حقل ضخم للغاز في قبرص:هل يفتح باب تسوية النزاعات؟
توقيت إعلان اكتشاف حقل ضخم للغاز في قبرص حتى قبل مباشرة الحفر، والأهم مكان الحقل، يثير بعض التساؤلات. وذلك رغم مصداقية كاتب المقال بيتر ستيفنسون والناشر «نشرة ميس». فهل تكون السلطات القبرصية هي مصدر الخبر؟. في محاولة لاقتناص لحظة التطورات السياسية في المنطقة لاطلاق ورشة استخراج الغاز المتعثرة منذ سنوات طويلة لأسباب عديدة ليس أقلها النزاع الحدودي مع تركيا؟. أم يكون المصدر هو الشركات النفطية في سياق سعيها «لإبراء ذمتها» وتنفيذ التزامات الحفر المنصوص عليها في العقود التي شارفت على الانتهاء، بما يكفل ضمان تجديدها؟
يشير المقال إلى أن البئر الذي اطلق عليه إسم إلكترا يقع في «الجزء الجنوبي» من البلوك رقم 5، الذي تم تلزيمه لكونسورتيوم يضم إكسون موبيل بحصة 60%، وقطر للطاقة بحصة 40%. كما يشير إلى أن الحفر سيبدأ الشهر المقبل. ويضيف أن «مصادر مطلعة» على العملية ذكرت أنه يحتوي على 25 – 30 تريليون قدم مكعب من الغاز. ما يجعله في مصاف حقلي ظهر المصري وليفياثان الإسرائيلي. ومعروف أنه يستحيل تحديد حجم المخزونات استناداً إلى المسوحات السيزمية مهما بلغت دقتها.
لا غاز بظل النزاعات الحدودية
تتجلى مهنية الكاتب ومصداقية «النشرة» بالمسارعة إلى ربط الحفر والاستغلال إذا ثبت وجود مخزونات بكميات تجارية بمعضلة النزاع الحدودي مع تركيا. فيذكر المقال، أن «قرار كونسورتيوم إكسون وقطر للطاقة بالحفر في الجزء الجنوبي من البلوك، قد يكون مرتبطاً بمطالبة تركيا بالجزء الشمالي منه». وذلك بناء على ترسيم حدود منطقتها الاقتصادية الخالصة. واعتبر أن «وجود شركة قطر للطاقة، قد يوفر رادعاً محتملاً بوجه أي أعتراضات تركية أو مضايقات لسفينة الحفر. في ظل العلاقات الوثيقة بين الدوحة وأنقرة».
إقرأ أيضا: لا غاز في قبرص ولبنان قبل حل النزاع الحدودي مع تركيا
ولتوضيح أهمية هذه المسألة، نشير إلى أن تركيا لم تكتف على مدى الـ 15 سنة الماضية بالتهديد بعرقلة أنشطة الاستكشاف والحفر في قبرص، بل نفذت في حالات عديدة هذه التهديدات. وكان أبرزها قصف البوارج التركية منطقة قريبة من حقل أفروديت قبيل الإعلان عن اكتشاف الغاز فيه عام 2011. وقامت البحرية التركية أيضاً، في العام 2018، بمنع سفينة الحفر «سايبيم» التابعة لشركة إيني الإيطالية من مباشرة الحفر في البلوك رقم 3 المحاذي للحدود اللبنانية. كما قامت السفن التركية بالعديد من عمليات الاستكشاف والحفر في البلوكات القبرصية التي تعتبرها تركيا موضع نزاع مع قبرص.
حوض هيرودوت: فالق زلازل سياسي
لمزيد من توضيح أهمية الجانب السياسي، نشير أيضاً إلى أن البلوك 5 يقع في حوض هيرودوت الذي يمتد على مساحة 113 ألف كيلومتر مربع. وتتقاسمه مصر وليبيا وقبرص واليونان. إضافة بالطبع إلى تركيا وفقاً لترسيم المنطقة الاقتصادية من جانب واحد. وتشير التقديرات إلى أن الحوض يحتوي على حوالي 122 تريليون قدم مكعبة من الغاز، ما يجعله من أهم المواقع في المتوسط. وما يجلعه بالتالي بمثابة فالق زلازل سياسي بسبب نزاعات الحدود بين الدول المعنية.
