البنك الدولي الحائر بين الفقر والمناخ:
مناورات وخلافات فوق «فالق مراكش»
كلام رئيس البنك الدولي أجاي بانغا حول «مساهمات جديدة في إطار كفاية رأس المال لزيادة القدرة الإقراضية للبنك»، هو ذر للرماد في العيون، لامتصاص غضب الدول النامية قبيل الاجتماعات السنوية المشتركة في التاسع من الشهر الجاري. ومحاولة بائسة لتمرير وتبرير سعي مجموعة السبع لنقل الموارد المالية للبنك من مجال تمويل التنمية ومحاربة الفقر، إلى تمويل المناخ. وذلك بدلاً من زيادة رأسمال البنك كحل وحيد لتمويل النشاطين معاً. ولكنه حل مرفوض تماماً من قبل أميركا لأنه يؤدي إلى تقليص هيمنتها. أو كما قال أحد مدراء البنك :«زيادة رأس المال هي بمثابة الجنة، لكن بلوغها يستوجب الموت أولاً».
تصريح السيد بانغا، بالغ الأهمية لأنه يرسم مسار المفاوضات الشاقة المتوقع ان تشهدها الاجتماعات السنوية. ويمكن تلخيصه، بأنه “نقل أمين” لوعود (نعم مجرد وعود) بتعبئة «مساهمات جديدة قد تأتي من خارج الهيكل الحالي المساهمين». وتشمل، كما قال، طلب الميزانية التكميلية التي اقترحها الرئيس الأميركي جو بايدن البالغة 2.25 مليار دولار، ومساهمات أخرى من ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية والسعودية والدول الإسكندنافية. وقدر السيد بانغا هذه المساهمات بحوالي 100 مليار دولار على مدى عقد كامل.
أحد مدراء البنك الدولي :«زيادة رأس المال هي بمثابة الجنة، لكن بلوغها يستوجب الموت أولاً»
ولتبيان مدى التضليل في هذا الكلام، نشير إلى أن ما يعد به السيد بانغا هو حوالي 10 مليار دولار سنوياً، في حين يقدر البنك الدولي نفسه المبلغ المطلوب لتمويل أنشطة التنمية والمناخ، بحوالي 2.5 تريليون دولار. واضطر بانغا لتوضيح ذلك بقوله: “أعتقد أنه إذا تحققت كل الوعود، فسيكون أمراً جيداً ولكنه ليس كافياً”.
أما جوهر التضليل، فيتعلق بتغيير نموذج عمل البنك وبقية مؤسسات التنمية بعد ان تبين ان النموذج القديم بات يخدم الصين والدول التي تدور في فلكها. وذلك ما قاله بصريح العبارة الرئيس الأميركي بايدن: «الدول النامية بحاجة إلى المزيد من خيارات التمويل لتقليل اعتمادها على الصين. وسنقدم بديلاً للنموذج الصيني القائم على الإقراض القسري وغير المستدام».
ولكن السيد بايدن لا يملك لا المال ولا الإرادة السياسية لتوفيره. وحتى مبلغ الـ 3.3 مليار الذي طلبته الإدارة الأميركية لزيادة تمويل التنمية، قد لا يوافق عليه الكونغرس. وهو ما استبقه مبعوث المناخ جون كيري بقوله: «لا جدوى من مطالبة الكونغرس بالأموال لمنحها إلى دول أخرى من أجل المناخ».
تلخيص المشكلة
في ضوء ما سبق يمكن تلخيص المشكلة،بأن مجموعة السبع قررت منذ العام 2015، وفي ظل تفاقم مشكلة المناخ. وفي ظل قرار سياسي بمحاربة الوقود الأحفوري، التوسع في تمويل مشروعات الطاقة النظيفة والأنشطة المناخية. وقد واجهت تبعاً لذلك مشكلة مثلثة الأضلع في توفير الأموال لذلك، وهي:
- الدول الصناعية لا تمتلك الإرادة السياسية لتحمل مسؤولياتها بتوفير التمويل اللازم للدول النامية. وهي تواصل “اللعبة المملة” بإطلاق التعهدات والالتزامات ثم التنصل منها. وكان آخرها مبلغ الـ 100 مليار دولار الشهير الذي تجدد الالتزام به كل عام بدون نتيجة تذكر.
- اتخذت هذه الدول القرار باللجوء إلى موارد المؤسسات الدولية وفي مقدمتها البنك الدولي. ولكن المشكلة أن هذه المؤسسات لديها أنظمتها التأسيسية التي تحدد أهدافها وطرق ممارسة أنشطتها. فكان لا بد من تعديل هذه الأنظمة. ما يعني الاصطدام بالصين والدول النامية الأخرى. وكذلك الاصطدام بمعارضة كبار الموظفين في المؤسسات. وهو ما يفسر هنا إجبار الرئيس السابق للبنك الدول مالباس على الاستقالة والمجيء بالرئيس بانغا الذي ينفذ بطيب خاطر التعليمات والأوامر.
- ان زيادة رأس المال وهي الحل الجذري الوحيد تقريباً تصطدم بمعارضة شرسة من أميركا لأنه يتطلب أحد أمرين «كلاهما مر». الأول من خلال الجزء القابل للاستدعاء من رأس المال. أي توزيع قيمة الزيادة على الدول بحسب الحصص الحالية. ما يعني تحمل أميركا للجزء الأكبر من الزيادة بحكم إستئثارها بالحصة الأكبر . وإما بتغيير توزيع الحصص عبر السماح للدول القادرة والراغبة مثل الصين بتمويل الزيادة وبالتالي زيادة حصتها على حساب أميركا. وذلك خيار تفضل أميركا إقفال البنك الدولي وإعادة أجاي بانغا للعمل في مجال بطاقات الائتمان، قبل القبول به.
