إعصار الطاقة النظيفة بعد عاصفة العولمة
يتوقع أن يخلق الانتقال إلى عصر الطاقة النظيفة جغرافية سياسية جديدة تتضمن سقوط دول ونظم اقتصادية، بدت لوهلة ثابتة ودائمة. فهل يشهد العالم إعصار الطاقة النظيفة بعد عاصفة العولمة. وهل تكون الخصخصة و”إجماع واشنطن” الشهير، إلى جانب روسيا وبعض الدول النفطية في طليعة قائمة الضحايا؟
وهل تكون الحماسة الأميركية المستجدة لدعم التحول إلى الطاقة النظيفة، ترتبط باعتقادها أنها تساهم في إطالة عمر سيطرتها. وتشكل بديلاً عن العولمة التي تحولت إلى عنصر قوة للصين، في المنافسة على قيادة العالم؟ علماً ان قدرات الصين على المنافسة في الطاقة النظيفة لا تقل عن قدرات أميركا.
إقرأ أيضاً: بين أمن الطاقة وأمن المناخ: ارتبكت أميركا وأربكت العالم (1 من 2)
نظم الطاقة والجغرافية السياسية
لنلاحظ أولاً الارتباط الوثيق تاريخياً بين نظم الطاقة وبين الجغرافية السياسية والنظم الاقتصادية. فبريطانيا والحلفاء حسب القول الشهير لرجل الدولة البريطاني اللورد كرزون، “أبحروا إلى النصر فوق موجة النفط” في الحرب العالمية الأولى. وكان يقصد نفط دول الخليج وبحر الشمال. أما أميركا فـ”حلقت” إلى التفوق والهيمنة على “أجنحة” النفط والغاز. مستفيدة من سيطرتها على منابعه وطرق إمداده. ثم اندفعت في مطلع التسعينات، مستندة إلى تحكمها بمصادر الطاقة وإلى انهيار الاتحاد السوفييتي، إلى تكريس دورها كقطب وحيد في العالم. من خلال فرض سياسات العولمة والخصخصة وتحرير التجارة والاستثمار، وتقليص دور الدولة لصالح القطاع الخاص إلخ. ومن ضمن المكاسب الضخمة التي حققتها أميركا من موجة العولمة، كان نقل الصناعات الملوثة وذات الانبعاثات الضخمة إلى الصين والدول النامية. التي قفز استهلاكها من النفط والغاز والفحم بمعدلات قياسية، ما أدى إلى زيادة ارتهانها لأمن إمدادات الطاقة.
إنتهاء صلاحية سلاح العولمة
بعد ذلك، وجدت أميركا والدول الغربية الكبرى، أن سلاح العولمة فقد فعاليته في خدمة تفوقها، بل بات يستخدم ضدها، لأن الصين أصبحت أكثر قدرة على الاستفادة منه. في ظل سيطرتها على الإنتاج الصناعي وسلاسل الإمداد. وتصاعد وتيرة تفوقها في مجال الابتكار والثورة الصناعية الرابعة. والأهم أنها بعكس الاتحاد السوفياتي لا تستهدف تغيير النظام العالمي بل قيادته بالمشاركة الندية مع أميركا.
وهكذا تمت إزالة الغبار عن سلاح التغير المناخي والطاقة النظيفة، ليصبح “كلمة حق” هي الحفاظ على البيئة وحماية الكوكب من “الانتحار”. “يراد بها باطل” وهو اعتباره من قبل أميركا وحلفائها فرصة مناسبة للحفاظ على تفوقها وإطالة عمر تفردهم بقيادة العالم.
فرض الانتقال إلى الطاقة النظيفة
إذا كانت مراقبة سرعة تراكم الثروات الخضراء وتضخم أعداد الملياديرات الخضر يشكل مؤشراً مهماً على اتجاهات الجغرافية السياسية. فإن مراقبة حركة ترويج وفرض سياسات الطاقة النظيفة و”شيطنة” الطاقة الأحفورية، تشكل مؤشراً أهم على هذه الاتجاهات. وهي حركة تتوالى الدلائل على أنها ستكون مشابهة لما تم اعتماده خلال تسعينيات القرن الماضي ومطلع الألفية الثانية، لترويج وفرض العولمة، ونذكر منها على سبيل المثال:
1. جيوش الترويج و”التنوير”
حملة دعائية ضخمة للترويج و”التنوير” تتولاها جيوش من الخبراء والباحثين والإعلاميين، مدعومة بإنتاج غزير لـ”الأسلحة والذخائر” من قبل مراكز البحث والمنظمات الدولية والمؤسسات الحكومية مثل “نازا” والـ”سي .أي. أيه.” التي تتولى “صنع” التقارير والأبحاث وتوفير المعلومات والبيانات وعقد المؤتمرات والندوات. مع رصد ميزانيات ضخمة بمليارات الدورالات، قد تفوق ما أنفق على حملة ترويج العولمة، التي تم خلالها نشر وبث عشرات آلاف الأبحاث والتقارير والبرامج التلفزيونية وعقد آلاف المؤتمرات والندوات. حتى باتت تعابير مثل “الخصخصة” و”تحرير التجارة والاستثمار” و”فتح الأسواق” بنداً ثابتاً في خطط التنمية والسياسات الحكومية في كل دول العالم، وأصبحت على كل شفة ولسان، بل وصلت إلى البرامج الانتخابية لمخاتير القرى والدساكر. وهذه التعابير التي نادراً ما يتم استخدامها حالياً، سيتم استبدالها بتعابير “التغير المناخي” و”تصفير الانبعاثات الكربونية” و”الطاقة النظيفة” الخ.. وليس من قبيل الصدف استحداث أبواب ثابتة بل مواقع مستقلة للتغير المناخي والطاقة المتجددة، من قبل كبريات المؤسسات البحثية والاعلامية.. و”الحبل عالجرار”.