إقرأ أيضاً: غاز شرق المتوسط أسير أحقاد التاريخ ونزاعات الجغرافيا
وفي سياق ملفت في تزامنه مع الإعلان عن بدء الحفر في البلوك رقم 5، كانت ليبيا قد أعلنت عن خططها لإطلاق دورة تراخيص في عدد من البلوكات البحرية في هذا الحوض. ما يجعلها في مواجهة مباشرة مع قبرص واليونان ومصر. خاصة في ظل ترسيم حدود منطقتها الاقتصادية الخاصة المستندة إلى مذكرة التفاهم الشهيرة الموقعة مع تركيا في العام 2019 والتي تزيد مساحة هذه المنطقة بحوالي 39 ألف كلم2 على حساب اليونان.
الخلاصة الأولى:
عملية الحفر ستتم في منطقة زلازل سياسية. فالبوك رقم 5 يقع على «فالقين» من النزاعات الحدودية؛ الأول بين تركيا وقبرص. والثاني، بين الدول المشاركة في حوض هيرودوت. ما يسمح بالقول أن مباشرة الحفر مع الإعلان مسبقاً عن وحود احتياطيات ضخمة، يصح اعتباره مقدمة لتطورات دراماتيكية في هذه اللحظة المفصلية من المتغيرات المتسارعة في المنطقة. قد تؤدي إما إلى إطلاق مسار تسوية كبرى للنزاعات الحدودية تحرر «مارد الغاز» في شرق المتوسط من «قمقم» أحقاد التاريخ وقيود الجغرافية. وإما إلى إطلاق جولات جديدة من الصراعات السياسية وربما العسكرية، قد تخلق الأرضية والشروط اللازمة لتلك التسوية.
إبرام ذمة الشركات
مع أن قبرص تعتبر من أكثر دول المنطقة نشاطاً في مجال الاستكشاف والتنقيب وتحقيق الاكتشافات، إلا أنها لم تنجح في نقل أي حقل إلى مرحلة الإنتاج. ويرجع ذلك إلى عدم حماسة الشركات بل تلكؤها بسبب تخوفها من تأثيرات النزاعات الحدودية اولاً. وثانياً بسبب عدم تحقيق اكتشافات كبيرة تبرر من الناحية التجارية إنشاء البنية الأساسية للإنتاج والتصدير.
أقرأ أيضاً: مذكرة التفاهم التركية الليبية تعيد رسم الحدود البحرية لشرق المتوسط
وخلقت هذه المعطيات علاقة متوترة مع الحكومات القبرصية المتعاقبة، والتي مارست ضغوطاً شديدة على الشركات لبدء الإنتاج. كان آخرها الرسالة الحادة التي وجهتها الحكومة في شهر مايو الماضي إلى الكونسورتيوم العامل في حقل أفروديت بقيادة شركة شيفرون. مهددة بإلغاء الترخيص ما لم تتم المبادرة إلى «التأكيد خطياً وفوراً على الموافقة غير المشروطة لتنفيذ خطة التطوير الأصلية في غضون ستة أشهر». وتكرر ذلك مع كل الشركات، خصوصاً شركتي توتال إنيرجيز و إيني. حيث استدعى الرئيس القبرصي رئيس شركة إيني إلى القصر الرئاسي لحثه على الاستجابة الفورية لمطالبات وزارة النفط بمباشرة العمل في استغلال الآبار المكتشفة.
وعليه يصح وضع عملية الحفر في بئر إلكترا في إطار سعي الشركات للاستجابة لتلك الضغوط من جهة. ولتجنب إقدام الحكومة القبرصية على عدم تجديد العقود من جهة أخرى. خاصة وأن العام 2025 سيشهد انتهاء العديد منها. ومن بينها العقد المتعلق بالبلوك رقم 10، الموقع مع كونسورتيوم إكسون وقطر للطاقة، الذي ينتهي في شهر إبريل المقبل. إضافة إلى سبعة عقود مع كونسورتيوم يضم شركتي إيني وتوتال. من بينها أربعة عقود تنتهي في شهر فبراير.
الخلاصة الثانية:
عمليات الاستكشاف والحفر رغم أهميتها، لا تشكل مؤشراً كافياً على تغيير جدي في تعاطي الشركات مع ملف الغاز في قبرص. والانتقال من مرحلة التلكؤ والتسويف إلى مرحلة الإنتاج. وقد يمكن إدراجها في خانة السعي لتنفيذ الحد الأدنى من الالتزمات التي تنص عليها العقود، لضمان تجديدها. كما يمكن إدراجها في خانة السعي إلى تجميع الأصول لاستغلالها حين تنضج الظروف السياسية وتحل النزاعات الحدودية. ما يسمح بالاستثمار في بناء مرافق الانتاج والتصدير.