عصر مفاعلات الثوريوم: أميركا ابتكرتها.. والصين تطورها لتعزز تحكمها بالطاقة المتجددة

هل تبقى أميركا «نائمة على حرير» تفوقها، تاركة الصين «تنسج حرير» إحكام سيطرتها على مصادر الطاقة المتجددة، لتسمح لها بإعادة تشكيل نظام الطاقة العالمي بكل تداعياته على الجغرافيا السياسية؟
وهل يكون مفاعل الثوريوم التجريبي في صحراء غوبي سجادة حمراء «تتبختر» عليها الصين لافتتاح عصر جديد في طاقة الانشطار النووي، بعد أن كرّست سيطرتها سابقًا على طاقة الشمس والرياح وسلاسل إمداد المعادن النادرة؟
وربما بانتظار سجادة ذهبية يتم تحضيرها لعصر طاقة الاندماج النووي في حال فوزها بما اصطلح على تسميته «الكأس المقدسة» أي بناء أول محطة تجارية اندماجية؟
الصين: «نحن الخليفة»
قبل شرح ماهية ومزايا وتحديات مفاعلات الثوريوم وأبعادها الجيوسياسية، تجدر الإشارة إلى أن تقنية مفاعلات الثوريوم طورتها الولايات المتحدة في ستينيات القرن الماضي. وتمت تجربتها خلال الفترة 1965 ـ 1969 في مفاعل الأملاح المنصهرة في مختبر «أوك ريدج الوطني».
ولكنها صرفت النظر عنها لصالح مفاعلات اليورانيوم والبلوتونيوم. وقد لخص شو هونغجيه، رئيس فريق المشروع الصيني في معهد شنغهاي للفيزياء التطبيقية (SINAP)، تلك الرحلة بقوله: «الولايات المتحدة تركت أبحاثها متاحة للجميع بانتظار من يخلفها، ونحن الخليفة».
إقرأ أيضاً:
طاقة الاندماج النووي: سباق أميركي صيني على «صناعة الشمس» (1 من 5)
طاقة الاندماح النووي: عسكرة واستخدام مزدوج (3 من 5)
وكان فريق شو قد باشر بناء المفاعل عام 2018، بعد أبحاث مكثفة لتطوير التقنية الأميركية بدأت في 2011. وحقق المفاعل كامل طاقته التشغيلية في يونيو 2024 البالغة 2 ميغاواط. وفي أكتوبر الماضي، نجح الفريق بإعادة تعبئته بالوقود أثناء التشغيل. وهذا المفاعل جزء من خطة لتطوير مفاعلات أكبر تصل قدرتها إلى 373 ميغاواط بحلول الثلاثينيات. مع الإشارة إلى أن المفاعلات الصينية الحاليةلا تزال تجريبية ولم تدخل مرحلة الإنتاج التجاري للكهرباء.
ماهية ومزايا مفاعلات الثوريوم
الثوريوم (Thorium) هو عنصر كيميائي يحمل الرمز (Th) ويتواجد بكميات كبيرة في القشرة الأرضية، ويمتلك خصائص إشعاعية طبيعية. وقد أطلق عليه هذا الاسم تيمناً بإله الرعد «ثور» في الأساطير الإسكندنافية. وقد استخدم خارج المجال النووي في تصنيع مصابيح الغاز والأجهزة الدقيقة.
وعنصر الثوريوم ليس وقوداً نووياً بحد ذاته، بل يشكل الأساس لإنتاج وقود نووي عبر سلسلة من التفاعلات التي تحول الثوريوم-232 بعد امتصاصه للنيوترون إلى اليورانيوم-233.
“أميركا «تنام على حرير» إرثها النووي، والصين «تنسج حرير» تفوقها في نظام عالمي جديد للطاقة المتجددة
يوفر الثوريوم عند استخدامه كوقود نووي، العديد من المزايا مقارنة بوقود اليورانيوم التقليدي، أبرزها ما يلي:
- وجود احتياطيات ضخمة في القشرة الأرضية تقدر بحوالي 12 مليون طن. أي ثلاثة أو أربعة أضعاف كميات اليورانيوم. مما يعني توفير الاحتياجات لأكثر من ألف عام .
