميركا. ولذلك يصح اعتبار “الانتساب” الى المجموعة حالة تعبير رمزية لرفض نموذج “الزعامة الأميركية”.

تناقضات جوهرية بين دول “بريكس”،وما يجمع كل منها مع أميركا، أوسع وأعمق وقد ينطبق ذلك على الصين نفسها

يوضح التدقيق في القواسم المشتركة بين دول “بريكس” وجود تناقضات جوهرية فيما بينها. بل يصح القول ان ما يجمع كل منها مع أميركا، أوسع وأعمق مما يجمعها مع أعضاء المجموعة. وهناك من يذهب في التحليل إلى حد القول أن ذلك ينطبق على الصين نفسها. باعتبار أن الصين لا تستطيع، وليس من مصلحتها، وربما لا تريد، تقسيم العالم إلى معسكرين متخاصمين. فهي بعكس الاتحاد السوفياتي لا تمتلك مشروعاً سياسياً عقائدياً. وبالتالي نموذجاً اقتصادياً تريد تعميمه أو فرضه على العالم. فهي جزء من النظام السياسي والاقتصادي والمالي الرأسمالي. وأقصى ما ترنو إليه هو اعتراف أميركا بأنها شريك رئيسي في هذا النظام أو الأصح بأنها «الشريك الرئيسي». وهي تعتبر ان “بريكس” وشقيقاتها مثل منظمة شنغهاي ومجموعة (16+1). وصولاً إلى مبادرة الحزام والطريق هي “عدة الشغل” لإرغام أميركا على الاعتراف بأنها لم تعد القوة العظمى الوحيدة في العالم، وأن الصين هي القوة الموازية لها.

وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان

توسعة بريكس: ضعف أم قوة

عند هذا الحد تطرح مسألة تحتاج إلى تدقيق  أكثر. وهي أن توسعة “بريكس” ستؤدي بدون شك إلى تنامي قوتها وتأثيرها. إذ تصبح حصتها أكثر من النصف في الإنتاج العالمي بحلول 2040، بحسب تقديرات “بلومبرغ”. أي حوالي ضعف حصة مجموعة السبع. كما ستضم أكثر من نصف سكان العالم تقريباً.

وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبد الله بن زايد

ولكن بالمقابل فإن التوسعة تحمل في طياتها خطرين محدقين هما:

الأول: تفاقم حدة الانقسامات السياسية خاصة بين الهند والبرازيل اللتين تعارضان بشدة توسيع المجموعة. والصين وروسيا اللتين تضغطان بشدة أكبر لتوسيعها. حيث سعت الصين لتحقيق هذا الهدف منذ السنوات الأولى لتأسيسها. وجاء طرح صيغة (بريكس +) في قمة “شيامن” عام 2017، بإيعاز مباشر من الرئيس الصيني. أما الهند والبرازيل فتجدان في هذه الصيغة “استراتيجية مستترة” تستخدمها بكين لتقليص دوريهما في المجموعة. ولتوسيع نفوذها بما يجعلها قائدة محور “أهل الجنوب” بمواجهة “أهل الشمال”. ومعروف أن الصين والهند هما على طرفي نقيض بالنظر إلى الاصطفاف التاريخي للهند مع الغرب وعضويتها في التحالف الرباعي (كواد). إضافة إلى النزاعات الحدودية المستعصية بينهما الخ…

الصراع الهندي الصيني

أما كيف وافقت البرازيل والهند على التوسعة، فهناك من يرجع السبب إلى تسوية قادها رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا “بدبلوماسية فذة” كما وصفها المراقبون. وقضت باختيار ست دول فقط من أصل 23 دولة تقدمت بطلبات العضوية. فتم اختيار إيران المحسوبة على المحور الصيني، مقابل كل من السعودية والإمارات ومصر وأثيوبيا والأرجنتين. وهناك من يذهب بعيداً، ليقول أن الولايات المتحدة لم تكن منزعجة من التوسعة.