2. قوانين واتفاقيات دولية
تطوير إطار قانوني على المستويين الدولي والوطني يفرض الالتزام بالمعايير المناخية وبالانتقال إلى الطاقة النظيفة. ويتمثل بشكل أساسي بالاتفاقيات الدولية، وفرض تغيير القوانين الوطنية بما يتلاءم مع هذه الاتفاقيات، وإجبار الدول على التقيد بمعايير إزالة الكربون، تماماً كما حدث خلال موجة العولمة. ومن الأمثلة على ذلك، عزم الاتحاد الاتحاد الأوروبي تعديل سقوف انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بحلول العام 2023، وفرض رسوم على السلع المستوردة غير المطابقة لتلك المعايير. ومن غير المستبعد استحداث منظمة مشابهة لمنظمة التجارة العالمية، التي يبدو أنها وضعت على الرف بعد أن إنتهى دورها مع انتفاء الحاجة إلى العولمة وما رافقها من شعارات.
3. عصا مجلس الأمن والمحكمة الجنائية
السعي إلى نقل ملف التغير المناخي إلى مجلس الأمن واستصدار قرارات ملزمة بالانصياع للمعايير المناخية والبيئية. ويُسجل هنا تطوران مهمان خلال شهر واحد بعد مؤتمر “كوب 26”. الأول، مسودة قرار قدمته إيرلندا والنيجر إلى مجلس الأمن “لاعتبار التغير المناخي خطراً رئيسياً على السلم والأمن والاستقرار العالمي”، والذي اضطرت روسيا لاستخدام حق النقض “الفيتو” لإسقاطه. والثاني، تقديم بنغلادش وساموا وفانواتو، طلباً إلى المحكمة الجنائية الدولية مطالبة باعتبار التغير المناخي “جريمة إبادة” وتصنيفه كجريمة خامسة ضد الإنسانية، تضاف إلى الجرائم الأربع التي تنظر فيها المحكمة. وتم تأجيل البت بالطلب، لأنه يتطلب تعديلاً في ميثاق روما والالتزام بإجراءات إدارية وبروتوكولية قبل عرضه للبحث. ويمكن القول إن سقوط المبادرتين ليس نهاية هذا المطاف، بل بدايته.
إقرأ أيضاً: النفط نعمة وليس تهمة: ماذا أنتم فاعلون لوقف “شيطنته” ؟
4. تقييد ومنع التمويل
تقييد وعرقلة وربما منع تمويل مشاريع الوقود الأحفوري، مقابل تسهيل وتشجيع مشاريع الطاقة النظيفة. ويبدو إعلان وزارة الخزانة الأميركية في نيسان الماضي أن “الولايات المتحدة ستوقف تمويل مشاريع الغاز الطبيعي في الخارج بسبب مخاوف تتعلق بتغير المناخ” هو أول الغيث، ولننتظر انهماره مع اعتماد البنوك والمؤسسات المالية شروطاً متشددة لتمويل الأنشطة غير المتوافقة مع المعايير البيئية، أو وقف تمويلها بالكامل. إضافة إلى ربط المساعدات والقروض التنموية باعتماد هذه المعايير. وهو أمر مشابه لما حدث في فرض تطبيق العولمة، حين عانت الدول التي لم تنصع، للعزل والحرمان من الاستثمارات ومن تصدير سلعها ومنتجاتها وانهيار عملاتها. وكانت الموافقة على وصفة صندوق النقد الدولي الشهيرة، والمستندة إلى إعلان واشنطن، هي الشاهد الذي لا يزال حياً على ذلك، وإن كان متوقعاً تغيير هذه الوصفة مستقبلاً بما يتوافق مع موضة التغير المناخي.
«حقل» أميركا و «بيدر» الصين
لما كان تغير نظام الطاقة يترافق مع تغير في المعطيات الجيوسياسية، فمن البديهي أن يخلق رابحين وخاسرين. ومع أن أميركا والدول الغربية الكبرى، ستكون في طليعة قائمة الرابحين. لكن المفارقة أن الصين ستكون في طليعة هذه القائمة أيضاً. مستفيدة من بنية تحتية ضخمة لانتاج الطاقة النظيفة. والأهم لإنتاج مكوناتها مثل بطاريات الليثيوم وألواح الطاقة الشمسية وعنفات الرياح. فهي تحتكر حالياً إنتاج حوالى 75 في المئة من الألواح الشمسية الكهروضوئية. وحوالي 70 في المئة من البولي سيليكون. ونحو 90 في المئة من رقائق أشباه الموصلات لخلايا الطاقة الشمسية. إضافة إلى امتلاكها حصة رئيسية من المعادن ذات العلاقة المباشرة بالطاقة النظيفة مثل الليثيوم والكوبالت والنيكل. حيث اشترت شركة صينية في العام 2016 أضخم منجم في العالم للنحاس والكوبالت في جمهورية الكونغو. ما جعلها تتحكم بعشر الإمدادات العالمية من الكوبالت. و
يبدو أن الصين قد نجحت بعد تغيبها عن مؤتمر “كوب 26” في «إجبار» الولايات المتحدة على التوصل لاتفاق، يسمح لها بالانتقال السلس نحو الطاقة النظيفة وتخفيض تدريجي مدروس لاعتمادها على الوقود الأحفوري وخصوصاً الفحم.
ولتبقى الدول النامية كالعادة ضحية التغير المناخي والطاقة النظيفة، كما كانت ضحية العولمة وتحرير التجارة والاستثمار.