- كفاءة أعلى بتوليد الطاقة، إذ يُقدَّر أن طناً واحداً من الثوريوم ينتج طاقة تعادل إنتاج 200 طن من اليورانيوم، ونحو 3.5 مليون طن من الفحم.
- يُتوقَّع انخفاض تكاليف إنشائها وتشغيلها مقارنةً بالمفاعلات النووية التقليدية. نظراً إلى أن تصاميمها تتضمن أجزاءً ومعدات أقل تعقيداً.
- سهولة تقنيات التعدين والتكرير والتخصيب وانخفاض تكاليفها مقارنة باليورانيوم.
- معدلات أمان عالية، حيث تعمل الأملاح المنصهرة بدرجات ضغط منخفضة، مما يقلل خطر الانفجارات. والمفاعل مزود بسدادة ملحية تذوب في حال ارتفاع درجة الحرارة المفرطة. مما يسمح بتصريف الأملاح المنصهرة إلى حجرة مخصصة للتبريد ويمنع بالتالي حدوث الانصهار النووي دون الحاجة إلى أي تدخل خارجي.
- لا تحتاج مفاعلات الثوريوم إلى كميات ضخمة من المياه للتبريد لأن أملاح الفلوريد المنصهرة تستخدم لإذابة وقود الثوريوم ونقل المواد الانشطارية، وللتبريد في آنٍ واحد. ما يسمح بتوسيع إمكانية استخدام هذه المفاعلات في المناطق القاحلة والصحراوية.
- إنتاج نفايات أقل حجماً وأقصر عمراً من تلك الناتجة عن مفاعلات اليورانيوم.
- صعوبة الاستخدام العسكري، فالثوريوم لا ينتج بلوتونيوم بكميات يمكن استغلالها لصناعة الأسلحة النووية.
رئيس الفريق الصيني: «أميركا تركت أبحاثها متاحة بانتظار من يخلفها، ونحن الخليفة»
لماذا أهملت أميركا الثوريوم؟
رغم النتائج الإيجابية، فقد تم التخلي عن مشروع الثوريوم لسبب رئيسي هو الاعتبارات العسكرية.
فاليورانيوم كان ضرورياً لإنتاج الأسلحة النووية خلال الحرب الباردة. كما كان ضرورياً لتطوير المفاعلات المستخدمة في الغواصات وتوليد الكهرباء. ولذلك تم التركيز على الاستثمار المكثف في شبكات صناعية وبحثية ضخمة لتطوير تكنولوجيا اليورانيوم. وكذلك لتطوير شبكات التعدين والتكرير وسلاسل الإمداد.
إلا أن هذا التركيز أوجد مع الزمن اعتماداً غير مريح على روسيا لتوفير الوقود النووي المستخدم في المفاعلات المدنية، مما أدى إلى انكشاف استراتيجي خطير لأميركا بعد الحرب الباردة.
إقرأ أيضاً:
هل تنجح مجموعة السبع بوقف ارتهان توليد الكهرباء للوقود النووي الروسي
حظر «ملتبس» للوقود النووي الروسي يعكس التخوف على توليد الكهرباء النظيفة
تحديات استخدام الثوريوم
على الرغم من الخصائص التي يتمتع بها الثوريوم كوقود نووي، فهناك العديد من التحديات التي يفترض مواجهتها. من بينها تحدياتٍ تكنولوجية تتعلق ببناء مفاعلات بتكلفة متدنية، وأيضاً بمعالجة النفايات النووية المشعة التي تبقى مصدر خطر داهم رغم ضآلتها مقارنة بنفايات مفاعلات اليورانيوم.