الثاني: تفاقم مشكلة التوافق على القرارات والتوجهات الاقتصادية. خاصة وان نظام المجموعة ينص على صدور القرارات والتوصيات بالإجماع. وقد ظهر تأثير ذلك في فشل ترسيخ المجموعة في المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدولي أو مؤسسات الأمم المتحدة. وخير دليل على ذلك مسألة زيادة حجم المبادلات التجارية بين دول “بريكس” باستخدام العملات المحلية. والتي لا تزال بحدود ضيقة جداً. مع العلم أنها تعتبر مجرد جائزة ترضية مقابل الجائزة الكبرى  التي “تحلم” بها الصين وروسيا المتمثلة بإيجاد عملة موحدة. والتي يرجح ان تبقى مجرد “حلم جميل”.

الهند والبرازيل تعتبران توسعة المجموعة “استراتيجية مستترة” تستخدمها بكين لتقليص دوريهما وتوسيع نفوذها لتصبح قائدة معسكر “أهل الجنوب” بمواجهة معسكر “أهل الشمال”

بين “سكرة” أميركا و”سكرة” الصين

نختم بسؤالين:

  1. هل تكتفي الصين بالإنجاز الكبير المحقق بخلق تكتل ذي طابع اقتصادي يستهدف ضبط وتقليص التفرد الأميركي بقيادة العالم. خاصة وان هذا التكتل نجح رغم الاختلافات الكبيرة بين دوله بتحقيق انجازات يمكن البناء عليها. ومنها على سبيل المثال ما يوضحه مؤشر جامعة “تافتس” لقياس تقارب دول “بريكس” بين عامي 2009 و2021. فيظهر حدوث “تقارب وتعاون عميق” في 47 مجالاً في الاقتصاد والاستثمار والتنمية المستدامة والتنمية الصناعية والتمويل الخ… أم “تسكر بنشوة انتصاراتها” فتسعى إلى تحويل “بريكس” إلى تكتل يستهدف مقارعة أميركا وتقسيم العالم إلى معسكرين، في استعادة بائسة لتجربة الحرب الباردة. مع علمها المسبق أن تقارب دول “بريكس” معها لا يعني مطلقاً ابتعادها عن أميركا على مستوى السياسات الاقتصادية والقضايا الجيوسياسية الرئيسية. وأن هذه الدول لا تعارض وتحارب الهيمنة الأميركية لتقع تحت الهيمنة الصينية. والدليل بسيط، فالصين لم تتمكن من فرض أي من مطالبها المهمة مثل توسيع المجموعة وإنشاء منطقة تجارة حرة بين دولها رغم الضغوط التي مارستها منذ العام 2011. إذ لا تزال التجارة البينية لهذه الدول بحدود 6 في المئة من إجمالي تجارتها الخارجية.
  2. هل “تستفيق أميركا من سكرة” تجاهل تأثير بريكس” بعد توسيعها وانضمام دول مهمة لها. وتواصل تلك السياسة الخاطئة القائمة على “الأمركة” وأميركا اولاً، والحروب التجارية حتى مع أقرب الحلفاء، وإضعاف المؤسسات الدولية والتنكر للاتفاقيات متعددة الأطراف. إضافة إلى إدارة الظهر للحلفاء والتنصل حتى من الاتفاقيات الأمنية والسياسية معهم. والسعي إلى إجبارهم على تبني سياسات وقرارات تتعارض مع مصالحهم مثل محاصرة روسيا، أو زيادة انتاج النفط لتخفيض الأسعار. أم تبادر إلى إعادة تصويب مسارها، فتعتمد سياسات تقوم على قاعدة مصالح حقيقية تلبي حاجات التنمية والاستقلالية في بلدان الجنوب. عوضاً عن السياسات القديمة التي انتهت صلاحيتها، كما انتهت صلاحية إجابة الرئيس بايدن رداً على سؤال صحفي بشأن امكانية انضمام دول صديقة لأميركا إلى “بريكس،” بقوله: «أميركا لا تطلب من الشركاء الاختيار بينها وبين دول أخرى».

مجموعة بريكس وغيرها من التكتلات تستند إلى كراهية كبيرة للهيمنة الأميركية، ولكن قد تكون الكراهية أكبر للهيمنة الصينية.

Related Articles

Back to top button