مؤتمرات المناخ ولعبة المصالح

تحولت سياسات التغير المناخي والدعم الحكومي الهائل لانتقال الطاقة بخاصة في أوروبا والولايات المتحدة إلى صناعات ضخمة تضاهي أكبر الصناعات في العالم لدرجة أن الاستثمار في الطاقة المتجددة تفوق على الاستثمار في النفط والغاز والفحم.

وتحولت مؤتمرات المناخ وحدها إلى صناعة مستقلة تجلب عشرات الألوف من الزائرين، ومئات الملايين من الدولارات للمدينة التي يعتقد بها المؤتمر. حتى عدد الطائرات الخاصة التي تقل كبار الشخصيات يتجاوز 500 طائرة.

مع هذا الزخم الضخم تنفق الشركات المستفيدة جزءاً من الإعانات الحكومية على لوبيات ودعايات إعلامية كي تستمر هذه الإعانات، وهذا يعني المزيد من الهجوم على صناعة النفط والغاز، والمزيد من الترويج لصناعات التغير الطاقي، خصوصاً الطاقة المتجددة والسيارات الكهربائية.

وكي تحافظ على تدفق الأموال تبرز مراكز الأبحاث والجامعات والأكاديميين خطر التغير المناخي لأن أي شيء عكس ذلك يعني وقف تدفق هذه الأموال. ووصل الأمر إلى أنه حتى المؤتمرات العالمية المتخصصة في النفط والغاز أوقفت التعامل مع كبار الخبراء الذين انتقدوا سياسات التغير المناخي، وأصبحت الأمور من جانب واحد فقط، ومن ثم فإن التغطية الإعلامية، حتى لو تكن تهدف للتحيز فهي كذلك لأن الأخبار تأتي من جانب واحد فقط.

ما يميز مؤتمر المناخ “كوب28” المعقود حالياً في دبي هو السماح لشركات النفط والبتروكيماويات بالحضور، وهذا يعني أن الطرف الآخر يسمع منهم مباشرة للمرة الأولى، وستغطي وسائل الإعلام ما يقولونه.

إلا أن الإعلام اليساري المتطرف يصر على تحوير وتجيير ما يقوله قادة صناعة النفط ويهاجمهم، حيث استمر في مهاجمة رئيس المؤتمر الدكتور سلطان الجابر، واتهموه اتهامات باطلة ظلماً وعدواناً، لسبب واضح: الرجل قوي، ومنطقي، وذي حجة بالغة، من دولة غنية، وهذا يخيفهم. وبلغ العداء أنه حتى عندما شرح قادة الصناعة عملية احتجاز الكربون، حيث تعد انبعاثات الكربون من قبل أنصار محاربة التغير المناخي هي المشكلة، شن الإعلام اليساري عليهم حملة شديدة بأن هذه التقنية غير مجدية، مع أن من كتب غير متخصص، ولا علاقة له بالأمر لا من قريب ولا بعيد. إذا كان الهدف هو تخفيف مستويات الكربون، وهناك حلول، لماذا يحاربونها؟ لأنهم مدعومون من صناعات أخرى، وهذه الصناعات ستخسر إذا نجحت شركات النفط في جهودها. الموضوع موضوع جني أموال، ولا يتعدى ذلك.

التناقض بين السياسات والنفاق المناخي

تأتي الدول الأوروبية والولايات المتحدة وكندا إلى مؤتمرات المناخ مطالبة حكومات الاقتصادات الناشئة والدول الفقيرة بتقديم المزيد لمحاربة التغير المناخي لمنع ارتفاع درجة حرارة الأرض أكثر من 1.5 درجة مئوية. وعندما يقول قادة الدول الناشئة والفقيرة إنه ليست لديهم الإمكانية للقيام بذلك، تتبرع الدول الغنية بمبالغ ضخمة، وتطالبهم بالتغيير، ولكن أغلبها لا يدفع ما وعدوا به.

والمشكلة أعمق من ذلك: كيف للصين والهند وجنوب أفريقيا أن توقف استخدام الفحم، وبعض الدول الأوروبية التي تطالبها بوقف استخدام الفحم تعود للفحم؟ الدول الأوروبية تطالب نظيرتها الفقيرة بوقف دعم المحروقات والكهرباء وهي من قدم أكبر إعانات للمحروقات والكهرباء في 2022 في العالم. تطالب الأولى الأخيرة بفرض ضرائب على الكربون ثم تتراجع عنها بعد فرضها كما حصل في كندا.

هذا النفاق البيئي أو النفاق المناخي يعطي ضوءاً أخضر للصين والهند والدول النفطية والدول الفقيرة في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية أن تتجاهل ما يقوله المسؤولون الغربيون. هذا النفاق البيئي أو المناخي سببه التناقض بين السياسات الاقتصادية والخارجية وسياسات الأمن القومي من جهة، وسياسات التغير المناخي من جهة أخرى.