ولذلك لجأت الدول الصناعية إلى حلين التفافيين هما:
الأول: المناخ بدل التنمية:
يقضي بتنفيذ عملية نقل منظمة للموارد المالية المتوافرة من تمويل التنمية ومحاربة الفقر إلى تمويل المناخ. وقد بدأت خجولة في خطة العمل الأولى بشأن تغيّر المناخ (2015-2020). وتصاعدت في الخطة الثانية (2021-2025). وشهد العام 2021 وحده تقديم حوالي 26 مليار لتمويل الأنشطة المناخية وأنشطة التكيف. أي ما يعادل ثلثي ما قدمته كل المؤسسات متعددة الأطراف. وتستهدف الخطة تخصيص 35 في المئة من التمويل للأنشطة المناخية.
الثاني: تخفيض معدل كفاية رأس المال
حاولت مجموعة السبع خلال اجتماعات الربيع الأخيرة، تمرير بدعة تخفيض معدل كفاية رأس المال بنقطة واحدة ليصبح 19 في المئة. مع علمهم المسبق ان هذه الخطوة لن ترفع القدرة الإقراضية بأكثر من 4 مليارات دولار سنوياً، وهو رقم هزيل بالمقارنة مع الاحتياجات الفعلية. ولكن مكمن الخطورة في هذه الخطوة أنها تؤدي إلى تخفيض التصنيف الإئتماني للبنك، ما يرفع بالتالي تكلفة الإقراض التي ستتحملها بالطبع الدول المقترضة.
الثالث: إصلاح و«تركيب طرابيش»
في مقابل كل هذه التعقيدات، تفتّق الذهن عن حل تضليلي، تم تقديمه تحت شعار جذاب و”ترندي” هو إصلاح مؤسسات “بريتون وودز”. ويجري تسويقه من خلال جهود ومبادرات منسقة ومتشابكة بتواتر منظم.
بدأت ملامح هذا الحل تتضخ في منتصف العام 2022. حين طلبت مجموعة العشرين إجراء مراجعة مستقلة لأطر كفاية رأس المال لبنوك التنمية المتعددة الأطراف. وأوصت بمراجعة أطر المخاطر الخاصة بها وتحسين الاستفادة من رؤوس أموالها القابلة للاستدعاء لدعم توسيع نطاق الإقراض.
وأخذت هذه المساعي بعدها المؤسساتي ـ الدولي بطرح قدمته رئيسة وزراء بربادوس ميا موتلي وتضمن بشكل أساسي اعادة هيكلة الديون السيادية لتعزيز السيولة في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل. وزيادة الموارد المالية من قبل الدول الغنية والقطاع الخاص المخصصة لتداعيات التغير المناخي؛ وليبقى العنصر الأهم في المبادرة هو إصلاح مؤسسات “بريتون وودز” وفي مقدمتها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
والطريف في الأمر ان طرح رئيس وزراء دولة مغمورة، لاقى تأييداً واسع النطاق من قبل أميركا ومجموعة الدول السبع. ليتحول فوراً إلى ما بات يعرف بـ«مبادرة بريدجتاون». ولتشكل هذه المباردة محور قمة تمويل التنمية التي عقدت في باريس في شهر يونيو الماضي. والأهم انها ستشكل احد المحاور الرئيسية في الاجتماعات السنوية المشتركة للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي في اكتوبر الحالي.
البنك الدولي ورئيسه المطواع
سرعان ما استجاب البنك الدولي، فقام بإعداد خارطة طريق للإصلاح. وقد تم لسبب غير معروف تسريبها إلى الصحافة، مطلع العام الحالي. مع أن الخطة كما أعلن البنك ستكون موضع تشاور مع الدول والمساهمين والعملاء وأصحاب المصلحة بشأن حزمة الإصلاح النهائية على مدى الأشهر التسعة المقبلة، على أن تبلغ ذروتها في الاجتماعات السنوية للبنك في أكتوبر.
تتناول خارطة الطريق كيفية المواءمة بين القضاء على الفقر المدقع وتمويل المناخ وإصلاح نموذج عمل البنك على أساس كل دولة، ومعايير التيسير والتخصيص وتعبئة أموال القطاع الخاص للاستثمار في المنافع العامة العالمية. وتشمل بالطبع تعبئة مساهمات جديدة من المساهمين لدعم الإقراض غير الميسر أي بفوائد مرتفعة، بما يعني نقل أعباء التمويل إلى المقترضين، وهو أمر ترفضه بشدة الدول النامية.
تصريحان يختصران الموضوع
اختصاراً لكل الشرح نسوق تصريحين يختصران التطورات:
وزيرة الخزانة الأميركية: «المطلوب تقدم أسرع بجهود توسيع الإقراض بدون اللجوء إلى زيادة رأس المال». يعني بالعربي المشربح نقل التمويل من التنمية إلى المناخ. وتقويض التصنيف الائتماني ما يعني زيادة تكاليف الإقتراض.
وزير التغير المناخي والطاقة الأوسترالي: «على البنك الدولي أن يلتزم التزاماً صادقاً بمبادرة بريدجتاون، ورحيل رئيسه السابق يوفر الفرصة لأن يكون التحدي المناخي هو القضية المركزية».