أميركا والخليج: من الحماية إلى الشراكة الاستراتيجية

زيارة الرئيس دونالد ترامب للسعودية والإمارات وقطر، قد تشكّل منعطفاً في الجغرافيا السياسية في المنطقة. فهي تأتي في لحظة مشبعة بالتوترات والتحولات في مجالات السياسة والاقتصاد والطاقة. فهل تؤسس لشراكة استراتيجية شاملة تشكّل تطويراً وربما بديلاً لما يُعرف بتوافق النفط مقابل الأمن، الذي أرساه لقاء الملك عبد العزيز والرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت عام 1945؟
وبهدف وضع الزيارة في سياقها الصحيح، تجدر الإشارة إلى أنها تأتي في ظل تشكّل نظام دولي جديد بعد انتهاء صلاحية نظام القطب الواحد الذي ساد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. والسبب أن ذلك النظام، الذي كان تتويجاً وترجمة للقوة الأميركية، بات عاملاً رئيسياً في إضعافها، وفي تقوية خصومها وحلفائها على حسابها. فالعولمة والخصخصة وحرية التجارة والاستثمار تحوّلت إلى عناصر قوة للصين. وحفظ الأمن العالمي وأمن الحلفاء من خلال الإنفاق العسكري الضخم، بات عنصر قوة لأوروبا واليابان وكندا الخ.. واستنزافاً للموارد المالية الأميركية.
نموذج أميركي جديد للعولمة
وعليه، فإن شعارات «أميركا أولاً» و«الأمركة بدل العولمة» والحروب التجارية والرسوم الجمركية، ليست نزوات رئاسية، بل هي سياسات وتوجهات راسخة من قبل «الدولة العميقة». ويمكن القول إنه تم انتخاب الرئيس دونالد ترامب في المرة الأولى لإطلاق هذه الشعارات، وأُعيد انتخابه لتطبيقها. وهذه المقاربة المستجدة لا يصح اعتبارها مظاهر ضعف و«بداية نهاية أميركا» كما يُقال، بقدر ما هي إعادة تصويب للعلاقة مع الحلفاء لتنتقل من الرعاية والحماية إلى الشراكة الاستراتيجية على قاعدة المصالح المتبادلة. وكذلك العلاقة مع الخصوم، وتحديداً الصين، لنقلها من أوهام الاحتواء ومغامرات الصدام إلى ميادين المنافسة على كل المستويات.
ويصح اعتبار ما يجري اليوم هو بلورة نموذج أميركي جديد للعولمة يضع الأمن القومي في صلب العلاقات الاقتصادية. ويتجلى ذلك في إعادة التفاوض على الاتفاقيات التجارية وفرض قيود تكنولوجية وتجارية على الصين وعلى الحلفاء. إلى جانب دعم التصنيع المحلي من خلال قوانين مثل “الرقائق” و”خفض التضخم”. كما تقوم هذه النسخة على تشبيك مصالح حقيقية على المستويين السياسي والاقتصادي. بحيث يصبح تدفق الاستثمارات والمبادلات التجارية والمعارف والخبرات التكنولوجية والتصنيع وسلاسل الإمداد عبارة عن «رحلات منتظمة ذهاباً وإياباً» وليس باتجاه واحد، كما كان عليه الحال خلال العقود الماضية.
وهذه المقاربة تُعتبر متقدمة على المقاربة الصينية التي قامت على إنشاء مشاريع ضخمة للبنية الأساسية على طول «الحزام والطريق». ولكن بدون إقامة شراكات حقيقية مع الدول المضيفة. وكانت غالبية تلك المشاريع تُنفذ وتُموّل وتُدار بأيدٍ صينية. وللدلالة على عمق وثبات التوجه الأميركي الجديد، نشير إلى المبادرة التي أطلقتها مجموعة الدول السبع بقيادة أميركا باسم إعادة بناء عالم أفضل (B3W) لتطوير مشاريع البنية التحتية في الدول النامية، والتي أطلقت لتشكل بديلاً ومنافساً لمبادرة الحزام والطريق الصينية.
من الاستثمارات والطاقة والتكنولوجيا…
انطلاقاً من هذه المعطيات، يمكن فهم وتحليل أبعاد زيارة ترامب إلى المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات وقطر. وكذلك فهم طبيعة الوفد الكبير المرافق، وكذلك إلى التحضيرات غير المسبوقة للزيارة لإعداد اتفاقيات التعاون ومذكرات التفاهم على كافة المستويات. كما يمكن الاستناد إلى هذه المعطيات لتبيان تهافت وسطحية التحليلات التي تحصر الزيارة بصفقات بيع السلاح والحصول على التزامات بضخ مئات مليارات الدولارات السعودية والخليجية في الاقتصاد الأميركي.
ومع التأكيد على أهمية الاتفاقيات التي سيتم توقيعها خلال الزيارة، لكن الأهم هو مسار تطور العلاقات، خاصة على مستويات الاستثمارات المشتركة والطاقة والتكنولوجيا المتقدمة.
ويُتوقع أن تكون الطاقة أحد أبرز محاور الزيارة والمباحثات والاتفاقيات، وسط تقاطعات تبدأ بالنفط والغاز وضمان استقرار الإمدادات والأسعار، ولا تنتهي بالطاقة النووية. إذ يُنتظر أن تشهد المرحلة المقبلة تعاوناً جدياً في بناء «برنامج نووي سعودي للأغراض المدنية»، وهو ما لم تُبدِ واشنطن حماسة له في العقود الماضية. خصوصاً بعد إعلان السعودية اكتشافات احتياطي كبير من اليورانيوم، في سياق خططها التعدينية المرتبطة برؤية 2030. وربما يشمل ذلك طاقة الاندماج النووي التي تشهد تنافساً حاداً بين أميركا والصين.
… إلى السياسة والاستقرار الإقليمي
يدرك الرئيس ترامب أن الاستقرار السياسي هو الشرط الأول والأخير لنجاح مشاريع التعاون الاقتصادي والشراكة الاستراتيجية. بما يسهم في لترسيخ الحضور الأميركي في المنطقة، ومنع تمدد الصين فيها. ولذلك يُرجّح أن تؤسس الزيارة لتعزيز الدور السعودي في تأمين الاستقرار بالتعاون مع بقية دول الخليج ومصر. كما يدرك الرئيس الأميركي أن ذلك يتوقف على مسألتين: الأولى، وقف التدخلات الإيرانية في دول المنطقة. والثانية، إيجاد حل نهائي للقضية الفلسطينية.
ويرى المراقبون أن المرحلة المقبلة قد تشهد تطورات دراماتيكية في هذين المجالين. ويستندون في ذلك إلى النجاح في ضرب الأصولية السنية ممثلة في تنظيم داعش وغيره من التنظيمات المتطرفة، وحركة حماس. إضافة إلى النجاح في تقليص وضرب الأصولية الشيعية ممثلة بالأذرع الإيرانية، من حزب الله إلى الحشد الشعبي العراقي والحوثيين. ويبقى على أميركا أن تضرب الأصولية اليهودية ممثلة باليمين المتطرف بقيادة نتانياهو، ما يؤدي إلى سيادة منطق الاعتدال في المنطقة. الأمر الذي يسهم بالتالي في تمهيد الطريق لإقامة الدولة الفلسطينية الموعودة، وإحلال الاستقرار وفقاً لمبادرة السلام العربية في قمة بيروت.