أدلة كثيرة تشير إلى أنه متى ما حصل هذه التناقض فإنه يتم التضحية بسياسات التغير المناخي تماماً كما حدث في العام الماضي. إذا كان موضوع التغير المناخي مهماً لدرجة عقد مؤتمر سنوي هو الأكبر في العالم لمدة أسبوعين تحضره كل الدول. كما أن الأمم المتحدة تطالب بإعلان حالة الطوارئ، لماذا يتراجعون عن سياسات التغير المناخي؟

هناك أسباب عدة، أهمها أن دورات الانتخابات أقصر من أثر دورات التغير المناخي، ومن ثم فإن ما يهم السياسي هو عودة انتخابه، ولهذا يركز على السياسات الاقتصادية والخارجية التي تسهم في إعادة انتخابه، لا على السياسات المرهقة لدافع الضرائب التي تخفض من مستواه المعيشي. من هذا المنطلق نجد أن أكثر سياسات التغير المناخي نجاحاً في بلاد ليس فيها انتخابات بالمفهوم الغربي مثل الصين والإمارات والسعودية.

لعبة المصالح

في محادثات المناخ، كل دولة تحاول أن تحقق مصالحها وتعظم منفعتها، وهذا ليس المقصود في هذه الفقرة. المقصود بلعبة المصالح هو كيف تلعب الدول الغربية ألاعيب مختلفة بحيث تظهر أنها متقدمة مناخياً، ولكن في الواقع الأمر هو تحصيل حاصل (أعلنت الولايات المتحدة وفرنسا أنهما ستوقفان بناء محطات كهرباء عاملة بالفحم) وستحاول التخلص من محطات الكهرباء العاملة بالفحم حالياً. وطالبت الدول الأخرى بأن تقدم التعهدات نفسها. وقوبل ذلك بالرفض من دول مثل الهند والصين، كما رفضت اليابان ذلك أيضاً.

موقف الولايات المتحدة وفرنسا يذكرنا بموقف رئيس وزراء كندا جاستن ترودو بعد الهجوم العسكري الروسي على أوكرانيا. فقد قرر معاقبة روسيا بوقف استيراد النفط الخام من روسيا، ووصفه الإعلام التابع له بأنه قرار بطولي مبني على المبادئ، والحقيقة أبعد ما تكون من ذلك: كندا لا تستورد النفط الخام الروسي أصلاً! الولايات المتحدة وفرنسا لا تعطي رخصاً لبناء محطات كهرباء عاملة على الفحم على كل الحالات.

كما أن الولايات المتحدة قررت منذ سنوات عدم تجديد رخص محطات الكهرباء العاملة بالفحم على كل الحالات. ولكن المهم من ذلك كله أن دور محطات الفحم يتضاءل منذ سنوات بسبب ثورة الصخري التي وفرت كميات هائلة من الغاز الرخيص، وقتل صناعة الفحم. فرنسا ركزت تاريخياً على المحطات النووية حيث أن أغلب توليد الكهرباء يأتي منها، وتبني الآن عدداً كبيراً من المفاعلات.

باختصار، ما قاله مسؤولو البلدين في مؤتمر المناخ هو تحصيل حاصل، ويطالبون الدول الأخرى أن تحذو حذوهم، وليس لدى الدول الأخرى الغاز الرخيص أو القدرة على بناء محطات نووية.

ختاماً، قررت الولايات المتحدة منذ سنوات أن تسحب البساط من تحت بوتين في أوروبا وطرد الغاز الروسي وإحلال نظيره الأميركي محله. الآن، وبعد إنفاق مئات المليارات من الدولارات على مشاريع الغاز المسال الأميركي، وبعد أن أصبح الغاز المسال جزءاً أساسياً من سياسات الأمن القومي الأميركي، وسياسة الولايات المتحدة الخارجية في أوروبا بهدف السيطرة عليها بشكل غير مباشر من خلال إمدادات الطاقة كما كانت تفعل روسيا، هل ستقبل الولايات المتحدة أن تقوم أوروبا بتصنيف الغاز على أنه عدو للبيئة ومضاعفة الطاقة المتجددة وتتخلص من الغاز الأميركي، الذي يعني بالضرورة انهيار هذه الصناعة، ومن ثم انهيار السياسة الأميركية في أوروبا؟  أنها لعبة المصالح يا عزيزي! يستغل التغير المناخي فقط عندما يخدم تلك المصالح.

نقلاً عن صحيفة إندبندنت عربية

Related Articles

Back to top button