يضاف إليها التحديات الاقتصادية المرتبطة بتوفير البنية التحتية اللازمة لتصنيع الوقود ومعالجته، وإنشاء سلسلة توريد موثوقة.
وكذلك التحديات التنظيمية ذات الصلة بتطوير إطار تنظيمي شامل لمفاعلات الثوريوم، لأن اللوائح التنظيمية الحالية صُممت لمفاعلات اليورانيوم. وقد تلجأ أميركا والدول الغربية إلى عرقلة تطوير إطار خاص بالثوريوم للحد من هيمنة الصين وتوفير مساحة كافية من الوقت لتعزيز القدرة على منافستها.
الجهود الدولية في مفاعلات الثوريوم
شهدت السنوات القليلة الماضية دخول العديد من الدول ميدان تطوير تكنولوجيا مفاعلات الثوريوم.
ورغم عدم توافر معلومات مؤكدة حول خطط وبرامج حكومية أميركية، إلا أن هناك العديد من الشركات الأميركية الناشطة في هذا المجال، ما قد يماثل تجربة المنافسة في ميدان الاندماج النووي الذي تقوده الشركات الأميركية وليس الحكومة.
من يتحكم «بالنواة» انشطاراً واندماجاً يتحكم بنظام الطاقة العالمي، وطاقة الشمس والرياح مكون بسيط في المزيج العام
ومن أبرز الشركات الأميركية العاملة في ميدان الثوريوم، شركة ThorCon التي وقعت اتفاقية مع شركة إندونيسية لدراسة تطوير وبناء مفاعل يعمل بالثوريوم.
وفي أوروبا، تعمل الشركة السويسرية Transmutex على تطوير تقنية مبتكرة تعتمد على جهاز مسرِّع للجسيمات الذرية بهدف توليد مصدر نيوتروني عالي الكثافة، لتحفيز تحويل الثوريوم إلى نظير اليورانيوم-233، وإنتاج الطاقة أثناء انشطاره.
كما تعمل شركة Thor Energy النرويجية على تطوير تقنيات جديدة للوقود النووي المعتمد على الثوريوم.
أما الهند فتبقى الدولة الأكثر نشاطاً بعد الصين، حيث تنفذ خطة طموحة لاستخدام الثوريوم، مستفيدة من امتلاكها لأكبر احتياطي من الثوريوم في العالم يبلغ نحو 850 ألف طن. ومع ذلك، فإن برنامج الهند الطموح في مجال الثوريوم يواجه تأخيرات مزمنة منذ سنوات بسبب تحديات فنية وتمويلية وإدارية، مما يجعل التقدم الصيني أكثر لفتاً للنظر على الساحة الدولية.
الأبعاد الجيوسياسية للسباق النووي المستجد
بعيداً عن الجوانب التقنية، يكتسب السباق نحو الثوريوم بعداً جيوسياسياً متزايد الخطورة.
ولا يقتصر الأمر على تعزيز النفوذ الطاقوي للصين فقط، بل يمتد إلى احتمال فرضها لمعايير تكنولوجية جديدة في قطاع الطاقة النووية المستقبلية. بما يشبه هيمنتها الحالية في أسواق الطاقة الشمسية والرياح.
الأهم، أن الصين لا تسعى فقط إلى تحقيق اكتفاء ذاتي. بل تطمح إلى تصدير تكنولوجيا مفاعلات الثوريوم لدول “الحزام والطريق”. مما يفتح أمامها أسواقاً طاقوية ضخمة في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية.
ولا شك أن تحقق مثل هذا السيناريو سيعني كما أشرنا في البداية تغييراً جوهرياً في موازين نظام الطاقة العالمي، يترك تداعيات مباشرة وكبيرة على الجغرافيا السياسية والتحالفات.
فهل تنجح الصين في تثبيت ريادتها الطاقوية عبر الثوريوم كما فعلت في مجالات أخرى. أم أن الولايات المتحدة والدول الغربية ستتمكن من استدراك الموقف في اللحظة الحاسمة؟